إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن قيم الجوزية
لقد أغاث الله عباده المخطئين بسرعة التطليق بأن أخر قوع الطلاق جبرا والتلفظ به قهرا وخبأه بعد فرض الاعتداد اولا بعدة إحصاء جعلها الباري حائلا فولازيا منيعا بين المرأة وبين تلفظ زوجها بالطلاق يعني من اراد ان ينطق بالطلاق قد ألجم الله لسانه تكليفا وجبرا فلا يمكنه التلفظ الفاعل الا بعد انقضاء عدة بينه وبين طلاقه وحالت هذه العدة بين الزوجة وتلفظ زوجها قهرا وجبرا وتكليفا ومن فعل غير ذلك فهو في حكم من لم يطلق
ابتداءا اقول المدون لقد نسخت أحكام سورة الطلاق5هـ كل أعذار المطلقين علي تشريع سورة البقرة2هـ السابق علي تنزيلها راجع مدون الطلاق للعدة ومدونة النخبة في شرعة الطلاق وكل ما يأتي هو حوار فقهي تركه قطار الزمن منسوخا جُلَّه بنزول سورة الطلاق5هـ وإنما أوردته هنا لأن ابن القيم ولانني علي ترجيحي بشدة أنه لو كان حيا بيننا الان لعدل عن احكام طلاق سورة البقرة2هـ الي أحكام طلاق سورة الطلاق5هـ لمجرد تنبيهه بأن فرق السورتين مختفيا في حرف واحد هو لام البعد او اللام بمعني بعد في الاية الاولي من سورة الطلاق راجا ما كتب هناك
كل
بسم الله الرحمن الرحيم
وندخل في الحوار الذي تم نسخه قبل ان يبدأ
قال ابن القيم
الحمد لله الحكيم الكريم العلي العظيم السميع العليم الرءوف الرحيم، الذي أسبغ على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما هو أشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها.[قلت المدون:لم يدرك ابن القيم أن رحمة الله لعباده هي أحسن الراحمات وأنه أرحم الراحمين فتصور أن الله يعذر الغضبان دون أن يتصور ان عند الله رحمة تناسب قدرته وعظمة جلاله لو فقط تمعن بدقة في اول اية من سورة الطلاق وتفكر عميقا في لفظ لــــ عدتهن فاللام هنا تعني بعد عدتهن]وشتان بين زوج غاضب هائج يدفع بيته في اتون نار الدمار والخراب بكلمة واحدة هي انها طالق وبين ان يحول الله بينه وبين كلمته جبرا بمسافة زمنية لا تقل عن مقدر 3 حيضات او 3 أشهر او بمسافة أطول هي 9 أشهر في حالة الحمل فتلك هي رحمة الله التي لم يدرك ابن القيم الابعاد الالهية الثلاثة لهيكلها بعد ان حرز الله لفظ التطليق ورماه في آخر العدةوبعد انقضائها ...هذه مقدمة محدودة والتفصيل في مدون
النخبة والطلاق للعدة
ثم قال ابن القيم :وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وأرحم الراحمين الذي تعرف إلى خلقه بصفاته وأسمائه وتحبب إليهم بإحسانه وآلائه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختم به النبيين وأرسله رحمة للعالمين وبعثه بالحنيفية السمحة والدين المهيمن على كل دين فوضع به الآصار والأغلال وأغنى بشريعته عن طرق المكر والاحتيال وفتح لمن اعتصم بها طريقا واضحا ومنهجا وجعل لمن تمسك بها من كل ما ضاق عليه فرجا ومخرجا فعند رسول الله السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة فما جاءه مكروب إلا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لهفته فما فرق بين زوجين إلا عن وطر واختيار ولا شتت شمل محبين إلا عن إرادة منهما وإيثار ولم يخرب ديار المحبين بغلط اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الإنسان، بل رفع المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده، بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنسيان أو الإكراه والسبق على طريق الاتفاق. فقال فيما رواه عنه أهل السنن من حديث عائشة أم المؤمنين: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في صحيحه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال أبو داود: «في غلاق» ثم قال: والغلاق أظنه الغضب. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: هو الغضب، ذكره الخلال [و] أبو بكر عبد العزيز ولفظ أحمد: يعني الغضب. قال أبو بكر سالت أبا محمد وابن دريد وأبا عبد الله وأبا طاهر النحويين عن قوله: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» قالوا: يريد الإكراه لأنه إذا أُكره انغلق عليه رأيه ويدخل في هذا المعنى المبرسم والمجنون، فقلت لبعضهم: والغضب أيضا؟ فقال: ويدخل فيه الغضب لأن الإغلاق أحدهما الإكراه والآخر ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه. وهذا مقتضى تبويب البخاري فإنه قال في صحيحه: باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون، يفرق بين الطلاق في الإغلاق وبين هذه الوجوه. وهو أيضا مقتضى كلام الشافعي فإنه يسمي نذر اللجاج والغضب يمين الغلق ونذر الغلق، هذا اللفظ يريد به نذر الغضب. وهو قوله غير واحد من أئمة اللغة والقول بموجبه وهو مقتضى الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء ومقتضى القياس الصحيح والاعتبار وأصول الشريعة.
أما الكتاب فمن وجوه:
أحدها قوله تعالى: {لا يؤاخذهم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}
قال ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن وكيع حدثنا مالك بن إسماعيل عن خالد عن عطاء بن رستم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا أبو حمزة عن عطاء عن طاووس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها لقوله {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
وهذا أحد الأقوال في مذهب مالك أن لغو اليمين هو اليمين في الغضب، وهذا اختيار أجل المالكية وأفضلهم على الإطلاق وهو القاضي إسماعيل بن إسحق فإنه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه.
ولا تنافي بين هذا القول وبين قول ابن عباس وعائشة إن لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله، وقول عائشة وغيرها أيضا إنه يمين الرجل على الشيء يعتقده كما حلف عليه فيتبين بخلافه؛ فإن الجميع من لغو اليمين. والذي فسر لغو اليمين بأنها يمين الغضب يقول بان النوعين الآخرين من اللغو. وهذا هو الصحيح فإن الله سبحانه جعل لغو اليمين مقابلا لكسب القلب ومعلوم أن الغضبان والحالف على الشيء يظنه كما حلف عليه والقائل: لا والله وبلى والله من غير عقد اليمين لم يكسب قلبه عقد اليمين ولا قصدها، والله سبحانه قد رفع المؤاخذة بلفظ جرى على اللسان لم يكسبه القلب ولا يقصده، فلا تجوز المؤاخذة بما رفع الله المؤاحذة به بل قد يقال: لغو الغضبان أظهر من لغو القسمين الآخرين لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فصل
الوجه الثاني من دلالة الكتاب: قوله سبحانه {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: "اللهم لا تبارك فيه والعنه" فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
انتهض الغضب مانعا من انعقاد سبب الدعاء الذي تاثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها فإن الله سبحانه يجيب دعاء الصبي والسفيه والمبرسم ومن لا يصح طلاقه ولا عقوده. فإذا كان الغضب قد منع كون الدعاء سببا لأن الغضبان لم يقصده بقلبه فإن عاقلا لا يختار إهلاك نفسه وأهله وذهاب ماله وقطع يده ورجله وغير ذلك بما يدعو به، فاقتضت رحمة العزيز العليم أن لا يؤاخذه بذلك ولا يجيب دعاءه لأنه عن غير قصد منه، بل الحامل له عليه الغضب الذي هو من الشيطان.
فإن قيل: إن هذا ينتقض عليكم بالحديث الذي رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تدعوا على أولادكم ولا على أموالكم ولا تدعوا على خدمكم لا توافقوا من الله ساعة لا يسأل فيها شيئا إلا أعطاه».
قيل: لا تنافي بين الآية والحديث. فإن الآية اقتضت الفرق بين دعاء المختار ودعاء الغضبان الذي لا يختار ما دعا به. والحديث دل على أن لله سبحانه أوقاتا لا يرد فيها داعيا ولا يسأل فيها شيئا إلا أعطاه. فنهى الأمة أن يدعوا أحدهم على نفسه أو أهله أو ماله خشية أن يوافق تلك الساعة فيجاب له. ولا ريب أن الدعاء بالشر كثيرا ما يجلب الدعاء بالخير، والإنسان يدعو على غيره ظلما وعدوانا مع ذلك فقد يستجاب له لكن إجابة دعاء الخير من صفة الرحمة وإجابة ضده من صفة الغضب؛ والرحمة تغلب الغضب. والمقصود أن الغضب مؤثر في عدم انعقاد السبب في الجملة. ومن هذا قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} وهو الرجل يدعو على نفسه وأهله بالشر في حال الغضب.
فصل
الوجه الثالث قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
ووجه الاستدلال بالآية أن موسى صلوات الله عليه لم يكن ليلقي ألواحا كتبها الله تعالى فيها كلامه من على رأسه الى الأرض فيكسرها اختيارا منه لذلك، ولا كان فيه مصلحة لبني إسرائيل، ولذلك جره بلحيته ورأسه وهو أخوه وإنما حمله على ذلك الغضب، فعذره الله سبحانه به ولم يعتب عليه بما فعل إذ كان مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره. فالمتولد عنه غير منسوب الى اختياره ورضاه به. يوضحه:
الوجه الرابع وهو قوله {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} فعدل سبحانه عن قوله سكن إلى قوله "سكت" تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي الذي يقول لصاحبه: افعل، لا تفعل، فهو مستجيب لداعي الغضب الناطق فيه المتكلم على لسانه، فهو أولى بأن يعذر من المكره الذي لم يتسلط عليه غضب يأمره وينهاه كما سيأتي تقريره بعد هذا إن شاء الله. وإذا كان الغضب هو الناطق على لسانه الأمر الناهي له لم يكن ما جرى على لسانه في هذا الحال منسوبا الى اختياره ورضاه فلا يتم عليه أثره.
الوجه الخامس قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} في ثلاثة مواضع من القرآن. وما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق أو شتم ونحوه هو من نزغات الشيطان، فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارا لقوله. فإذا سُريَ عنه علم أن ذلك من إلقاء الشيطان على لسانه مما لم يكن برضاه واختياره.
والغضب من الشيطان وأثره منه كما في الصحيح أن رجلين استبا عند النبي حتى احمر وجه أحدهما وانتفخت أوداجه فقال النبي ﷺ: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وفي السنن أن النبي ﷺ قال: «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وإذا كان هذا السبب وأثره من إلجاء الشيطان لم يكن من اختيار العبد فلا يترتب عليه حكمه.
فصل
فأما دلالة السنة فمن وجوه.
أحدها حديث عائشة المتقدم وهو قوله: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق».
وقد اختلف في الإغلاق فقال أهل الحجاز: هو الإكراه. وقال أهل العراق: هو الغضب، وقالت طائفة: هو جمع الثلاث بكلمة واحدة. حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب مطالع الأنوار. وكأن الذي فسره بجمع الثلاث أخذه من التغليق وهو أن المطلق غلق طلاقه كما يغلق صاحب الدين ما عليه، وهو من غلق الباب فكأنه أغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه الثلاث، فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه إياه رحمة به إنما ملكه طلاقا يملك فيه الرجعة بعد الدخول وحجر عليه في وقته ووضعه وقدره فلم يملكه إياه في وقت الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه ولم يملكه أن يبينها بغير عوض بعد الدخول فيكون قد غير صفة الكلام. وهذا عند الجمهور فلو قال لها: أنت طالق طلقة لا رجعة لي فيها أو طلقة بائنة، لغا ذلك وثبتت له الرجعة وكذلك لم يملكه جمع الثلاث في مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا. وكان ذلك من حجة من لم يوقع الطلاق المحرم ولا الثلاث بكلمة واحدة لأنه طلاق محجور على صاحبه شرعا، وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود المالية فهذه حجة من أكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقع الطلاق المحجور على المطلق فيه.
والمقصود هاهنا أن هؤلاء فسروا الإغلاق بجمع الثلاث لكونه أغلق على نفسه باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه إلا في المرة الثالثة
وأما الآخرون فقالوا: الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب وهو إرتاجه وإطباقه فالأمر المغلق ضد الأمر المنفرج والذي أغلق عليه الأمر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره الذي أكره على أمر إن لم يفعله وإلا حصل له من الضرر ما أكره عليه قد أغلق عليه باب القصد والإرادة لما أكره عليه، فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له فلم يكن قلبه منفتحا لإرادة القول والفعل الذي أكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق الإرادة والاختيار بحيث إن شاء طلق وإن شاء لم يطلق وإن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم بل أغلق عليه باب الإرادة إلا للذي قد أكره عليه. ولهذا قال النبي ﷺ: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له» فبين النبي ﷺ أن الله لا يفعل إلا إذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه، فإنه لا يقال يفعل ما يشاء إلا إذا كان مطلق الدواعي وهو المختار. وأما من أُلزم بفعل معين فلا. ولهذا يقال المكره غير مختار ويجعل قسيم المختار لا قسما منه ومن سماه مختارا فإنه يعني أن له إرادة واختيارا بالقصد الثاني فإنه يريد الخلاص من الشر ولا خلاص له إلا بفعل ما أكره عليه فصار مريدا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من أعظم الإغلاق وهو في هذا الحال بمنزلة المبرسم والمجنون والسكران بل أسوأ حالا من السكران لأن السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علو والغضبان يفعل ذلك، وهذا لا يتوجه فيه نزاع أنه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعا.
وحينئذ فنقول الغضب ثلاثة أقسام:
أحدها أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه ويعلم ما يقول وما يقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره.
القسم الثاني أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة فلا يعلم ما يقول ولا يريده، فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما تقدم. والغضب غول العقل فإذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة فإن أقوال المكلف إنما مع علم القائل بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها. فالأول يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان. والثاني يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه البتة فإنه لا يلزم مقتضاه. والثالث يخرج من تكلم به مكرها وإن كان عالما بمعناه.
القسم الثالث من توسط في الغضب بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته إلى أخره بحيث صار كالمجنون؛ فهذا موضع الخلاف ومحل النظر. والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه.
وأما دلالة السنة فمن وجوه:
أحدها حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته.
الثاني ما رواه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين». وهو حديث صحيح وله طرق. وجه الاستدلال به أنه ﷺ ألغى وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في حال بالغضب مع أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور وأمر النبي ﷺ الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره. وقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعمه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه». فإذا كان النذر الذي أثنى الله من أوفى به وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة قد أثَّرَ الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده وإنما حمله على بيانه الغضب، فالطلاق بطريق الأولى والأحرى.
فإن قيل: فكيف رتب عليه كفارة اليمين؟ قيل: ترتب الكفارة عليه لا يدل على ترتب موجبه ومقتضاه عليه، والكفارة لا تستلزم التكليف، ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدا أو غيره وتجب على قاتل الصيد ناسيا أو مخطئا وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند الأكثرين. فلا يلزم من ترتب الكفارة اعتبار كلام الغضبان وهذا هو الذي يسميه الشافعي نذر الغلق ومنصوصه عدم وجوب الوفاء به إذا حلف به بل يخير بينه وبين الكفارة. وحكى له قول آخر بتعين الكفارة عينا وقول آخر بعين الوفاء به إذا حنث كما يلزمه الطلاق والعتاق وهذا قول مالك وأشهر الروايتين عن أبي حنيفة.
الثالث: ما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب. وقد اختلف الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضبه على ثلاثة أقوال سنذكرها بعد إن شاء الله.
فصل
وأما آثار الصحابة فمن وجوه.
أحدها ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: الطلاق عن وطر والعتق ما ينبغي به وجه الله. فحصر الطلاق فيما كان عن وطر وهو الغرض المقصود، والغضبان لا وطر له. وهذا في الطلاق عن ابن عباس نظير قوله وقول أصحابه لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
الوجه الثاني أن الزهري روى عن أبان بن عثمان عن عثمان أنه رد طلاق السكران. ولا يعرف له مخالف من الصحابة. وهذا هو الصحيح وهو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرا. قال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا وأنا أتقي جميعها. وقال في رواية عبد الله الميموني: قد كنت أقول إن طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي أنه لا يجوز طلاقه لأن لو أقَرَّ لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه. قال: وألزمه الجناية وما كان من غير ذلك فلا يلزمه. قال أبو بكر: وبهذا أقول. وقال في رواية أبي الحرث: أرفع شيء في حديث الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان: ليس لمجنون ولا سكران طلاق. وهو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي وإمام الحرمين وشيخ الإسلام ابن تيمية وأحد قولي الشافعي.
وإذا كان هؤلاء لا يوقعون طلاق السكران لأنه غير قاصد للطلاق فمعلوم أن الغضبان كثيرا ما يكون أسوأ حالا من السكران. والسكر نوعان: سكر طرب وسكر غضب، وقد يكون هذا أشد وقد يكون الآخر أشد فإذا اشتد به الغضب حتى صار كالسكران كان أولى بعدم وقوع الطلاق منه لأنه يعذر ما لا يعذر السكران ويبلغ به الغضب أشد ما يبلغ به السكران كما يشاهد من حال السكران الغضبان.
فصل
وأما الاعتبار وأصول الشريعة فمن وجوه:
الأول أن المؤاخدة إنما ترتبت على الأقوال لكونها أدلة على ما في القلب من كسبه وإرداته، كما قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فجعل سبب المؤاخذة كسب القلب، وكسبه هو إرادته وقصده؛ ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار بل لشدة غضب وسكر أو غير ذلك لم يكن من كسب قلبه. ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الإياس منها فلما وجدها أخطأ من شدة الفرح وقال: "اللهم أنت عبدي وانا ربك" فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القران على لسان القارئ.
ولكن قد يقال هذا قصد الصواب فأخطأ فلم يؤاخذ إذا كان قصده ضد ما تكلم به، بخلاف الغضبان إذا طلق فإنه قاصد للطلاق؟ قيل: لا كلام في الغضبان العالم بما يقول القاصد المختار لحكمه دفعا لمكروه البقاء مع الزوجة، وإنما الكلام في الذي اشتد غضبه حتى ألجأه الشيطان إلى التكلم بما لم يكن مختارا للتكلم به كما يلجئه إلى فعل ما لم يكن لولا الغضب يفعله. يوضحه:
الوجه الثاني وهو أن الإرادة فيه هو محمول عليها ملجأ إليه كالمكره؛ بل المكره أحسن حالا منه فإن له قصدا وإرادة حقيقة لكن هو محمول عليه وهذا ليس له قصد في الحقيقة. فإذا لم يقع طلاق المكره فطلاق هذا أولى بعدم الوقوع. يوضحه:
الوجه الثالث وهو أن الأمر الحامل المكره على التكلم بالطلاق يشبه الحامل للغضبان على التكلم به. فإن المتكلم مكرها إنما يقصد الاستراحة من توقع ما أكره به إن لم يباشر به أو من حصوله إن كان قد باشره بشيء منه فيتكلم بالطلاق قاصدا لراحته من ألم ما أكره به. وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك وكذلك يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويشق ثيابه ويلقي ما في يده دفعا لألم الغضب وإلقاءً لحِمله منه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه، فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء وهو غير طالب لذلك في الحقيقة. فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها. ولهذا يأمر الملوكُ وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم أنهم تكلموا بها دفعا لحرارة الغضب وأنهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم. وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك، كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة.
الوجه الرابع: أن العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده بل هو أكره شيء إليه وهو كما قال النبي ﷺ: «جمرة في قلب ابن ادم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه». والعاقل لا يقصد إلقاء الجمرة في قلبه، فهو ناشئ فيه بغير اختياره. وإذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك أيضا مضافا إلى اختياره وإرادته. وهذا كما أن إرادة السبب إرادة للمسبب فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب. يوضحه:
الوجه الخامس وهو أنك تقول للغضبان إذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن يفعله أو تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب: هل أردت ذلك أو قصدته؟ فيحلف أنه ما أراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف أنه وقع بغير اختيار، ولا تنكر هذا، فإنك تجده من نفسك.
وتحقيق الأمر أن له فيه إرادة هو محمول عليها، حمله عليها الغضب، فهي كإرادة المكره، بل المكره أدخل في الإرادة كما تقدم وهذا يدل على أن الغضبان أولى بعدم الوقوع من المكره. يوضحه:
الوجه السادس وهو أن الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان، لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه. وقهر الإكراه يبطل حكم الأقوال التي أكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الأفعال، فإنه يُقتل إذا قَتل ويضمن إذا تلف، فكذلك قهر الغضب يبطل حكم أقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتلف شيئا ضمنه؛ هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة. فأما من هو مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت امرأته فغضب فطلقها لأنه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع طلاقه، فتأمل هذا الفرق فإنه حرف المسألة ونكتتها. وهذا بخلاف من خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق، ولكن حمله الغضب على أن شفى نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها وإطفأء لنار غضبه. يوضحه:
الوجه السابع وهو أن الغضبان يفعل أمورا من شق الثياب وإتلاف المال وغير ذلك مما لو أكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت أقواله، فإذا فعل هو هذه الأمور علم أن الذي ألجأه إليها أعظم من الإكراه، فإن المكره لو أكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها. فعُلم أن المقتضي لفعلها فيه أولى من اقتضاء الإكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك وهذا واضح جدا.
فإن قيل: المكره إذا تكلم بما أكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره؛ قيل: لا ريب أنهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك أن يكون الغضبان مختارا مريدا لما قاله أو فعله بك أكره شيء إليه وهذا أمر لا يمكن دفعه.
فإن قيل: فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير أن يتوصل به إلى ما هو احب إليه منه؟ قيل: لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قلما يتمكن منه الا اغتال عقله: فقصد إزالة الغضب وإطفاء ناره، وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما غاب عنه عقله قصد إزالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من البلاء، ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به، فهو قصد أن يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الأقوال والأفعال، وإن لم يدفع ذلك عنه بجملته تلك الشدة فإنها تخفف وتضعف. فاقتضت رحمة الشارع به أن ألغي أقواله في هذه الحال إن تمكن أن لا يترتب عليها أثرها وتكون كأقوال المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما. وأما الأفعال فلا يمكن إلغاء أثرها فرتب عليه موجب فعله.
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو حلف في هذه الحال أن لا تنعقد يمينه؛ قيل: قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لا يرتاب في إمامته وجلالته وكان يقرن بالأئمة الكبار إسماعيل بن إسحاق القاضي.
فإن قيل: لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والأئمة الاربعة اعتبار نذر اللجاج والغضب وإن تنازعوا في موجبه فأوجب مالك وأهل العراق الوفاء به كنذر التبرر. وخيَّر الليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل بين فعله وبين كفارة اليمين ولم يقل أحد منهم: إنه لا ينعقد وإنه لغو. وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الأيمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون يمين الرضا؛ قيل: نعم هذا حق، ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض أو المنع كانت الكفارة رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فإنهما إتلاف محض لملك البضع والرقبة ولا كفارة فيهما، فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة ولا غيرها، وكما أنه يفرق في الإكراه بين نوع ونوع فالإكراه يبيح الأقوال عندنا وعند الجمهور، وكل قول أكره عليه بغير حق فإنه باطل. وأبو حنيفة يفرق بين نوع ونوع.
والإكراه على الأفعال ثلاثة أنواع. نوع لا يباح بالإكراه كقتل المعصوم وإتلاف أطرافه. ونوع يبيحه الإكراه بشرط الضمان كإتلاف مال المعصوم. ونوع مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة؛ وفيه روايتان عن الإمام أحمد. فما أمكن تلافيه أبيح بالإكراه كالأقوال والأموال وما كان ضرره كضرر الإكراه لم يبح به كالقتل فإنه ليس قتل المعصوم بحياة المكره أولى من العكس.
وأما الأفعال فالقرآن يدل على رفع الإثم فيها. كقوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الوجه الثامن أن النبي ﷺ شرع للغضبان أن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وأن يتوضأ وأن يتحول عن حالته، فإن كان قائما فليقعد وإذا كان قاعدا فليضطجع. قال: «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وهذا يدل على أنه محمول عليه من غيره وأن الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به. وما يضاف إلى الشيطان مما يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الإنسان كالوسوسة والنسيان كما قال فتى موسى لموسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فالله تعالى لا يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان إذ هما من أثر فعل الشيطان في القلب. وقد أخبر النبي ﷺ أن الغضب من الشيطان. فيكون أثره مضافا إليه أيضا فلا يؤاخذ به العبد كأثر النسيان. فإنه لو حلف أن لا يتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وإرادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وإن كان قاصدا للكلام فإنه لم يقع منه إلا بقصده وإرادته. وهذه حال الغضبان فإنه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه، بل قصد الناسي للتكلم أظهر من قصد الغضبان. ولهذا يقول الناسي: قصدت أن أقول كذا وكذا والغضبان يحلف أنه لم يقصد.
الوجه التاسع: إن القصود في العقود معتبرة في عقدها كلها. والغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده وإتلاف ماله، فإنه يفعل في الغضب هذا ويقول هذا. فإذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح طلاقه.
فإن قيل: هذا ينقص عليكم بالهازل فإنه يصح طلاقه وإن لم يكن له فيه قصد؛ قيل: الفرق بينهما أن الهازل قصد التكلم باللفظ وأراده رضًا واختيارا منه، لم يُحمل على التلفظ به، وغايته أن لم يُرد حكمه وموجبه. وذلك إلى الشارع ليس إليه. فالسبب الذي إليه قد أتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه، والسبب إلى المشرع ليس إليه فلا يصح اعتبار أحدهما بالآخر. وكيف يقاس الغضبان على المتخذ آيات الله هزؤا. وهذا من أفسد القياس.
الوجه العاشر أن الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء، فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان. فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه. وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول. وأما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه؛ فهو متردد بين هذا وهذا وهذا، ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره، فإن كان عاقلا لايختار هذا إلا ليدفع به ما هو أكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه. فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك. وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه. فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق، وأيهما كان فإنه لا ينفذ طلاقه.
فإن قيل: الفرق بينهما أن المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وإن ملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه، وأما الغضبان فإنه يملك نفسه كما قال النبي: «ليس الشديد بالصرعة ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»؛ قيل: من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه، فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك. وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه. وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه؛ فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته كما قال القائل:
يا عاذلي والأمر في يده ** هلا عذلت وفي يدي الأمر
وهكذا السكران، سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا أتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر. فإذا كان السكر الذي هو مفرِّط بتعاطي أسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبه إذا طلق في هذه الحال مع كونه غير معذور في تعاطي سببه فلأن يعذر سكران الغضب الذي لم يفرِّط -مع شدة سكره على سكر الخمر- أولى وأحرى.
الوجه الحادي عشر وهو أن من الناس من إذا لم ينفذ غضبه قتله غضبه ومات أو مرض أو أغشي عليه. كما يذكر عن بعض العرب أن رجلا سبه فأراد أن يرد على الساب فأمسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن أن غضبه قد سكن فقال: قتلتني رددت غضبي في جوفي، ومات من ساعته. فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يعذر بذلك كالسكران. وأما إذا نفذ بقول فإنه يمكن إهدار قوله وأن لا يترتب أثره عليه كما أهدر الله سبحانه دعاءه ولم يرتب أثره عليه ولم يستجبه له. ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وإنما يجلد به إذا أتى به اختيارا وقصدا لقذفه. وهو قول قوي جدا. ويدل عليه أن الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله: هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك؛ ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقه بأن القدف حق لآدمي وانتهاك لعرضه أو قدحه في نفسه فيجري مجرى إتلاف نفسه وماله، فلا يعذر فيه بالغضب لا سيما ولو عذر فيه بذلك لأمكن كل قاذف أن يقول في حال الغضب فيسقط الحد، بخلاف الطلاق فإنه يمكن أن يُدَيَّن فيما بينه وبين الله. والحق لا يعدوه.
والمقصود أنه إذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها. فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة أن لا يؤاخذ بها ويلزم بموجبها، وهو لم يلزمه.
الوجه الثاني عشر أن قاعدة الشريعة أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاءً. وهذا كعارض النسيان والخطأ والإكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول. ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد القصد والإرادة ووجود الحامل على القول. ولهذا كان الصحابة يسأل أحدهم الناذر: في رضا قلت ذلك أم في غضب؟ فإن كان في غضب أمره بكفارة يمين لأنهم استدلوا بالغضب على أن مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما جعله النبي ﷺ مانعا من صحة إقراره لمّا أمر باستنكاه من أقر بين يديه بالزنا. وجعله مانعا من تكفير من قال له ولأصحابه: هل أنتم الا عبيد لأبي. وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه وأهله. وجعل سبحانه الإكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل. وعارض الغضب قد يكون أقوى من كثير من هذه العوارض. فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك إن لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دونهم. يوضحه:
الوجه الثالث عشر أن الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور:
أحداها أن يبلغه عن امرأته أمر يشتد غضبه لأجله ويظن أنه حق فيطلقها لأجله ثم يتبين أنها بريئة منه. فهذا في وقوع الطلاق به وجهان أصحهما أنه لا يقع طلاقه لإنه إنما طلقها لهذا السبب والعلة، والسبب كالشرط فكأنه قال إن كانت فعلت ذلك فهي طالق فإذا لم تفعله لم يوجد الشرط. وقد ذكر المسألة بعينها أبو الوفاء بن عقيل وذكر الشريف ابن أبي موسى في إرشاده فيما إذا قال أنت طالق أنْ دخلت الدار، بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين أنها لم تدخل، لم تطلق. ولا يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما إذا لم يصرح به فإن هذا لا تأثير له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فإذا انتفت العلة تبينا أنه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها، سواء صرح بالعلة أو لم يصرح بها. وغاية الأمر أن تكون العلة بمنزلة الشرط، وهو لو قال: أنت طالق، وقال أردت إن فعلت كذا وكذا، دُين فيما بينه وبين الله تعالى. وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد فيما إذا كاتب عبده على عوض فأداه إليه فقال: أنت حر، ثم تبين أن العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه بالحرية. فالطلاق أولى بعدم الوقوع في هذه الصورة.
الصورة الثانية أن يكون قد غضب عليها لأمر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك. فهذا يقع طلاقه إذ لو يقع هذا الطلاق لم يقع أكثر الطلاق فإنه غالبا يقع مع الرضا.
الصورة الثالثة: أن لا يقصد أمرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغيّر عقله ومنعه كمال التصور والقصد، فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا. فهذا لا يقع به الطلاق أيضا كما لا يقع بالمبرسم والمجنون. يوضحه:
الوجه الرابع عشر أن المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر أحدهم بما قاله ويستحي منه، وكذلك السكران. ولهذا لم يشترط أكثر الفقهاء في كونه سكران أن يعدم تمييزه بالكلية بل قد قال الإمام أحمد وغيره إنه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره. والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فإن النبي ﷺ أمر أن يستنكه من أقر بالزنا مع أنه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة، ومع هذا فجوز النبي ﷺ أن يكون به سُكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه.
والمقصود أن هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصد صحيح فإن ما عرض لهم أوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق أحدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور أحدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف القصد. والغضبان في حال غضبه قد يكون أسوأ حالا من هؤلاء وأشبه بالمجانين، ولهذا يقول ويفعل ما لا يقوله المجنون ولا يفعله.
فإن قيل: فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون؟ قيل: لا، والفرق بينهما أن هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن أحيانا نادرا ثم يفيق فإنه لا يحجر عليه. نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول الصادر عن المجنون في عدم ترتب أثره عليه ولا ريب أنه قد يحصل للغضبان إغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل تكليفه حال الإغماء حتى أن بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحالة إلحاقا بالمجنون، كما يقوله الشافعي. وأحمد يوجب عليه القضاء إلحاقا له بالنائم. وأبو حنيفة يفرق بين الطويل الزائد على اليوم والليلة فيلحقه بالمجنون، وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم.
وقد ينكر كثير من الناس أن الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه إلى هذه الحالة فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه، وهو لم يعلم غضبا انتهى إلى هذه الحالة. وهذا غلط فإن الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما؛ فمنه ما هو كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ما هو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطيء الزوال وعكسه، كما قسمه النبي ﷺ إلى هذه الأقسام.
وقوى الناس متفاوتة تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب والطمع والحزن والخوف والشهوة. فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه.
الوجه الخامس عشر أن الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والرأي وقد صار إلى الجنون والعارض أقرب منه إلى العقل الثابت أولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفظ بالطلاق في حال عقله وإن لم يرده بقلبه. وقد ألغى طلاق الهازل بعض الفقهاء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، حكاها أبو بكر عبد العزيز وغيره. وبه يقول بعض اصحاب مالك إذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق. ولا ريب أن الغضبان أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا.
الوجه السادس عشر أن جماعة من أصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم أن لا يكون ذاكرا لطلاقه، وإن كان ظاهر نص أحمد أنه متى ذكر الطلاق لزمه فإنه قال في رواية أبي طالب في المجنون يطلق، فقيل له لما أفاق: إنك طلقت امرأتك، فقال: أنا ذاكر أني طلقت ولم يكن عقلي معي؛ فقال: إذا كان يذكر أنه طلق فقد طلقت.
قال أبو محمد المقدسي: وهذا هو المنقول عن الإمام أحمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه. فأما من كان جنونه لنشاف أو كان مبرسما فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق إن شاء الله. انتهى كلامه.
ومعلوم أن الغضبان الممتلئ أسوأ حالا ممن جنونه من نشاف أو برسام، وأقل أحواله أن يكون مثله. يوضحه:
الوجه السابع عشر وهو أن الموسوس لا يقع طلاقه. صرح به أصحاب أبو حنيفة وغيرهم. وما ذاك إلا عدم صحة العقل والإرادة منه. فهكذا هذا.
الوجه الثامن عشر أنه لم يقل أحد إن مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب لوقوعه على أي حال كان، بل لا بد من أمر آخر وراء التكلم باللفظ.
فطائفة اشترطت أن يأتي به في حال التكليف فقط سواء قصده أو جرى على لسانه من غير قصد، سواء أكره عليه أو أتى به اختيارا. وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه. وهو المنصوص عن أبي حنيفة في الموضعين.
وطائفة اشترطت مع ذلك أن يأتي باللفظ مختارا قاصدا له. وهو قول الجمهور الذين لا ينفدون طلاق المكره.
ثم منهم من اشترط مع ذلك أن يكون عالما بمعناه. فإن تكلم به اختيارا غير عارف بمعناه لم يلزمه حكمه. وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف أحكام الأقوال حتى يكون عارفا بمدلولها, وهذا هو الصواب.
ومنهم من اشترط مع ذلك أن يكون مريدا لمعناه ناويا له؛ فإن لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه. وهذا قول من يقول: لا يلزم لصريح الطلاق النية، وقول من لا يوقع الطلاق الهازل. وهو قول في مذهب الإمام أحمد ومالك في المسألتين. فيشترط هؤلاء الرضا بالنطق اللساني والعلم بمعناه وإرادة مقتضاه.
ومنهم من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع، وهو قول من لا يوقع الطلاق المحرم. وهو قول طائفة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال محمد [1] بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك.
وحسبك بهذا الإسناد إذا صح. رواه أبو محمد بن حزم قال: حدثنا يوسف بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا محمد بن عبد السلام - فذكره.
وهذا مذهب أفقه التابعين على الإطلاق سعيد بن المسيب. حكاه عنه الثعلبي في تفسير سورة الطلاق. وهو مذهب أفقه التابعين من أصحاب ابن عباس وهو طاوس. قال عبد الرزاق عن جريج عن عبد الله بن طاووس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق يطلقها طاهرا من غير جماع، وإذا استبان حملها.
وهذا مذهب خلاس بن عمرو. قال ابن حزم: حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال: حدثنا عباس بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن من مهدي قال: حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض فقال: لا يعتد بها.
وهذا قول أبي قلابة. قال ابن أبي شيبة: [حدثنا] عبد الرزاق عن معمر [عن أيوب] عن أبي قلابة قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض فلا يعتد بها.
وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في أصول الفقه؛ صرح به في مسألة: النهي يقتضي الفساد. وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد.
وقال أبو جعفر الباقر: لا طلاق الا على سنة ولا طلاق إلا على طهر من غير جماع، وكل طلاق في غضب أو يمين أو عتق فليس بطلاق إلا لمن أراد الطلاق.
والمقصود أن هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق إذن الشارع فيه وما لم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ.
قال شيخ الإسلام: وقولهم أصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله ورسوله ويراه صحيحا لازما.
والمقصود أن أحدا لم يقل إن مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب أثره على أي وجه كان.
الوجه التاسع عشر: أن هذا مقتضى نص أحمد كما تقدم تفسيره الإغلاق في رواية حنبل بالغضب. وقال عبد الله ابنه في مسائله: سألت أبي عن المجنون إذا طلق في وقت زولان عقله، أيجوز؟ قال أبي: كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته فطلق فليس طلاقه بشيء.
فهذا عموم كلامه وذاك خاصه. فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع الطلاق. ولا ريب أن إغلاق الغضب يُغير العقل عن صحته.
الوجه العشرون: أن الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال، وهي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد. أحدها: لا يصح ولا ينفذ لأن النهي يقتضي الفساد. والثاني: ينفذ. والثالث: إن عرض له الغضب بعدَ فَهْم الحكم نَفَذ حكمه، وإن عرض له قبل ذلك لم ينفذ، فإن الحاكم يجب أن يكون عالما عدلا. فمن نفَّذ حكمه قال: الغضب لا يمنع العلم والعدل، فقد حكم النبي ﷺ للزبير في شراج الحرة وهو غضبان. ومن لم ينفِّذ حكمه قال: الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد، فيمنعه العلم والعدل، ولا يصح القياس على النبي ﷺ فإنه معصوم في غضبه ورضاه، فكان إذا غضب لم يقل إلا حقا كما كان في رضاه كذلك. ومن فرق قال: إذا علم الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم وحينئذ فيمكنه أن ينفذ الحق الذي علمه، وإذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لإمكان أن يحول الغضب بينه وبين الفهم. وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي ﷺ إنما عرض له الغضب بعد فهم الحكومة.
والمقصود أن الغضب إذا أثّر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم أن كلام الغضبان غير كلام الراضي المختار وأن للغضب تاثيرا في ذلك.
الوجه الحادي والعشرون: أن وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا، والدليل إما كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس يستوي فيه حكم الأصل والفرع؛ وليس شيء منها موجودا في مسألتنا. وإذا شئت قلت: الدليل إما نص أو معقول نص؛ وكلاهما منتف. وان شئت قلت: لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله، واللازم منتف فالملزوم مثله
والوجه الثاني والعشرون: أن نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول إلا بالإجماع مثله. وان شئت قلت: نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالإجماع والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه.
الوجه الثالث والعشرون: أن جمهور العلماء يقولون إن طلاق الصبي المميز العاقل لا ينفذ ولا يصح. هذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، اختارها الشيخ أبو محمد، وهو قول إسحاق. مع كونه عارفا باللفظ وموجبه بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وإرادة صحيحة. وقد أمر الله سبحانه بابتلائه واختباره في تصرفاته. وقد نفَّذ عمر به الخطاب وصيته. واعتبر النبي ﷺ قصده واختياره في التخيير بين أبويه. فالغضبان الشديد الغضب الذي قد أغلق عليه باب القصد والعلم أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب.
فإن قيل: الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لأن القلم مرفوع عنه؛ قيل: نعم الأمر كذلك، ولكن لا يلزم من كونه مكلفا أن يترتب الحكم على مجرد لفظة كما تقدم. كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف، ولا يلزم من كون العبد مكلفا أن لا يعرض له حال يمنع اعتبار أقواله ونقص افعاله.
الوجه الرابع والعشرون: أن غاية التلفظ بالطلاق أن يكون جزء سبب، والحكم لا يتم إلا بعد وجود سببه وانتفاء مانعه. وليس مجرد التلفظ سببا تاما باتفاق الأئمة كما تقدم. وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف إما أن تكون بقية أجزاء الكسب أو تكون شروطا في اقتضائه أو يكون عدمها مانعا من تأثيره. وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها. وليس مع من أوقع طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على لسانه بغير قصد منه إلا مجرد السبب أو جزؤه بدون شرطه وانتفاء مانعه، وذلك غير كاف في ثبوت الحكم. والله اعلم.
الوجه الخامس والعشرون: أنه لو سبق لسانه بالطلاق ولم يرده دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى، ويقبل منه ذلك في الحكم في إحدى الروايتين عن أحمد إلا أن تكذبه قرينة. والرواية الأخرى يُدين ولا يقبل في الحكم. وكذلك قال أصحاب الشافعي إذا سبق الطلاق إلى لسانه بغير قصد فهو لغو، ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان إلا إذا ظهرت قرينة تدل عليه، فقبلوا منه في الباطن دون الحكم إلا بقرينة. وكذلك قال أصحاب مالك: من سبق لسانه إلى الطلاق لم يقع عليه الطلاق، قالوا: ويقبل في الفتوى. وأبو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق، وعنه في سبق اللسان في العتق روايتان. وقرر أصحابه بأن المرأة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد وعدم القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد، بخلاف العتق فإن السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة التسوية بينهما. ثم اختلف أصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في عدم الوقوع.
والمقصود أن سبق اللسان إلى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند الجمهور. والغضبان إذا علم من نفسه أن لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له الإقامة على نكاحه ويدين في الفتوى. وأما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف والأظهر أنه إن قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قُبل في الحكم. والغضب الشديد من أقوى القرائن ولا سيما فإن كثيرا ممن يطلّق في شدة الغضب يحلف بالله جهد يمينه أنه لم يقصد الطلاق وإنما سبق لسانه، وحينئذ فالجمهور لا يوقعون عليه الطلاق كما صرح به أصحاب أحمد والشافعي ومالك. وفي قوله في القضاء ثلاثة أقوال أصحها أنه إن قامت قرينة ظاهرة على صحة قوله قُبل وإلا فلا.
فصل
ومما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين شتمته أو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا»
وفي مسند الإمام أحمد من حديث مسروق عن عائشة قالت: "دخل على النبي ﷺ رجلان فأغلظ لهما وسبهما، قالت فقلت: يا رسول الله لمن أصاب منك خيرا [ ما أصاب هذان منك خيرا ] قالت فقال: «أوما علمت ما عاهدت عليه ربي عز وجل قلت أيما مؤمن سببته أو جلدته أو لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية»
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه سمع النبي ﷺ يقول: «اللهم أيما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة إليك يوم القيامة» وفي بعض ألفاظ الحديث: «إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن سببته أو لعنته فاجعلها له زكاة»
فلو كان النبي ﷺ مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وسأله أن يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك، إذ من الممتنع اجتماع إرادة الضدين وقد صرح بإرادة أحدهما مشترطا على ربه فدل على عموم إرادته لما دعا به في حال الغضب. هذا وهو ﷺ معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا، وهو مالك لفظه بتصرفه. فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه. وإذا كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي يلجأ إلى الكلام أو يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم.
فإن قيل: ما ذكرتم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فإن الغضبان أتى بالسبب اختيارا وأراد في حال الغضب ترتب أثره عليه، ولا يضر عدم إرادته له في حال رضاه إذ الاعتبار بالإرادة إنما هو التلفظ بخلاف المكره فإنه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب أثره عليه، وبخلاف السكران المغلوب عقله فإنه غير مكلف، والغضبان مكلف مختار فلا وجه لإلغاء كلامه؛ فالجواب أن يقال إن اريد بالاختيار رضاه به وإيثاره له فليس بمختار. وإن أردتم أنه يوقع بمشيئته وإرادته التي هو غير راض بها ولا بأثرها فهذا بمجرده لا يوجب ترتب الأثر فإن هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران، فإنا لا نشترط في السكران أن لا يفرق بين الأرض والسماء بل المشترط في عدم ترتب أثر أقواله أنه يهذي ويخلط في كلامه، وكذلك المحموم والمريض. وأبلغ من هذا الصبي المراهق للبلوغ إذ هو من أهل الإرادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على كلامه أثره. وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فإنه لا يقع طلاقه وقد أتى باللفظ في حال الاختيار غير مكره ولكن لم يقصده. والغضبان وإن قصده فلا حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الأدلة الدالة على ذلك. وقد صرح أصحابنا بأن من كان جنونه لنشاف أو برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه إن كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره أن يذكر الطلاق وأنه أوقعه.
وما ذكرناه من دعاء النبي ﷺ ربه أن يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في أنه [غير] مريد له إذ لو أراده واختاره لم يسأل ربه أن يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا به عليه، إذ لا يتصور إرادة ضدين في حالة واحدة. وهذا وحده كاف في المسألة.
فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر. ونحن من وراء القبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير إليها ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد والله المستعان وعليه التكلان.
وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وأصحابه وعترته وأنصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز وجل.
هامش
في الأصل: عمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق