Translate ترجمة فتاح520..

السبت، 22 نوفمبر 2025

ج1وج2 وج3.ةوج4.كتاب : أحكام القرآن المؤلف:ابن العربي

ج1وج2 وج3.ةوج4.كتاب : أحكام القرآن المؤلف:ابن العربي 

كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي



مُقَدِّمَةُ الطَّبَرِيِّ شَيْخِ الدِّينِ -فَجَاءَ فِيهِ بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ ، وَنَثَرَ فِيهِ أَلْبَابَ الْأَلْبَابِ ، وَفَتَحَ فِيهِ لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إلَى مَعَارِفِهِ الْبَابَ ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ غَرَفَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ إنَائِهِ ، وَمَا نَقَصَتْ قَطْرَةٌ مِنْ مَائِهِ ، وَأَعْظَمُ مَنْ انْتَقَى مِنْهُ الْأَحْكَامَ بَصِيرَةً : الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ ، فَاسْتَخْرَجَ دُرَرَهَا ، وَاسْتَحْلَبَ دِرَرَهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ غَيَّرَ أَسَانِيدَهَا لَقَدْ رَبَطَ مَعَاقِدَهَا ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهُمَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِمَا .
وَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِبْصَارِ فِي اسْتِثَارَةِ الْعُلُومِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حَسْبَ مَا مَهَّدَتْهُ لَنَا الْمَشْيَخَةُ الَّذِينَ لَقِينَا ، نَظَرْنَاهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْرَحِ ، ثُمَّ عَرَضْنَاهَا عَلَى مَا جَلَبَهُ الْعُلَمَاءُ ، وَسَبَرْنَاهَا بِعِيَارِ الْأَشْيَاخِ .
فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّظَرُ أَثْبَتْنَاهُ ، وَمَا تَعَارَضَ فِيهِ شَجَرْنَاهُ ، وَشَحَذْنَاهُ حَتَّى خَلُصَ نُضَارُهُ وَوَرِقَ عِرَارُهُ .
فَنَذْكُرُ الْآيَةَ ، ثُمَّ نَعْطِفُ عَلَى كَلِمَاتِهَا بَلْ حُرُوفِهَا ، فَنَأْخُذُ بِمَعْرِفَتِهَا مُفْرَدَةً ، ثُمَّ نُرَكِّبُهَا عَلَى أَخَوَاتِهَا مُضَافَةً ، وَنَحْفَظُ فِي ذَلِكَ قِسْمَ الْبَلَاغَةِ ، وَنَتَحَرَّزُ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَارَضَةِ ، وَنَحْتَاطُ عَلَى جَانِبِ اللُّغَةِ ، وَنُقَابِلُهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ، وَنَتَحَرَّى وَجْهَ الْجَمِيعِ ؛ إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ، وَنُعَقِّبُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوَابِعَ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْهَا ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ الْقَوْلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْبَابِ فَنُحِيلَ عَلَيْهِ فِي مَوْضُوعِهِ مُجَانِبِينَ لِلتَّقْصِيرِ وَالْإِكْثَارِ ، وَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَسْتَهْدِي ، فَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى [ قَوْله تَعَالَى ] : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاحٌ لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ قُرْآنًا ، وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَأَشَرْنَا إلَى بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ .
وَنَرْجُو أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ .
فَائِدَةُ الْخِلَافِ : وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، فَتَدْخُلُ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ ، أَوْ فِي الِاسْتِحْبَابِ [ كَذَلِكَ ] .
وَيَكْفِيَك أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَالْقُرْآنُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَإِنَّ إنْكَارَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَكَانَ مُدْخِلُهَا فِي الْقُرْآنِ كَافِرًا ؛ قُلْنَا : الِاخْتِلَافُ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ

الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ ؟ قُلْنَا : لَا تَجِبُ ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى { أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْرَأُ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَنَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ .
قُلْنَا : وَهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلًا لَا يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ لِعَظِيمِ فِقْهِهِ ، وَأَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ إنَّمَا قَالَا هَذَا رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى قِرَاءَةَ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قِرَاءَتَهَا ، وَقَدْ تَوَلَّى الدَّارَقُطْنِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ .
قُلْنَا : لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ ، لَكِنَّ مَذْهَبَنَا يَتَرَجَّحُ بِأَنَّ أَحَادِيثَنَا ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَإِنَّهَا أَصَحُّ ، وَبِوَجْهٍ عَظِيمٍ وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ مِنْ لَدُنْ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى زَمَانِ مَالِكٍ ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ [ قَطُّ ] فِيهِ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ .
بَيْدَ أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي قِرَاءَتِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : حَمِدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ تَعَالَى : مَجَّدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَقُولُ اللَّهُ : فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .
} فَقَدْ تَوَلَّى سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْقُرْآنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرَ تَمَامٍ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الْمُشْكِلَاتِ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ ، وَافْتَتَحَ بِحَمْدِهِ كِتَابَهُ ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، بَلْ نَهَاهُمْ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ ، فَقَالَ : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } وَمَنَعَ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ مَدْحَ بَعْضٍ لَهُ ، أَوْ يَرْكَنَ إلَيْهِ ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ ، وَقَالَ : { اُحْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ } رَوَاهُ الْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُ .
وَكَأَنَّ فِي مَدْحِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَحَمْدِهِ لَهَا وُجُوهًا مِنْهَا ثَلَاثٌ أُمَّهَاتٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ ، وَكَلَّفَنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَعْنَاهُ : قُولُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فَيَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ لَنَا ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الدَّالِ فِي الشَّاذِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَدْحَ النَّفْسِ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهَا مِنْ الْعُجْبِ بِهَا ، وَالتَّكَثُّرِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِهَا ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ التَّكَثُّرُ ، وَهُوَ الْمَخْلُوقُ ، وَوَجَبَ ذَلِكَ لِلْخَالِقِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلُ الْحَمْدِ .
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ ، وَالْفَائِدَةُ الْمَقْصُودَةُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدْنَا لَكُمْ ، { أَنَّهُ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ، أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَبْعًا ، ثَلَاثًا لِي وَثَلَاثًا لَك ، وَوَاحِدَةً بَيْنِي وَبَيْنَك ؛ فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لِي : فَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وَأَمَّا

الثَّلَاثُ الَّتِي لَك فَ { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَأَمَّا الْوَاحِدَةُ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } } يَعْنِي : مِنْ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ ، وَمِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْعَوْنَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَؤُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي الصَّلَاةِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يَقْرَؤُهَا إذَا أَسَرَّ خَاصَّةً قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يَقْرَأُ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : يَقْرَؤُهَا خَلْفَ الْإِمَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ ، كَأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا ، وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ ، وَقَدْ أَمْضَيْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي دَلَائِلِهَا بِمَا فِيهِ غُنْيَةً .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا فِيمَا يُسِرُّ وَتَحْرِيمُهَا فِيمَا جَهَرَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ لَهُ ، وَالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ عَنْهُ فِي مَقَامٍ بَعِيدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ السِّرِّ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِرَاءَتِهَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَحَالَةٍ ، وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ الْجَهْرِ بِوُجُوبِ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي عَدَدِ آيَاتِهَا : لَا خِلَافَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ ، فَإِذَا عَدَدْتَ فِيهَا { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } آيَةً اطَّرَدَ الْعَدَدُ ، وَإِذَا أَسْقَطْتهَا تَبَيَّنَ تَفْصِيلُ الْعَدَدِ فِيهَا .
قُلْنَا : إنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ : { أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ } هَلْ هُوَ خَاتِمَةُ آيَةٍ أَوْ نِصْفُ آيَةٍ ؟ وَيُرَكَّبُ هَذَا الْخِلَافُ فِي عَدِّ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } خَاتِمَةُ آيَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ مُسْتَوْفًى ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ بِمُقَفًّى عَلَى نَحْوِ الْآيَاتِ [ قَبْلَهُ ] قُلْنَا : هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ فِي تَعْدَادِ الْآيِ ، وَاعْتَبِرْهُ بِجَمِيعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ تَجِدْهُ صَحِيحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قُلْنَا

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : التَّأْمِينُ خَلْفَ الْإِمَامِ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَالَ الْإِمَامُ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا : آمِينَ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
فَتَرْتِيبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا ، وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا : الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى : تَأْمِينُ الْإِمَامِ .
الثَّانِيَةُ : تَأْمِينُ مَنْ خَلْفَهُ .
الثَّالِثَةُ : تَأْمِينُ الْمَلَائِكَةِ .
الرَّابِعَةُ : مُوَافَقَةُ التَّأْمِينِ .
فَعَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ تَتَرَتَّبُ الْمَغْفِرَةُ .
وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنْ الثَّالِثَةِ اخْتِصَارًا لِاقْتِضَاءِ الرَّابِعَةِ لَهَا فَصَاحَةً ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْبَيَانِ لِلِاسْتِرْشَادِ وَالْإِرْشَادِ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ جَدَلِ أَهْلِ الْعِنَادِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ : ( آمِينَ ) ، فَقِيلَ : هُوَ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلٍ ، كَقَوْلِهِ : يَا مِينَ ، وَقِيلَ فِيهِ : أَمِينٌ عَلَى وَزْنِ يَمِينٍ ؛ الْأُولَى مَمْدُودَةٌ ، وَالثَّانِيَةُ مَقْصُورَةٌ ، وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ ، وَالْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَخْصَرُ ، وَعَلَيْهَا مِنْ الْخَلْقِ الْأَكْثَرُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَعْنَى لَفْظِ آمِينَ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : إنَّهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَلَا ثَبَتَ قَوْلُهُ .
الثَّانِي : قِيلَ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ ، وُضِعَتْ مَوْضِعَ الدُّعَاءِ اخْتِصَارًا .
الثَّالِثُ : قِيلَ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ يَكُونُ ، وَالْأَوْسَطُ أَصَحُّ وَأَوْسَطُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذِهِ كَلِمَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا ، خَصَّنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا ، فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " مَا حَسَدَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدُوكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ : آمِينَ " .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : تَأْمِينُ الْمُصَلِّي : فِي تَأْمِينِ الْمُصَلِّي ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا ، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ اتِّفَاقًا .
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ لِنَفْسِهِ إذَا أَكْمَلَ قِرَاءَتَهُ ، وَفِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا أَكْمَلَ الْقِرَاءَةَ إمَامُهُ يُؤَمِّنُ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُؤَمِّنُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَهُ إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ : إذَا بَلَغَ مَكَانَ التَّأْمِينِ ، كَقَوْلِهِمْ : أَنْجَدَ الرَّجُلُ إذَا بَلَغَ نَجْدًا ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُؤَمِّنُ .
قَالَ ابْنُ بُكَيْر : هُوَ بِالْخِيَارِ ، فَإِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ جَهْرًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ يَقُولَانِ : يُؤَمِّنُ سِرًّا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَأْمِينُ الْإِمَامِ جَهْرًا ؛ فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ : { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ } ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : { حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً مِنْ قَوْلِ النَّاسِ آمِينَ } .
وَفِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ : { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ ، حَتَّى يُسْمَعَ مِنْ الصَّفِّ } ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ الْأَوْزَاعِيِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالَ : آمِينَ ، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَضْلُ الْفَاتِحَةِ : لَيْسَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا إلَّا حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ : { قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ .
} الثَّانِي : حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : { لَأُعَلِّمَنَّك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا } .
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي فَضْلِ سُورَةٍ إلَّا قَلِيلٌ سَنُشِيرُ إلَيْهِ ، وَبَاقِيهَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهَا .

سُورَة الْبَقَرَةِ اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَعْظَمِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ؛ سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ : فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ ، وَأَلْفُ نَهْيٍ ، وَأَلْفُ حُكْمٍ ، وَأَلْفُ خَبَرٍ ، وَلِعَظِيمِ فِقْهِهَا أَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ثَمَانِي سِنِينَ فِي تَعَلُّمِهَا ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشْرُوحًا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ فِي أَعْوَامٍ ، وَلَيْسَ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَعَدَمُ الْهُدَى وَضَعْفُ الْقُوَى وَكَلَبُ الزَّمَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَعْطِيلِهِمْ وَصَرْفِهِمْ عَنْ الْحَقِّ ، وَاَلَّذِي حَضَرَ الْآنَ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ تِسْعُونَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { يُؤْمِنُونَ } : قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَمِنْهَا تُؤْخَذُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَقِيقَةُ الْغَيْبِ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ : قَوْلُهُ : { بِالْغَيْبِ } .
وَحَقِيقَتُهُ مَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ ، فَافْهَمُوهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : مَا ذَكَرْنَاهُ كَوُجُوبِ الْبَعْثِ ، وَوُجُودِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَالْحِسَابِ .
الثَّانِي : بِالْقَدَرِ .
الثَّالِثِ : بِاَللَّهِ تَعَالَى .
الرَّابِعِ : يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ لَا بِأَلْسِنَتِهِمْ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ ، مَعْنَاهُ : لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ إلَّا الثَّانِي وَالثَّالِثَ فَإِنَّهُ يُدْرَكُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ ، فَلَا يَكُونُ غَيْبًا حَقِيقَةً ، وَهَذَا الْأَوْسَطُ ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ عَلَى الْخُصُوصِ .

وَالْأَقْوَى هُوَ الْأَوَّلُ ؛ أَنَّهُ الْغَيْبُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إلَيْهِ الْعُقُولُ ، وَالْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذَا رَفْعًا ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نَصْبًا ، كَقَوْلِك : مَرَرْت بِزَيْدٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُقَدَّرًا نَصْبًا ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : جَعَلْتُ قَلْبِي مَحَلًّا لِلْإِيمَانِ ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عَنْ الْخَلْقِ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَا بِحِمَى الذِّمَارِ ، وَلَا يُوجِبُ لَهُ الِاحْتِرَامَ ، إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثِ ؛ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ عِصْمَةً .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ حَتَّى بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي مُتَنَاوَلِ الصَّلَاةِ حَتَّى خَصَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحْدُودًا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَيَانِهِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دُونِ هَذَا أَوْ مِثْلِهِ : " ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ ، وَالْكَلَالَةُ ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا " .
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ ، وَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ، وَنَزَلَ سَحَرًا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّى بِهِ وَعَلَّمَهُ ، ثُمَّ وَرَدَتْ الْآيَاتُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا ؛ فَكَانَتْ وَارِدَةً بِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ ، وَسَقَطَ مَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْهُومِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { وَيُقِيمُونَ } : فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : يُدِيمُونَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا ، مِنْ قَوْلِكَ :

شَيْءٌ قَائِمٌ ، أَيْ دَائِمٌ .
وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ يُقِيمُونَهَا بِإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَاسْتِيفَاءِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ : " مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ " .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي اشْتِقَاقِ النَّفَقَةِ : وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْلَافِ ، وَلِتَأْلِيفِ " نَفَقَ " فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَانٍ ، أَصَحُّهَا الْإِتْلَافُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ، يُقَالُ نَفِقَ الزَّادُ يَنْفَقُ إذَا فَنِيَ ، وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ : أَفْنَاهُ ، وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ : فَنِيَ زَادُهُمْ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي وَجْهِ هَذَا الْإِتْلَافِ : وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْمَدْحِ تَخَصَّصَ مِنْ إجْمَالِهِ جُمْلَةٌ .
وَبَعْدَ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّالِثِ : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الرَّابِعِ : أَنَّهُ وَفَاءُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ .
الْخَامِسِ : أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ .
التَّوْجِيهُ : أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ : " إنَّهُ الزَّكَاةُ " فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ قُرِنَ بِالصَّلَاةِ ، وَالنَّفَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ [ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ] بِالصَّلَاةِ هِيَ الزَّكَاةُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِ فَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ .
رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : عِنْدِي دِينَارٌ : قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك قَالَ : عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَبَدَأَ بِالْأَهْلِ بَعْدَ النَّفْسِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرَابَةِ صَدَقَةً وَصِلَةً } وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا ، وَهُوَ الزَّكَاةُ ، فَإِذَا جَاءَتْ

بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ احْتَمَلَتْ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ ، وَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا التَّطَوُّعُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي الْحُقُوقِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا ، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهَا كَانَ فَرْضًا سِوَاهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرْضًا سِوَى الزَّكَاةِ ، وَجَاءَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَنَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ ، كَمَا نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ ، وَنَسَخَتْ الصَّلَاةُ كُلَّ صَلَاةٍ .
وَنَحْوُ هَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ التَّنْقِيحُ : إذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ تَحَقَّقَ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } : كُلُّ غَيْبٍ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَائِنٌ ، وَقَوْلُهُ : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } : عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا .
وَقَوْلُهُ : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } عَامٌّ فِي كُلِّ نَفَقَةٍ ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ الْقَضَاءُ بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَا الْفَرْضِيَّةَ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي مَدْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ خَاصَّةً كَيْفَمَا كَانَتْ صِفَتُهُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } .
الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ : الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانُ ، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ ، وَلَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلْ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَقِيَامِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ .
اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي سَبَبِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ سِوَاهُ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا ؟ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَتَأَلُّفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ .
وَقَدْ أَشَارَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ : { أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } .
الثَّالِثُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ .
وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ ، فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي

قَالَ : إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ قَالَ مَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِعِلْمِهِ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ ؛ لِأَنَّ الْمُجَذِّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثَ ، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ ، وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْحَارِثُ فَقَتَلَهُ ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً ، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
الْقَوْلُ الصَّحِيحُ : وَالصَّحِيحُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ .
وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا } .
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ لَا يَبِيتُ عَلَى فِرَاشٍ ، وَلَا يَسْتَسْرِجُ سِرَاجًا ، فَبَاتَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا عُرْفًا .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّيَّةِ ، أَوْ السَّبَبِ ، أَوْ الْبِسَاطِ ، الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ عَدِمَ ذَلِكَ فَالْعُرْفُ ، وَبَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ ، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ اجْتَمَعَتْ فِيهِ فَائِدَتَانِ : إحْدَاهُمَا : تَأْسِيسُ الْقَاعِدَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : عُمُومُ اللَّفْظِ ، فِي كُلِّ حُكْمٍ مَنْوِيٍّ .
وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ إنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْتَرِشَ فِرَاشًا وَقَصَدَ بِيَمِينِهِ الِاضْطِجَاعَ ، أَوْ حَلَفَ أَلَّا يَسْتَصْبِحَ ، وَنَوَى أَلَّا يَنْضَافَ إلَى نُورِ عَيْنَيْهِ نُورٌ يَعْضُدُهُ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِافْتِرَاشِ الْأَرْضِ ، وَالتَّنُّورِ بِالشَّمْسِ ، وَهَذَا حُكْمٌ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
لَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَخْبُوءَةً تَحْتَ أَسْتَارِ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى هَتَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ لَنَا ، وَقَدْ تَعَلَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ ، إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِالْحَظْرِ ، وَاغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَتَابَعَهُمْ عَلَيْهِ .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا كُلُّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْحَظْرِ .
الثَّالِثِ : أَنْ لَا حُكْمَ لَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِأَيِّ حُكْمٍ اُقْتُضِيَ فِيهَا .
وَاَلَّذِي يَقُولُ بِأَنَّ أَصْلَهَا إبَاحَةٌ أَوْ حَظْرٌ اخْتَلَفَ مَنْزَعُهُ فِي دَلِيلِ ذَلِكَ ؛ فَبَعْضُهُمْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِالشَّرْعِ .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ الشَّرْعُ قَالَ : الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فَهَذَا سِيَاقُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَى الْآيَةِ .
فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ الْمُقَدَّمَةِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَدَلِيلِهَا مَدْخَلٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مُحَصِّلٌ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَتَصْرِيفِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى التَّقْدِيرِ وَالْإِتْقَانِ بِالْعِلْمِ وَجَرَيَانِهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ .
وَعَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ بِهَا ، فَقَالَ : { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي

يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } .
فَخَلْقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَرْضَ ، وَإِرْسَاؤُهَا بِالْجِبَالِ ، وَوَضْعُ الْبَرَكَةِ فِيهَا ، وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ بِأَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ وَأَصْنَافِ النَّبَاتِ إنَّمَا كَانَ لِبَنِي آدَمَ ؛ تَقْدِمَةً لِمَصَالِحِهِمْ ، وَأُهْبَةً لِسَدِّ مَفَاقِرِهِمْ ، فَكَانَ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُهَيِّئَةِ لَهَا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ لِحَاجَةِ الْخَلْقِ ؛ وَالْبَارِئُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْهُ مُتَفَضِّلٌ بِهِ .
وَلَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يَقْتَضِي حُكْمَ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا جَوَازَ التَّصَرُّفِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُبِيحَ جَمِيعُهُ جَمِيعَهُمْ جُمْلَةً مَنْثُورَةَ النِّظَامِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الْوَصَائِلِ وَالْأَرْحَامِ ، وَالتَّهَارُشِ فِي الْحُطَامِ .
وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْمِلْكِ ، وَشَرَحَ لَهُمْ مَوْرِدَ الِاخْتِصَاصِ ، وَقَدْ اقْتَتَلُوا وَتَهَارَشُوا وَتَقَاطَعُوا ؛ فَكَيْفَ لَوْ شَمَلَهُمْ التَّسَلُّطُ وَعَمَّهُمْ الِاسْتِرْسَالُ ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ إذَا سَمِعُوا هَذَا النِّدَاءَ أَنْ يَخِرُّوا سُجَّدًا ؛ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ مَا ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ ، ثُمَّ يَتَوَكَّفُوا بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالَ وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ .
وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِتَفْهِيمِ الْحَقِّ مَا قَالَ حَكِيمٌ لِبَنِيهِ : قَدْ أَعْدَدْت لَكُمْ مَا عِنْدِي مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَعَرَضٍ وَقَرْضٍ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءُوا حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اخْتِصَاصِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { أَعْدَدْتُ

لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ ، فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَيْهِ إلَّا بِتِبْيَانِ حَظِّهِ مِنْهُ وَتَعْيِينِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبِشَارَةُ هِيَ : الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْبُوبِ ، وَالنِّذَارَةُ هِيَ : الْإِخْبَارُ بِالْمَكْرُوهِ ، وَذَلِكَ فِي الْبِشَارَةِ يَقْتَضِي أَوَّلَ مُخْبِرٍ بِالْمَحْبُوبِ ، وَيَقْتَضِي فِي النِّذَارَةِ كُلَّ مُخْبِرٍ .
وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُكَلَّفِ : مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ .
فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مُخْبِرٍ لَهُ بِهِ يَكُونُ عَتِيقًا دُونَ الثَّانِي .
وَلَوْ قَالَ : مَنْ أَخْبَرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ ، فَهَلْ يَكُونُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَكُونُ حُرًّا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ .
وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا لَا يَكُونُ بِهِ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا قَصَدَ خَبَرًا يَكُونُ بِشَارَةً ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ عُرْفًا ، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فَاسْتَعْمَلَ الْبِشَارَةَ فِي الْمَكْرُوهِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرُهُمْ لِلْبُشْرَى ، فَقِيلَ لَهُمْ : بِشَارَتُكُمْ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
فَخَرَجَ اللَّفْظُ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا }

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } الْعَهْدُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدِهِمَا : فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَالْآخَرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْعَهْدُ الثَّانِي : فَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَيَلْزَمُ فِي الْحُكْمِ ، إمَّا عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَهُمَا ، وَإِمَّا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى الْخَلْقِ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ حَلُّهُ ، وَلَا يَحِلُّ نَقْضُهُ ، وَلَا تَدْخُلُهُ كَفَّارَةٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ نَاكِثُهُ غَادِرًا ، يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَيَقُولُ : الْعَهْدُ بِالْيَمِينِ ، لَمْ يَجُزْ حَلُّهُ ؛ لِأَجْلِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ } اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا سَلَامُ الْأَعَاجِمِ بِالتَّكَفِّي وَالِانْحِنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَإِمَّا وَضْعُهُ قِبْلَةً كَالسُّجُودِ لِلْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ الْأَقْوَى ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } .
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ ؛ وَإِنَّمَا صَدَرَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِلْعِبَادَةِ ، وَاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : جَاءَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ أَنَّ إبْلِيسَ حَاوَلَ آدَمَ عَلَى أَكْلِهَا ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، وَحَاوَلَ حَوَّاءَ ، فَخَدَعَهَا فَأَكَلَتْ فَلَمْ يُصِبْهَا مَكْرُوهٌ ، فَجَاءَتْ آدَمَ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ الَّذِي تَكْرَهُ مِنْ الْأَكْلِ قَدْ أَتَيْته فَمَا نَالَنِي مَكْرُوهٌ .
فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ آدَم اغْتَرَّ فَأَكَلَ ، فَحَلَّتْ بِهِمَا النِّقْمَةُ وَالْعُقُوبَةُ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } فَجَمَعَهُمَا فِي النَّهْيِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلْ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ حَتَّى وُجِدَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ : إنْ دَخَلْتُمَا عَلَيَّ الدَّارَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ أَوْ حُرَّتَانِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُخُولِ إحْدَاهُمَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا تَطْلُقَانِ وَلَا تُعْتَقَانِ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الدَّارِ فِي الدُّخُولِ ، حَمْلًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَأَخْذًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ .
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : تُعْتَقَانِ جَمِيعًا ، وَتَطْلُقَانِ جَمِيعًا بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحِنْثِ حِنْثٌ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَحَدِهِمَا ، بَلْ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُمَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : تُعْتَقُ وَتَطْلُقُ الَّتِي دَخَلَتْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ دُخُولَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي طَلَاقِهَا أَوْ عِتْقِهَا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ وَضَعْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا ، وَبَقِيَ فِي بَطْنِهَا آخَرُ : إنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَضَعَ الْآخَرَ .
وَقَالَ

مَرَّةً أُخْرَى : تَطْلُقُ بِوَضْعِ الْأَوَّلِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْيَمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِيَّةٌ وَبِسَاطٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ بِسَاطٌ أَوْ نِيَّةٌ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَشْهَبَ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلَمَائِنَا اخْتِلَافَ حَالٍ لَا اخْتِلَافَ قَوْلٍ ؛ فَأَمَّا الْحُكْمُ بِطَلَاقِهِمَا أَوْ عِتْقِهِمَا مَعًا بِدُخُولِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَبَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ شَرْطًا إجْمَاعًا ، وَأَمَّا [ الْحُكْمُ ] بِالْحِنْثِ بِأَكْلِ بَعْضِ الرَّغِيفَيْنِ ؛ فَلِأَنَّهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُ الْحِنْثِ حِنْثٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي عَقَدَهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { هَذِهِ الشَّجَرَةَ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ كَيْفَ أَكَلَ آدَمُ مِنْ الشَّجَرَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ عَيْنِهَا ، كَأَنَّ إبْلِيسَ غَرَّهُ بِالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ ، وَهِيَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عَصَى اللَّهَ بِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَاجْتَنِبُوهُ ؛ فَإِنَّ فِي اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهِهِ هَدْمَ الشَّرِيعَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ ، وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ النَّوَاهِي عَنْ الدَّوَاهِي .
الثَّالِثِ : أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ .
الرَّابِعِ : أَنَّهُ أَكَلَ مُتَأَوِّلًا ؛ لِرَغْبَةِ الْخُلْدِ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ بِالْإِسْقَاطِ .
الْخَامِسِ : أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ : فَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ السَّكْرَانِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعُقُوبَاتِ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي فِعْلٍ ؛ بَلْ يَلْزَمُهُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ ، كَمَا يَلْزَمُ الصَّاحِي ، كَمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ حُكْمَ الْخِلَافِ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعَ السُّكْرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَفْعَالِ السَّكْرَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَغْوٌ .
الثَّالِثِ : أَنَّ الْعُقُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَالنِّكَاحِ ، وَأَنَّ الْحِلَّ مُعْتَبَرٌ كَالطَّلَاقِ ، وَلِذَا إذَا أَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهِ حَنِثَ .
وَتَحْقِيقُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا : لَا حِنْثَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : إنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ تَعْيِينَ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ جِنْسِهِ ، وَإِنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ أَوْ سَبَبُهَا أَوْ نِيَّتُهَا الْجِنْسَ حُمِلَ عَلَيْهِ ، وَحَنِثَ بِأَكْلِ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ

قِصَّةُ آدَمَ ؛ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ عُيِّنَتْ لَهُ ، وَأُرِيدَ بِهِ جِنْسُهَا ، فَحَمَلَ الْقَوْلَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي فَرْعٍ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَأَكَلَ خُبْزًا مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا هَكَذَا تُؤْكَلُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حِنْطَةً ، وَإِنَّمَا أَكَلَ خُبْزًا ، فَرَاعَى الِاسْمَ وَالصِّفَةَ .
وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ : لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَحَنِثَ بِأَكْلِ الْخُبْزِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا .
وَأَمَّا حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، فَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ هَاهُنَا فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } فَقَرَنَ النَّهْيَ بِالْوَعِيدِ ؛ وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ .
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَا تَأْكُلْهَا فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ ، وَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَالِدِينَ ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ طَه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
التَّنْقِيحُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ آدَمَ أَكَلَهَا سَكْرَانَ فَفَاسِدٌ نَقْلًا وَعَقْلًا : أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا الْكَرْمُ " ، فَكَيْفَ يُنْهَى عَنْهَا وَيُوقِعُهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهَا لَا غَوْلٌ فِيهَا ، فَكَيْفَ تُوصَفُ بِغَيْرِ صِفَتِهَا الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ ؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُؤَدِّي إلَى الْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَاقْتِحَامِ الْجَرَائِمِ .
وَأَمَّا سَائِرُ التَّوْجِيهَاتِ فَمُحْتَمَلَةٌ ، وَأَظْهَرُهَا الثَّانِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ آدَم مِنْ الشَّجَرَةِ سُلِخَ عَنْ كِسْوَتِهِ ، وَخُلِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ ، وَحُطَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى سَوْأَتِهِ مُنْكَشِفَةً قَطَعَ الْوَرَقَ مِنْ الثِّمَارِ وَسَتَرَهَا ، وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ : [ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بِأَيِّ شَيْءٍ سَتَرَهَا ؟ ] : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مُنْكَشِفًا ، مِنْهُمْ : الْقَدَرِيَّةُ ، وَبِهِ قَالَ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا اسْتِمْرَارًا عَلَى عَادَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ فَإِنَّهُ بَنَاهَا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيَحْظُرُ وَيُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ وَهِيَ أَقْضَى الْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَتَرَهَا مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ سَتَرَهَا عَادَةً .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ وَعَرَّفَهُ الْأَحْكَامَ فِيهَا ، وَأَسْجَلَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مِمَّنْ سَتَرَهَا ؟ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ يَنْكَشِفُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ عَلَيْهِ .
؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَأَحْكَامِهَا [ وَمَحَلِّهَا ] ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آدَم سَتَرَهَا مِنْ زَوْجِهِ بِأَمْرٍ جَازِمٍ فِي شَرْعِهِ ، أَوْ بِأَمْرِ نَدْبٍ ، كَمَا هُوَ عِنْدَنَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا رَأَى سَتْرَهَا إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ

أَنَّهُ لَا يَكْشِفُهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ .
وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، { وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، وَقَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ } .
وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ عَقْلٍ ، إذْ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ اقْتِضَاءِ الْعَقْلِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالرُّكُوعِ أَمْرٌ بِمَعْلُومٍ مُتَحَقِّقٍ سَابِقٍ لِلْفِعْلِ بِالْبَيَانِ ، وَخَصَّ الرُّكُوعَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الِانْحِنَاءُ لُغَةً ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، وَقَدْ كَانَ الرُّكُوعُ أَثْقَلَ شَيْءٍ عَلَى الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى أَلَّا أَخُرَّ إلَّا قَائِمًا ، فَمَنْ تَأَوَّلَهُ : عَلَى أَلَّا أَرْكَعَ ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قَلْبِهِ اطْمَأَنَّتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مِقْدَارَ الْجُزْءِ الَّذِي يَلْزَمُ بَذْلُهُ مِنْ الْمَالِ .
وَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ النَّمَاءِ ، يُقَالُ : زَكَاةُ الزَّرْعِ إذَا نَمَا ، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ الطَّهَارَةِ ، يُقَالُ : زَكَاةُ الرَّجُلِ ، إذَا تَطَهَّرَ عَنْ الدَّنَاءَاتِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : قِيلَ لَهُمْ قُولُوا حِطَّةٌ ، فَقَالُوا : سقماثاه أزه هَذَبًا ، مَعْنَاهُ حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ مَرْبُوطَةٍ ، اسْتِخْفَافًا مِنْهُمْ بِالدِّينِ وَمُعَانَدَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَقِّ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ : إنَّ هَذَا الذَّمَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ .
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ نَظَرٌ ؛ وَسَبِيلُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ : إنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا ، أَوْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا ، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا .
وَإِنْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ ، وَلَكِنْ لَا تَبْدِيلَ إلَّا بِاجْتِهَادٍ .
وَمِنْ الْمُسْتَقِلِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ طِبْقُ الْمَعْنَى .
وَبَنُو إسْرَائِيلَ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا : حِطَّةٌ ، أَيْ اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا .
فَقَالُوا اسْتِخْفَافًا : حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ [ فَبَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطِي مَعْنَاهُ ] .
وَلَوْ بَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطَى مَعْنَاهُ جِدًّا لَمْ يَجُزْ ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَمْنُوعُ الْمَذْمُومُ مِنْهُمْ .
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَقْلُ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ إذَا أَدَّى مَعْنَاهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ جَوَازُهُ ؛ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَنْقُلُهُ بِلَفْظِهِ ؛ حَسْبُكُمْ الْمَعْنَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَأَذْكُرُ لَكُمْ فِيهِ فَصْلًا بَدِيعًا ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَصْرِ

الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى ، وَإِنْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَمَا كُنَّا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ ؛ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إلَى زَمَانِنَا هَذَا قَدْ بَدَّلَ مَا نَقَلَ ، وَجَعَلَ الْحَرْفَ بَدَلَ الْحَرْفِ فِيمَا رَوَاهُ ؛ فَيَكُونُ خُرُوجًا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْجُمْلَةِ .
وَالصَّحَابَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ : أَحَدُهُمَا : الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ ؛ إذْ جِبِلَّتُهُمْ عَرَبِيَّةٌ ، وَلُغَتُهُمْ سَلِيقَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ ، فَأَفَادَتْهُمْ الْمُشَاهَدَةُ عَقْلَ الْمَعْنَى جُمْلَةً ، وَاسْتِيفَاءَ الْمَقْصِدِ كُلِّهِ ؛ وَلَيْسَ مَنْ أَخْبَرَ كَمَنْ عَايَنَ .
أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَذَا ، وَلَا يَذْكُرُونَ لَفْظَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ خَبَرًا صَحِيحًا وَنَقْلًا لَازِمًا ؛ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِيبَ فِيهِ مُنْصِفٌ لِبَيَانِهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } هَذِهِ الْآيَةُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ ، مُشْكِلَةٌ فِي النَّظَرِ ؛ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُصُولِ وَمِنْ الْفُرُوعِ بِالْكَلَامِ فِي الدَّمِ ، وَفِي كُلِّ فَصْلٍ إشْكَالٌ ، وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ ذَلِكَ : رُوِيَ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ قَتَلَ رَجُلًا غِيلَةً بِسَبَبٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ؛ وَطَرَحَهُ بَيْنَ قَوْمٍ ، وَكَانَ قَرِيبُهُ ، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِمْ ، تَرَافَعُوا إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ الْقَاتِلُ : قَتَلَ قَرِيبِي هَذَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، فَانْتَفُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَسَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِرَغْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَبْيِينِ الْحَقِّ لَهُمْ ؛ فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى ؛ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَأَخْذِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَيِّتُ فَيَحْيَا فَيُخْبِرُهُمْ بِقَاتِلِهِ ؛ فَسَأَلُوا عَنْ أَوْصَافِهَا وَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى صِفَتِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ، فَطَلَبُوا تِلْكَ الْبَقَرَةَ فَلَمْ يَجِدُوهَا إلَّا عِنْدَ رَجُلٍ بَرٍّ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا ؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ فِيهَا مِسْكَهَا مَمْلُوءًا ذَهَبًا ، فَبَذَلُوهُ فِيهَا ، فَاسْتَغْنَى ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ فَقْرِهِ ، وَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا ، فَقَالَ : فُلَانٌ قَتَلَنِي ، لِقَاتِلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : كَثُرَ اسْتِرْسَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } .
وَمَعْنَى هَذَا [ الْخَبَرِ ] الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِمَا يُخْبِرُونَ [ بِهِ ] عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقِصَصِهِمْ لَا بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْعَدَالَةِ وَالثُّبُوتِ إلَى مُنْتَهَى الْخَبَرِ ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قَوْمِهِ ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ .
وَإِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَرْعٍ لَمْ يَلْزَمْ قَوْلُهُ ؛ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ ، عَنْ { عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُمْسِكُ مُصْحَفًا قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قُلْت : جُزْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ ؛ فَغَضِبَ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ حُكْمٍ جَرَى فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ أَمْ لَا ؟ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، وَالْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ أَمْ لَا ؟ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا وَلِنَبِيِّنَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالشَّرِيعَةِ مَعَنَا ، وَبِهِ قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَقَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْر الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الثَّانِي : أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الرَّابِعُ : أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الْخَامِسُ : أَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِشَرْعِ أَحَدٍ ، وَلَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ بَشَرٍ ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ .
وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَّا وَقَدْ نَزَعَ فِيهِ بِآيَةٍ ، وَتَلَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَرْفًا ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا لَنَا مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِفَسَادِ الطُّرُقِ إلَيْهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أُصُولِهِ كُلِّهَا ، وَسَتَرَاهَا مَوْرُودَةً بِالتَّبْيِينِ حَيْثُ تَصَفَّحْت الْمَسَائِلَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَوْ غَيْرِهِ .
وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْ قَصَصِ النَّبِيِّينَ ، فَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الِازْدِجَارِ وَذِكْرِ الِاعْتِبَارِ فَفَائِدَتُهُ الْوَعْظُ ،

وَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الِامْتِثَالُ لَهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ ، وَبِهَذَا يَقَعُ الرَّدُّ عَلَى ابْنِ الْجُوَيْنِيِّ حَيْثُ قَالَ : إنَّ نَبِيَّنَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا بَاحَثَهُمْ عَنْ حُكْمٍ ، وَلَا اسْتَفْهَمَهُمْ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا عِنْدَهُمْ .
أَمَّا الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فَهُوَ الْحَقُّ الْمُفِيدُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا ضَرَبَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْمَيِّتَ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ مِنْ الْبَقَرَةِ قَالَ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ ؛ فَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ بِهَذَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مَقْبُولٌ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ هَذَا آيَةً وَمُعْجِزَةً عَلَى يَدِي مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ قُلْنَا : الْآيَةُ وَالْمُعْجِزَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي إحْيَاءِ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ، وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا مَالِكٌ .
وَلَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ فِي ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَةِ .
قُلْنَا : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ ، أَوْ صَدَّقَهُ جِبْرِيلُ فَقَتَلَهُ مُوسَى بِعِلْمِهِ ، كَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد ، بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كُبْرَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، وَفِي الْمُوَطَّإِ ، وَغَيْرِهِ ، { حَدِيثَ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ قَالَ فِيهِ : فَتَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } .
وَفِي مُسْلِمٍ : { يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَتَلَ

رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : نُسْخَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، قَالُوا : كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدَّمِ ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ .
وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا الْجَوَابَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَنُشِيرُ إلَيْهِ الْآنَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي تَمْضِي وَتَرِدُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهَا ، وَقَدْ تَلَوْنَا أَحَادِيثَهَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا يُقْبَلُ فِي دِرْهَمٍ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ يُقْسَمُ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ قَوْلٌ لِأَحَدٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَالَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ وَيَجْعَلَهُ عِنْدَ دَارِ آخَرَ ؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ ، وَبَاقِي النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَطَرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ [ فِي الْمُعَيَّنِ ] بِالصِّفَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : لَا يُحْصَرُ الْحَيَوَانُ بِصِفَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِحِلْيَةٍ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ : اذْبَحُوا بَقَرَةً بَادَرُوا إلَى أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَامْتَثَلُوا مَا طُلِبَ ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَمَا زَالُوا يَسْأَلُونَ وَيُوصَفُ لَهُمْ حَتَّى تَعَيَّنَتْ .
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ ، وَدَلِيلٌ مَلِيحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا : الْجَرَادَةُ ، تَكْرُمُ عَلَيْهِ وَيَهْوَاهَا ، فَاخْتَصَمَ أَهْلُهَا مَعَ قَوْمٍ فَكَانَ صَغْوُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَهْلِ الْجَرَادَةِ ، فَعُوقِبَ ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَخْلُو بِإِحْدَى نِسَائِهِ أَعْطَاهَا خَاتَمَهُ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُ عَلَى شَيْطَانٍ ، فَجَاءَهَا فَأَخَذَ الْخَاتَمَ فَلَبِسَهُ ، وَدَانَتْ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَهُ ، وَجَاءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُهُ ، فَقَالَتْ : أَلَمْ تَأْخُذْهُ ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ ، وَعَلِمَتْ الشَّيَاطِينُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ لَهَا ؛ فَاغْتَنَمَتْ الْفُرْصَةَ فَوَضَعَتْ أَوْضَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ وَفُنُونًا مِنْ النَّيْرَجَاتِ وَسَطَّرُوهَا فِي مَهَارِقَ ، وَقَالُوا : هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا كَاتِبُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ : وَعَادَ سُلَيْمَانُ إلَى حَالِهِ ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ لِلنَّاسِ : إنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَمْلِكُكُمْ بِأُمُورٍ أَكْثَرُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، فِيهَا عُلُومٌ غَرِيبَةٌ ؛ فَدُونَكُمْ فَاحْتَفِرُوا عَلَيْهَا ، فَفَعَلُوا وَاسْتَثَارُوهَا ، فَنَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ فَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ ،

وَتَنَاقَلَتْهُ الْكَفَرَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ عَنْهُمْ حَتَّى وَصَلَ ذَلِكَ إلَى يَهُودِ الْحِجَازِ ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيُصَرِّفُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ ؛ وَكَانُوا بَيْنَ جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ وَأُمَّةٍ عَمْيَاءَ ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ ، وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ ، وَكَشَفَ قِنَاعَ الْأَلْبَابِ ، لَجَأَتْ الْيَهُودُ إلَى أَنْ تُعَلِّقَ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ حَمَلَ قَوْمًا قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِمَّا فِيهِ الْحَرَجُ فِي ذِكْرِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَنَا أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْهُمْ فِي حَدِيثٍ يَعُودُ إلَيْهِمْ ، وَمَا كُنَّا لِنَذْكُرَ هَذَا لَوْلَا أَنَّ الدَّوَاوِينَ قَدْ شُحِنَتْ بِهِ .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ صَغُوهُ صِحَّةَ الْحُكْمِ لِقَوْمِ الْجَرَادَةِ ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ ، فَأَخَذَ الْخَاتَمَ ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَتَصَوَّرُ عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي " كِتَابِ النَّبِيِّ " .
وَأَمَّا دَفْنُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُمْكِنُ أَلَّا يَعْلَمَ بِذَلِكَ وَتَبْقَى حَتَّى يُفْتَتَنَ بِهَا الْخَلْقُ بَعْدَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَهَا وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا سِحْرٌ

فَحَقُّهَا أَنْ تُحْرَقَ أَوْ تُغْرَقَ ، وَلَا تَبْقَى عُرْضَةً لِلنَّقْلِ وَالْعَمَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا } : قِيلَ : يَهُودُ زَمَانِ سُلَيْمَانَ ، وَقِيلَ يَهُودُ زَمَانِنَا ، وَاللَّفْظُ فِيهِمْ عَامٌّ ، وَلِجَمِيعِهِمْ مُحْتَمِلٌ ، وَقَدْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِهَذَا الْبَاطِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَرْفِ " مَا " : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَفْيٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَفْعُولٌ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ نَفْيٌ ، لَا فِي نِظَامِ الْكَلَامِ ، وَلَا فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى ، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا سِيَاقُ الْكَلَامِ بِمُحَالٍ عَقْلًا ، وَلَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا .
وَتَقْرِيرُهُ : وَاتَّبَعَ الْيَهُودُ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، أَيْ نَسَبَتْهُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلَنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ مَا لَمْ يُلْقِهِ النَّبِيُّ ، يُحَاكِيهِ وَيُلَبِّسُ عَلَى السَّامِعِينَ بِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ قَطُّ وَلَا سَحَرَ ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِسِحْرِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ ؛ وَمُعْتَقِدُ الْكُفْرِ كَافِرٌ ، وَقَائِلُهُ كَافِرٌ ، وَمُعَلِّمُهُ كَافِرٌ ، وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، وَمَا كَانَ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا : { إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ }

فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : كَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاطِلَ وَالْكُفْرَ ؟ قُلْنَا : كُلُّ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { مَاذَا فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْخَزَائِنِ ؟ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نُزُولِ الْفِتَنِ عَلَى الْخَلْقِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ نَزَّلَ الْكُفْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ وَيُعَلِّمُوهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِبَابِلَ عِلْجَانِ ، وَقَدْ بَلَغَ التَّغَافُلُ أَوْ الْغَفْلَةُ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى قَالَ : إنَّمَا هُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } أَيْ فِي أَيَّامِهِمَا .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } يَعْنِي : الشَّيَاطِينَ .
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ : أَطَلَعَتْ الْحَمْرَاءُ ؟ قُلْت : طَلَعَتْ .
قَالَ : لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا ، وَأَرَاهُ لَعَنَهَا .
قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ ، نَجْمٌ مُسَخَّرٌ مُطِيعٌ تَلْعَنُهُ ؟ قَالَ : مَا قُلْت لَك إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجَّتْ مِنْ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ صَبْرُك عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ ؟ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَكَانَهُمْ ، وَيَحُلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَحَلَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ لَعَمِلُوا بِعَمَلِهِمْ ، وَقَدْ أَعْطَيْت بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنْ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي .
قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ، وَابْتَلَيْتَنَا ، لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ ، وَمَا عَصَيْنَاك .
فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ ، فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَقَالَا : نَحْنُ نَنْزِلُ ؛ وَأَعْطِنَا الشَّهَوَاتِ ، وَكَلِّفْنَا الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ .
فَنَزَلَا بِبَابِلَ ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إذَا أَمْسَيَا عَرَجَا إلَى مَكَانِهِمَا ، فَفُتِنَا بِامْرَأَةٍ حَاكَمَتْ زَوْجَهَا

اسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزَّهْرَةُ وَبِالنَّبَطِيَّةِ بيرخت وَبِالْفَارِسِيَّةِ أقاهيد فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّهَا لَتُعْجِبُنِي .
قَالَ لَهُ الْآخَرُ : لَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَقُولَ لَك ذَلِكَ ، فَهَلْ لَك فِي أَنْ تَعْرِضَ لَهَا ؟ قَالَ لَهُ الْآخَرُ : كَيْفَ بِعَذَابِ اللَّهِ .
قَالَ : إنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ .
فَطَلَبَاهَا فِي نَفْسِهَا قَالَتْ : لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي ؛ فَقَضَيَا لَهَا وَقَصَدَاهَا وَأَرَادَا مُوَاقَعَتَهَا ، فَقَالَتْ لَهُمَا : لَا أُجِيبُكُمَا لِذَلِكَ حَتَّى تُعَلِّمَانِي كَلَامًا أَصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ ، وَأَنْزِلُ بِهِ مِنْهَا ؛ فَأَخْبَرَاهَا ، فَتَكَلَّمَتْ فَصَعِدَتْ إلَى السَّمَاءِ فَمَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَوْكَبًا ، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا ، لَمْ يُطِيقَا فَأَيْقَنَا بِالْهَلَكَةِ ؛ فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا ، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ فَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ النَّاسَ كَلَامَهُمَا ، وَهُوَ السِّحْرُ .
وَيُقَالُ : كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، فَلَمَّا وَقَعَا فِي الْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِنَّمَا سُقْنَا هَذَا الْخَبَرَ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَوَوْهُ وَدَوَّنُوهُ فَخَشِينَا أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ كُلُّهُ فِي الْعَقْلِ لَوْ صَحَّ فِي النَّقْلِ ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ تَقَعَ الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَيُوجَدَ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كُلِّفُوهُ ، وَتُخْلَقَ فِيهِمْ الشَّهَوَاتُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنْكِرُهُ إلَّا رَجُلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَاهِلٌ لَا يَدْرِي الْجَائِزَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ ، وَالثَّانِي : مَنْ شَمَّ وَرْدَ الْفَلَاسِفَةِ ، فَرَآهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ ، وَإِنَّهُمْ لَا تَرْكِيبَ فِيهِمْ ، وَإِنَّمَا هُمْ بَسَائِطُ ، وَشَهَوَاتُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَكَيْفِيَّتِهِمْ بِمَا لَمْ يُعَايِنُوهُ ، وَلَا نُقِلَ إلَيْهِمْ ، وَلَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ أَحَالُوا عَلَى الْبَسِيطِ أَنْ يَتَرَكَّبَ ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَأْكُلَ الْبَسِيطُ وَيَشْرَبُ وَيَطَأُ ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ الْمُرَكَّبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا الَّذِي اطَّرَدَ فِي الْبَسِيطِ مِنْ عَدَمِ الْغِذَاءِ ، وَفِي الْمُرَكَّبِ مِنْ وُجُودِ الْغِذَاءِ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ غَايَةُ الْقُدْرَةِ ، وَقَدْ مَكَّنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَهَّدْنَاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَخَبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ ، وَهِيَ مَا يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ فَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنْهَا بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَكُلُّ حَقٍّ صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهُ خَبَرٌ عَامٌّ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّخْصِيصُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا .
وَقَدْ رَوَى سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ دُخِلَ إلَيْهِمَا فِي مَغَارِهِمَا وَكُلِّمَا ، وَتُعُلِّمَ مِنْهُمَا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ التَّعَلُّمُ مِنْهُمَا إلَّا سَمَاعَ كَلَامِهِمَا ، وَهُمَا إذَا تَكَلَّمَا إنَّمَا يَقُولَانِ : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَجْعَلْ مَا تَسْمَعُ مِنَّا سَبَبًا لِلْكُفْرِ ، كَمَا جَعَلَ السَّامِرِيُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ سَبَبًا لِاِتِّخَاذِ الْعِجْلِ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ .
وَفِي هَذَا مِنْ الْعِبْرَةِ : الْخَشْيَةُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْخَاتِمَةِ ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِظَاهِرِ الْحَالَةِ ، وَالْخَوْفُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهَذَا بَلْعَامُ فِي الْآدَمِيِّينَ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، فَأَنْزِلُوا كُلَّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ ، وَتَحَقَّقُوا مِقْدَارَهُ فِي دَرَجَتِهِ حَسْبَمَا رَوَيْنَاهُ ، وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ بَعْضٍ فَتَجْهَلُوا جَمِيعَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ وَمُنْتَهَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَشْفِي الْغَلِيلَ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ فِعْلَ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمِنْهُ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَيُسَمَّى التُّوَلَةُ ، وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ ، كُفْرٌ قَالَهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السِّحْرُ مَعْصِيَةٌ إنْ قَتَلَ بِهَا السَّاحِرُ قُتِلَ ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهَا أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ السِّحْرَ ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتُنْسَبُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } مِنْ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بِقَوْلِ السِّحْرِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ يَقُولَانِ : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } يَعْنِي : بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ، وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْقِ بِهَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ } هُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ نَفْعٌ لِمَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ مِنْ بُلُوغِ الْغَرَضِ ، وَحَقِيقَتُهُ مُضِرَّةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ؛ وَحَقِيقَةُ الضَّرَرِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّ أَلَمٍ لَا نَفْعَ يُوَازِيهِ ، وَحَقِيقَةُ النَّفْعِ كُلُّ لَذَّةٍ لَا يَتَعَقَّبُهَا عِقَابٌ ، وَلَا تَلْحَقُ فِيهِ

نَدَامَةٌ .
وَالضَّرَرُ وَعَدَمُ الْمَنْفَعَةِ فِي السِّحْرِ مُتَحَقِّقٌ

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، رَاعِنَا ، تُوهِمُ أَنَّهَا تُرِيدُ الدُّعَاءَ ، مِنْ الْمُرَاعَاةِ ، وَهِيَ تَقْصِدُ بِهِ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا ، مِنْ الرَّعْيِ ، فَسَمِعَتْهُمْ الْيَهُودُ ، فَقَالُوا : يَا رَاعِنَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ ، لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ الْيَهُودُ فِي اللَّفْظِ وَيَقْصِدُوا الْمَعْنَى الْفَاسِدَ مِنْهُ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعَرُّضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَهْمُ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : بِأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَا : إنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمِلٌ لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ قَوْلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ ، فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالتَّصْرِيحِ .
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ مِنْ التَّصْرِيحِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنَادٌ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيمَنْ نَزَلَتْ ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ بُخْتُ نَصَّرَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ مَانِعُو بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ النَّصَارَى اتَّخَذُوهُ كِظَامَةً .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كُلُّ مَسْجِدٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ؛ فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مُحَالٌ ، فَإِنْ كَانَ فَأَمْثَلُهَا الثَّالِثَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ الْآيَةِ : فَائِدَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمَهَا أَجْرًا كَانَ مَنْعُهَا أَعْظَمَ إثْمًا ، وَإِخْرَابُ الْمَسَاجِدِ تَعْطِيلٌ لَهَا وَقَطْعٌ بِالْمُسْلِمِينَ فِي إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ وَتَأْلِيفِ كَلِمَتِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنَّ قَوْله تَعَالَى : { مَسَاجِدَ اللَّهِ } يَقْتَضِي أَنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَذَلِكَ حُكْمُهَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ إذَا عُيِّنَتْ لِلصَّلَاةِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَمْلَاكِ الْمُخْتَصَّةِ بِرَبِّهَا ، فَصَارَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْفَعَتِهَا وَمَسْجِدِيَّتِهَا ، فَلَوْ بَنَى الرَّجُلُ فِي دَارِهٍ مَسْجِدًا وَحَجَزَهُ عَنْ النَّاسِ ، وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ لَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَسْجِدِيَّةِ ، وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْعَامَّةِ ، وَخَرَجَ عَنْ اخْتِصَاصِ الْأَمْلَاكِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } يَعْنِي إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَحَصَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولِهَا يَعْنِي إنْ دَخَلُوهَا فَعَلَى خَوْفٍ مِنْ إخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مِنْهَا وَأَذِيَّتِهِمْ عَلَى دُخُولِهَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِحَالٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ عَادَ فَصَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ ؛ فَاعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ الْيَهُودُ ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَرَامَةً وَعَلَيْهِمْ حُجَّةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِيُصَلُّوا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ النَّوَاحِي ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، يَتَوَجَّهُ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَى حَيْثُ شَاءَ فِيهَا رَاكِبًا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ قَالَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ ، آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ إلَى قِبْلَتِنَا قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ .
السَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَاهَا أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ السَّبْعَةُ لِقَائِلِيهَا تَحْتَمِلُ الْآيَةُ جَمِيعَهَا .
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ }

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، فَسَنَدٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي النَّظَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ } ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَقَدْ أُسْنِدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُونَ قَدْ رَوَوْهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : تُجْزِئُهُ ، بَيْدَ أَنَّ مَالِكًا رَأَى عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا .
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، فَلَا يَنْتَصِبُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا ، كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالْوَقْتِ .
وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهَا فِي الْمُسَايَفَةِ ، وَتُبِيحُهَا أَيْضًا الرُّخْصَةُ حَالَةَ السَّفَرِ ، فَكَانَتْ حَالَةَ عُذْرٍ أَشْبَهَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ لَا يُبِيحُ تَرْكَهُ إلَى الْمَاءِ النَّجِسِ ضَرُورَةٌ فَلَا يُبِيحُهُ خَطَأٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أَيْ : ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ وَخَلْقٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ إلَيْهِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } قِيلَ : مَعْنَاهُ فَثَمَّ اللَّهُ ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ عَنْهُ تَعَالَى ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ ، وَيَكُونُ الْوَجْهُ اسْمًا لِلتَّوَجُّهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِبَادَةً ، وَفَرَضَ فِيهَا الْخُشُوعَ اسْتِكْمَالًا لِلْعِبَادَةِ ، وَأَلْزَمَ الْجَوَارِحَ السُّكُونَ ، وَاللِّسَانَ الصَّمْتَ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَصْبَ الْبَدَنِ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَكَاتِ ، وَأَقْعَدَ لِلْخَوَاطِرِ ، وَعُيِّنَتْ لَهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَشْرِيفًا لَهُ .
وَقِيلَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قِبَلَ وَجْهِك ، مَعْنَاهُ أَنَّك قَصَدْت التَّوَجُّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ عُيِّنَ لَك هَذَا الصَّوْبُ ، فَهُنَالِكَ تَجِدُ ثَوَابَك ، وَتَحْمَدُ إيَابَك .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَنْزِيلِ الْآيَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ : لَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَتَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِكُلِّ حَالٍ ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي وَقْتٍ ، وَإِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فِي الْفَرْضِ وَالْحَضَرِ فِيهَا أَيْضًا ، وَبَقِيَتْ عَلَى النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ابْتَلَى مَعْنَاهُ اخْتَبَرَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرَ لِيَعْلَمَ مِنْ الِامْتِثَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَ غَيْبًا ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ ، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ تَعَلُّقًا وَاحِدًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِكَلِمَاتٍ } هِيَ : جَمْعُ كَلِمَةٍ ، وَيَرْجِعُ تَحْقِيقُهَا إلَى كَلَامِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِهَا عَنْ الْوَظَائِفِ الَّتِي كَلَّفَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ ، كَمَا يُسَمَّى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلِمَةً ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْكَلِمَةِ ، وَهِيَ : كُنْ ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ قِسْمِي الْمَجَازِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، لُبَابُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ ، فَأَكْمَلَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَا قَامَ أَحَدٌ بِوَظَائِفِ الدِّينِ مِثْلُهُ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَبْلَهُ ؛ فَقَدْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، وَخُصُوصًا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْفِطْرَةُ الَّتِي أَوْعَزَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إلَيْهِ ، وَرَتَّبَهَا عَلَيْهِ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ

وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ } .
وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : { الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ } ، وَزَادَ : { الْخِتَانُ } ، وَذَكَرَ { الِانْتِضَاحُ } بَدَلَ { انْتِقَاصُ الْمَاءِ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا : { مِنْ الْفِطْرَةِ } يَعْنِي مِنْ السُّنَّةِ ، وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ اُبْتُلِيَ بِهَا فَرْضًا ، وَهِيَ لَنَا سُنَّةٌ ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اُبْتُلِيَ بِهَا تَكْلِيفًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ فِي جَمِيعِهَا أَوْ انْقِسَامِ الْحَالِ فِيهَا .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَرَاتِبِهَا ؛ فَأَمَّا قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَمُخَالَفَةٌ لِلْأَعَاجِمِ فَإِنَّهُمْ يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ ، وَيُوَفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ ، أَوْ يُوَفِّرُونَهُمَا مَعًا ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْجَمَالِ وَالنَّظَافَةِ .
وَأَمَّا السِّوَاكُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَلِتَنْظِيفِ الْفَمِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْقَلَحِ .
وَأَمَّا قَصُّ الْأَظْفَارِ فَلِتَنْزِيهِ الطَّعَامِ عَمَّا يَلْتَئِمُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهَا وَالْأَقْذَارِ .
وَأَمَّا غَسْلُ الْبَرَاجِمِ فَلِمَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْأَوْسَاخِ فِي غُضُونِهَا .
وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ تَنْظِيفًا عَمَّا يَتَلَبَّدُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهِمَا عَلَى شَعْرِهِمَا وَمِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ الرَّمَصِ فِيهِمَا ، وَالِاسْتِنْجَاءُ لِتَنْظِيفِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَطْبِيبِهِ عَنْ الْأَذَى وَالْأَدْوَاءِ .
وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِنَظَافَةِ الْقُلْفَةِ عَمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ أَذَى الْبَوْلِ فِيهَا ، وَلَمْ يَخْتَتِنْ أَحَدٌ قَبْلَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ إخْوَتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ،

وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ تُكْشَفُ لَهُ الْعَوْرَةُ وَلَا يُبَاحُ الْحَرَامُ إلَّا لِلْوَاجِبِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلَمَّا أَتَمَّ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَظَائِفَ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } .
سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى بِمَالِهِ لِلضِّيفَانِ ، وَبِبَدَنِهِ لِلنِّيرَانِ ، وَبِقَلْبِهِ لِلرَّحْمَنِ .

الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى فَضْلِهِ ، وَتَعْدِيدٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي مِنْهَا جَعَلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْعَرَبِ عُمُومًا وَلِقُرَيْشٍ خُصُوصًا مَثَابَةً لِلنَّاسِ أَيْ مَعَادًا فِي كُلِّ عَامٍ لَا يَخْلُو مِنْهُمْ ، يُقَالُ : ثَابَ إلَى كَذَا أَيْ : رَجَعَ وَعَادَ إلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ عَادَ إلَيْهِ .
قُلْنَا : لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْجُمْلَةِ ، وَلَمْ يَعْدَمْ قَاصِدًا مِنْ النَّاسِ ؛ وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْنًا يَلْقَى الرَّجُلُ فِيهِ قَاتِلَ وَلِيِّهِ فَلَا يُرَوِّعُهُ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } وَكَذَلِكَ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وَهَذَا لِمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَكَّبَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ وَتَفْضِيلِ الْمَوْضِعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي الصِّفَةِ ، بِهَذِهِ الْخِصِّيصَى الْمُعَظَّمَةِ .
وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الْكَلْبَ الْخَارِجَ مِنْ الْحَرَمِ لَا يُرَوِّعُ الصَّيْدَ بِهَا ، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا ؛ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ وَرَدَ بِالْبَيْتِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ كَانَتْ وَعَلَيْهِ دَامَتْ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ وَقَصَدَهُ مُحْتَسِبًا فِيهِ لِمَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ .
وَيَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
الثَّانِي : مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ

فِيمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِهَا لِحَقٍّ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ حَدٍّ يُقَامُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ الْقَاتِلِ ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالسَّارِقِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ الْقِتَالِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مِنَّتِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، حَيْثُ قَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ تَعْظِيمَ هَذَا الْبَيْتِ ، وَتَأْمِينَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ ؛ إجَابَةً لِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ بِهِ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ، فَتَوَقَّعَ عَلَيْهِمْ الِاسْتِطَالَةَ ، فَدَعَا أَنْ يَكُونَ أَمْنًا لَهُمْ فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ : إنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِجَعْلِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ لَا تُقَامُ بِهِ حُجَّةٌ .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحَدِّ فِيهِ فَقَوْلٌ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ ، وَبِهِ اعْتَصَمَ الْحَرَمُ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ وَأَمْرٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَحْرَى أَلَا يَقْتَضِيهِ الْفَرْعُ .
وَأَمَّا الْأَمْنُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ [ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ ] بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّحْلِيلِ لِلْقِتَالِ ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَحْلِيلٌ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ النُّبُوَّةِ إلَى

يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ امْتِنَاعِ تَحْلِيلِ الْقِتَالِ شَرْعًا لَا عَنْ مَنْعِ وُجُودِهِ حِسًّا .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ : هُوَ مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ ، مِنْ قَامَ ، كَمَضْرَبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْضًا ، مِنْ ضَرَبَ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ ؛ وَالتَّقْدِيرُ : " وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَنَاسِكِ إبْرَاهِيمَ فِي الْحَجِّ عِبَادَةً وَقُدْوَةً " .
وَالْأَكْثَرُ حَمَلَهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي بَعْضِهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ : فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي جَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ حِينَ غَسَلَتْ زَوْجُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَأْسَهُ .
وَقَدْ رَأَيْت بِمَكَّةَ صُنْدُوقًا فِيهِ حَجَرٌ ، عَلَيْهِ أَثَرُ قَدَمٍ قَدْ انْمَحَى وَاخْلَوْلَقَ ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ : هَذَا أَثَرُ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي دَعَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ رَبَّهُ تَعَالَى حِينَ اسْتَوْدَعَ ذُرِّيَّتَهُ .
فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ قَالَ : مَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا مُصَلًّى : مَدْعَى أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ .
وَمَنْ خَصَّصَهُ قَالَ : مَعْنَاهُ مَوْضِعًا لِلصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ ثَبَتَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ : وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } .
الْحَدِيثَ ، { فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَهُ مَشَى إلَى الْمَقَامِ الْمَعْرُوفِ الْيَوْمَ ، وَقَرَأَ : { وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ } ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ الْمَقَامُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَأَنَّهَا الْمُتَضَمِّنَةُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا مُطْلَقِ الدُّعَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَرَّفَ وَقْتَ

الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَهُوَ عَقِبَ الطَّوَافِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَوْضَحَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ ، فَمَنْ تَرَكَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْيَهُودُ ، عَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ رُجُوعَهُمْ إلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَوَّلًا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، حَتَّى إذَا دَانَى الْيَهُودَ فِي قِبْلَتِهِمْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى إجَابَتِهِمْ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى تَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الدِّينِ ، فَقَابَلَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ ، فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لَهُ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَجْهُهُ ، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ ، فَحَيْثُمَا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ ؛ وَصَحَّ ذَلِكَ فِيهِ .
وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ : الْخِيَارُ ، وَهُوَ الْعَدْلُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنْ وَسَطِ الشَّيْءِ .
، وَلَيْسَ لِلْوَسَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مُلْتَقَى الطَّرَفَيْنِ هَهُنَا دُخُولٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ آخِرُ الْأُمَمِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخِيَارَ الْعَدْلَ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فَأَنْبَأَنَا رَبُّنَا تَعَالَى بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ تَفْضِيلِهِ لَنَا بِاسْمِ الْعَدَالَةِ ، وَتَوْلِيَتِهِ خُطَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلِيقَةِ ، فَجَعَلَنَا أَوَّلًا مَكَانًا ، وَإِنْ كُنَّا آخِرًا زَمَانًا ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ } .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إلَّا الْعُدُولُ ، وَلَا يَنْفُذُ عَلَى الْغَيْرِ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، وَذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَصْدِيقِكُمْ لِنَبِيِّكُمْ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَالْأُصُولِيُّونَ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاتُكُمْ ، زَادَ أَشْهَبُ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : قَالَ مَالِكٌ : " أَقَامَ النَّاسُ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ؛ ثُمَّ أُمِرُوا بِالْبَيْتِ ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ أَيْ : فِي صَلَاتِكُمْ إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ " .
قَالَ : وَإِنِّي لَأَذْكُرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ : إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ الْإِيمَانِ فَلِمَ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ .
وَهَذَا تَنَاقُضٌ ، فَحَقِّقُوا وَجْهَ التَّقَصِّي عَنْهُ .
فَالْجَوَابُ : إنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ لَمْ يَبْعُدْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ } وَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى تَارِكُهَا كَافِرًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْأُصُولِيُّونَ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ إيمَانًا وَتَرْكُهَا كُفْرًا مَجَازًا .
الثَّانِي : أَنْ يُرْجَعَ ذَلِكَ إلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ اعْتِقَادِ نَفْيِ وُجُوبِهَا ؛

وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ بَلْ يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّهَا تُسَمَّى إيمَانًا ، وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَعَهْدِ الْإِسْلَامِ .
وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَالْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ قَالَتْ : لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْجَنَّةِ ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ ، وَعُلَمَاؤُنَا الْفُقَهَاءُ قَالُوا : هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ ، قَضَتْ بِذَلِكَ آيُ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } .
فَقَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَظَائِرُهُمَا عَلَى كُلِّ مُتَشَابِهٍ جَاءَ مُعَارِضًا فِي الظَّاهِرِ لَهُمَا ؛ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تُسَمَّى الصَّلَاةُ إيمَانًا فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ ، وَيُحْكَمُ لِتَارِكِهَا بِالْمَغْفِرَةِ تَخْفِيفًا وَرَحْمَةً .
وَيُحْمَلُ مَا جَاءَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } وَنَحْوُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : عَلَى التَّغْلِيظِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِعْلَ الْكَافِرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ دَمَهُ ، كَمَا أَبَاحَهُ فِي الْكَافِرِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } الشَّطْرُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الشَّيْءِ ، وَيُقَالُ عَلَى الْقَصْدِ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعَايِنًا لِلْبَيْتِ ، وَمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ .
وَذَكَرَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ ، كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } الْكَعْبَةَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، وَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُجَاوِرُهُ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَرِّفَ أَنَّ مَنْ بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ النَّاحِيَةَ لَا عَيْنَ الْبَيْتِ ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ [ نَظَرُهُ وَ ] قَصْدُهُ ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا إلَّا لِلْمُعَايِنِ ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْمُعَايِنُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَإِذَا بِهِ قَدْ زَهَقَ عَنْهُ ، فَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ ؛ وَأَضْيَقُ مَا تَكُونُ الْقِبْلَةُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْقِبْلَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ فَرْضُ الْغَائِبِ عَنْ الْكَعْبَةِ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ ؟ أَوْ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : [ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ ] ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْجِهَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ ، إذْ قَالَ : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَضْعَافُ عَرْضِ الْبَيْتِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ أَوْ طَالَ وَعَرُضَ

أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يُقَابِلَ [ جَمِيعَ ] الْبَيْتِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } وَهِيَ مُشْكِلَةٌ ، لُبَابُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْوِجْهَةَ هِيَ هَيْئَةُ التَّوَجُّهِ كَالْقِعْدَةِ بِكَسْرِ الْقَافِ : هَيْئَةُ الْقُعُودِ ، وَالْجِلْسَةِ : هَيْئَةُ الْجُلُوسِ ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ ؛ الْمَعْنَى لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ حَالَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى لِكُلٍّ وِجْهَةٌ فِي الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَفِي الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ ، أَيْ لِأَهْلِ كُلِّ جِهَةٍ مِنْ الْآفَاقِ وِجْهَةٌ مِمَّنْ بِمَكَّةَ وَمِمَّنْ بَعُدَ ، لَيْسَ بَعْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْبَعْضِ فِي الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَلَّى جَمِيعَهَا وَشَرَعَ جُمْلَتَهَا ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْمُعَايَنَةِ ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْقَصْدِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ .
وَقُرِئَ : هُوَ مُوَلَّاهَا ، يَعْنِي الْمُصَلِّيَ ؛ التَّقْدِيرُ : الْمُصَلِّي هُوَ مُوَجَّهٌ نَحْوَهَا ، وَكَذَلِكَ قَبْلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هُوَ مُوَلِّيهَا ؛ إنَّ الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّ الْمُصَلِّيَ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَهَا ؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ ، وَأَشْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْخَبَرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } مَعْنَاهُ ، افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ ، مِنْ السَّبْقِ ، وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْأَوَّلِيَّةِ ، وَذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إلَى الطَّاعَاتِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَفِي التَّفْضِيلِ اخْتِلَافٌ ؛ وَأَعْظَمُ مُهِمٍّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِهِ الصَّلَاةُ ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ؛ لِظَاهِرِ هَذِهِ وَغَيْرِهَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : آخِرُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَصَّلَ الْقَوْلَ ؛ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهِمَا أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ .
وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لِلْفَذِّ ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُؤَخَّرُ " عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْمَشْهُورُ فِي الْعِشَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا لَيْلَةً حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا ، ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُهَا هَكَذَا .
} وَأَمَّا الظُّهْرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي النَّاسَ عَلَى غَفْلَةٍ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا حَتَّى يَتَأَهَّبُوا وَيَجْتَمِعُوا .
وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ .
وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا ؛ فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ ، وَفَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَجْهُولٌ ، وَتَحْصِيلُ الْمَعْلُومِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الصُّبْحُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصُّبْحِ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا

يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ } .
وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [ فِي الصُّبْحِ أَيْضًا ] : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَآهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ } .
وَالصُّبْحُ كَانُوا أَوْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ } ؛ مَعْنَاهُ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ كَانَ يُغَلِّسُ بِهَا .
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ اُقْتُدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ اُمْتُثِلَ أَمْرُهُ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُعَادِلُ الْمُبَادَرَةَ إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ شَيْءٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ } .
قَالَ : رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ ؛ فَإِنَّ رِضْوَانَهُ لَلْمُحْسِنِينَ ، وَعَفْوَهُ لَلْمُقَصِّرِينَ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ } .
وَلَعَلَّهُ فِي السَّفَرِ إذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ ، إذْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَبْرِدُوا حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ } .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } وَفِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ ، وَالشَّهِيدُ حَيٌّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَكَمَا أَنَّ الشَّهِيدَ فِي حُكْمِ الْحَيِّ فَلَا يُغَسَّلُ ، فَكَذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَطْهِيرٌ ، وَقَدْ طُهِّرَ بِالْقَتْلِ ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ شَفَاعَةٌ وَقَدْ أَغْنَتْهُ عَنْهَا الشَّهَادَةُ ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُهَا ، وَسُقُوطُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَشْرُوطِ .
وَمَا رُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِمْ ، لَا يَصِحُّ فِيهِ طَرِيقُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا سِوَاهُ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَقَالَ : كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكُوا عَنْهُمَا ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } يَعْنِي مِنْ مَعَالِمِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ ، وَمِنْهُ إشْعَارُ الْهَدْيِ أَيْ إعْلَامُهُ بِالْجَرْحِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي : مَا حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْعَرَ بِهِ إبْرَاهِيمُ ، أَيْ أَعْلَمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } الْجُنَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَيْلِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ ، وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالْمَيْلِ إلَى الْإِثْمِ ، ثُمَّ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْإِثْمِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْهَمِّ وَالْأَذَى ، وَجَاءَ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَهِيَ مُعَارَضَةُ الْآيَةِ ، وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ { عُرْوَةَ قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الْآيَةُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي ، إنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَهَا لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا } ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ : إنَّ هَذَا الْعِلْمُ ، أَيْ مَا سَمِعْت بِهِ .
تَحْقِيقُ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَفْهِيمُهُ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : لَا جُنَاحَ عَلَيْك أَنْ تَفْعَلَ ، إبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ ، وَقَوْلَهُ : ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك أَلَا تَفْعَلَ ) إبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ ؛ فَلَمَّا سَمِعَ عُرْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قَالَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الطَّوَافِ جَائِزٌ ، ثُمَّ رَأَى الشَّرِيعَةَ مُطْبِقَةً عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ ، فَطَلَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَيْسَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ

عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الطَّوَافِ ؛ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ لَوْ كَانَ : ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ ) .
فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ؛ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الطَّائِفَ قَصْدًا بَاطِلًا .
فَأَدَّتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا ، وَسَلَّ سَخِيمَةَ الْحَرَجِ الَّتِي كَانَتْ فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أَيْ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَمَشْرُوعَاتِهِ ، لَا مِنْ مَوَاضِعِ الْكُفْرِ ، وَمَوْضُوعَاتِهِ ؛ فَمَنْ جَاءَ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الطَّوَافِ بِهِمَا .
وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ : [ قَالَ الْفَرَّاءُ ] : مَعْنَى قَوْلِهِ : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) مَعْنَاهُ أَنْ يَطُوفَ ، وَحَرْفُ " لَا " زَائِدَةٌ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ " لَا " زَائِدَةً .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا فَقِيهٌ يُعَادِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ قَرَرَتْهَا غَيْرَ زَائِدَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَتْ مَعْنَاهَا ، فَلَا رَأْيَ لِلْفَرَّاءِ وَلَا غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِرُكْنٍ .
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُكْنٌ ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ : يُجْزِئُ تَارِكَهُ الدَّمُ .
وَمُعَوَّلُ مَنْ نَفَى وُجُوبَهُ وَرُكْنِيَّتَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا } .
صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَيَعْضُدُهُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ شِعَارٌ لَا يَخْلُو عَنْهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ، فَكَانَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ أَوْ تَرْكِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَنْفِي رُكْنِيَّةَ السَّعْيِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ تَرْكِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بِفِعْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ .
وَالتَّطَوُّعُ هُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا إلَى أَيِّ مَعْنَى يَعُودُ رَفْعُ الْجُنَاحِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ } إشَارَةً إلَى السَّعْيِ وَاجِبٌ ، فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشْكُرُ ذَلِكَ لَهُ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ .
قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ : قَالَ عُرْوَةُ : الْآيَةَ { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَأَمْثَالِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ .
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا

إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ لِي كَثِيرٌ مِنْ أَشْيَاخِي : إنَّ الْكَافِرَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ لَا تُعْلَمُ ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي إطْلَاقِ اللَّعْنَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا } ؛ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ لَعْنِهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ ، كَجَوَازِ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي ، قَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْت بِشَاعِرٍ فَالْعَنْهُ ، اللَّهُمَّ وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي } فَلَعَنَهُ .
وَقَدْ كَانَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْإِيمَانِ مَآلُهُ ، وَانْتَصَفَ بِقَوْلِهِ : { عَدَدَ مَا هَجَانِي } .
وَلَمْ يَزِدْ لَيُعَلِّمَ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ وَالِانْتِصَافَ ، وَأَضَافَ الْهَجْوَ إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي بَابِ الْجَزَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِالْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ ، كَمَا يُضَافُ إلَيْهِ الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا يَجُوزُ إصْغَارُهُ فَكَذَلِكَ لَعْنُهُ .

( تَرْكِيبٌ ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَأَمَّا الْعَاصِي الْمُعَيَّنُ ، فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ اتِّفَاقًا ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيءَ إلَيْهِ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ : مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ } ؛ فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَيَجُوزُ إجْمَاعًا ، لِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّ مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } .
وَاَلَّذِي عِنْدِي صِحَّةُ لَعْنِهِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ وَافَى كَافِرًا بِظَاهِرِ الْحَالِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَفَرَةِ مِنْ لَعْنَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَالَةٌ أُخْرَى ، وَبَيَانٌ لِحُكْمٍ آخَرَ وَحَالَةٍ وَاقِعَةٍ تَعْضُدُ جَوَازَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ لِجَوَازِ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا ، فَيَكُونُ لِلْآيَتَيْنِ مَعْنَيَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ لَعْنَةِ اللَّهِ لِمَنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكُفْرِ ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوَافَاتَهُ مُؤْمِنًا ؟ قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ ، وَلَكِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ حُكْمُهُ بِجَوَازِ لَعْنِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَخْذًا بِظَاهِرِ حَالِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَآلِهِ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا } : وَهِيَ كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ ؛ فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَقَدْ حَصَرَتْ هَاهُنَا الْمُحَرَّمَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عَقِبَ الْمُحَلَّلِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } .
فَأَدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِالْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةِ " إنَّمَا " الْحَاصِرَةِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابَ لِلْقِسْمَيْنِ ؛ فَلَا مُحَرَّمَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ ، وَأَكَّدَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } إلَى آخِرِهَا فَاسْتَوَى الْبَيَانُ أَوَّلًا وَآخِرًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْمَيْتَةَ } .
وَهِيَ الْإِطْلَاقُ عُرْفًا ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ حُكْمًا مَا مَاتَ مِنْ الْحَيَوَانِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ بِذَكَاةٍ ، أَوْ مَقْتُولًا بِغَيْرِ ذَكَاةٍ ، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَسْتَبِيحُهُ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَجَادَلُوا فِيهِ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي شَعْرِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا : وَيَأْتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } .
ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ : فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي الْجَرَادِ وَالسَّمَكِ ، وَأَجَازَ أَكْلَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ وَلَا ذَكَاةٍ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ فِي السَّمَكِ وَأَجَازَهُ فِي الْجَرَادِ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَمَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ .
وَلَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمَكِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ جِدًّا : فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ ، فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا .
قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا

حَتَّى سَمِنَّا ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ : فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ، فَأَكَلَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَيَعْضُدُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } .
فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ وَتُكَلِّفُ أَخْذُهُ ، وَطَعَامُهُ مَا طَفَا عَلَيْهِ ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي السَّمَكِ خَاصَّةً ، وَرَأَى أَكْلَ مَيْتَتِهِ ، وَمَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْجَرَادِ إلَّا بِذَكَاةٍ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَجْرِي عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُخَصِّصَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، أَوْ الْآيَةُ الظَّاهِرَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ كِلَاهُمَا فِي السَّمَكِ ، وَلَيْسَ فِي الْجَرَادِ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ مَيْتَتِهِ .
أَمَّا أَكْلُ الْجَرَادِ فَجَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِيهِ أَخْبَارٌ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى : { غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ } .
وَرَوَى سَلْمَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هُوَ أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ } ، وَلَمْ يَصِحَّ .
بَيْدَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ أَكَلَتْهُ ، وَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَكَاةٍ عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ كَعْبُ : إنَّهُ نَتْرَةُ حُوتٍ .
قُلْنَا : لَا يَنْبَنِي عَلَى قَوْل كَعْبٍ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّا يَلْزَمُنَا تَصْدِيقُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا

تَكْذِيبُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالدَّمَ } : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَقَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا مُطْلَقًا ، وَعَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُقَيَّدًا بِالْمَسْفُوحِ ، وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ هَاهُنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إجْمَاعًا .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَا يُعْزَى إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الدَّمِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُخَصَّصْ ، وَأَنَّ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لَحْمٌ ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ بَيَانٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ } .
اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ [ لَحْمَ ] الْخِنْزِيرِ حَرَامٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ .
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُذْبَحُ لِلْقَصْدِ إلَى لَحْمِهِ ، وَقَدْ شَغَفَتْ الْمُبْتَدَعَةُ بِأَنْ تَقُولَ : فَمَا بَالُ شَحْمِهِ ، بِأَيِّ شَيْءٍ حُرِّمَ ؟ وَهُمْ أَعَاجِمُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ قَالَ لَحْمًا فَقَدْ قَالَ شَحْمًا ، وَمَنْ قَالَ شَحْمًا فَلَمْ يَقُلْ لَحْمًا ؛ إذْ كُلُّ شَحْمٍ لَحْمٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ لَحْمٍ شَحْمًا مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ ؛ وَهُوَ لَحْمٌ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ اللَّحْمِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ شُكْرٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ شُكْرٍ حَمْدًا مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ النِّعَمِ ، وَهُوَ حَمْدٌ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْمُنْعِمِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَتِهِ : فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ نَجِسٌ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ طَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْحَيَاةُ .
وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَبَيَّنَّاهُ طَرْدًا وَعَكْسًا ، وَحَقَّقْنَا مَا فِيهِ مِنْ الْإِحَالَةِ [ وَالْمُلَاءَمَةِ ] وَالْمُنَاسَبَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ بِمَا لَا مَطْعَن فِيهِ ، وَهَذَا يُشِيرُ بِك إلَيْهِ ، فَأَمَّا شَعْرُهُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } وَمَوْضِعُهَا سُورَةُ الْأَنْعَامِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ } .
وَتَصْرِيفُهُ اُفْتُعِلَ مِنْ الضَّرَرِ ، كَقَوْلِهِ : اُفْتُتِنَ مِنْ الْفِتْنَةِ ، أَيْ : أَدْرَكَهُ ضَرَرٌ ، وَوُجِدَ بِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي حَقِيقَةِ الضَّرَرِ وَالْمُضْطَرِّ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
بَيَانُهُ : أَنَّ الضَّرَرَ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ يُوَازِيهِ أَوْ يُرْبِي عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَقِيضُ النَّفْعِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ شُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ وَالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِالضَّرَرِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ الْمُوَازِي لَهُ أَوْ الْمُرْبِي عَلَيْهِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالشَّيْءِ الْمُلْجَأُ إلَيْهِ ، الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْمُ الْمُكْرَهِ إلَّا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ ، كَالْمُرْتَعِشِ وَالْمَحْمُومِ ، لَا يُسَمَّى مُضْطَرًّا وَلَا مُلْجَأً ، وَأَشَرْنَا إلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُضْطَرُّ ، وَقَدْ يَكُونُ [ الْمُضْطَرُّ ] الْمُحْتَاجُ ، وَلَكِنَّ الْمُلْجَأَ مُضْطَرٌّ حَقِيقَةً ، وَالْمُحْتَاجُ مُضْطَرٌّ مَجَازًا .
وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ : إنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ فِعْلًا ، وَهَذَا تَنَازُعٌ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ هُوَ اللُّغَةُ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَالْمُرَادُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ } : أَيْ خَافَ التَّلَفَ ، فَسَمَّاهُ مُضْطَرًّا ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّنَاوُلِ .
وَيَرِدُ الْمُضْطَرُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُكْتَسِبُ الضَّرَرِ ، وَالثَّانِي مُكْتَسِبُ دَفْعِهِ ، كَالْإِعْجَامِ يَرِدُ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ وَبِمَعْنَى نَفْيِهِ ، فَالسُّلْطَانُ يَضْطَرُّهُ أَيْ يُلْجِئُهُ لِلضَّرَرِ ، وَالْمُضْطَرُّ يَبِيعُ مَنْزِلَهُ ، أَيْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِ مَالِهِ .
وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ

مُضْطَرٌّ بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ ، مُضْطَرٌّ بِدَفْعِهِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ ؛ وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مَأْمُورٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا الضَّرَرُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ يَلْحَقُ إمَّا بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ ، أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ ، أَوْ بِفَقْرٍ لَا يَجِدُ فِيهِ غَيْرَهُ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَرْتَفِعُ عَنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَيَكُونُ مُبَاحًا ، فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَيُبِيحُ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى آخِرِ الْإِكْرَاهِ .
وَأَمَّا الْمَخْمَصَةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَضَلَّعَ قَالَهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يَأْكُلُ عَلَى قَدْرِ سَدِّ الرَّمَقِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ ضَرُورَةٌ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ بِيَدِهِ ، وَأَمْلَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَأَقْرَأَهُ وَقَرَأَهُ عُمُرَهُ كُلَّهُ : " يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ " .
وَدَلِيلُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا ، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى خَمْرٍ ، فَإِنْ كَانَ بِإِكْرَاهٍ شَرِبَ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَلَا يَشْرَبُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ ، وَقَالَ : لَا تَزِيدُهُ الْخَمْرُ إلَّا عَطَشًا ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ مُطْلَقًا ، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَيْتَةِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ : إنْ رَدَّتْ الْخَمْرُ عَنْهُ جُوعًا أَوْ عَطَشًا شَرِبَهَا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخِنْزِيرِ : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا فِي الْخَمْرِ : إنَّهَا رِجْسٌ ، فَتَدْخُلُ فِي إبَاحَةِ ضَرُورَةِ الْخِنْزِيرِ ؛ فَالْمَعْنَى الْجَلِيُّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ وَلَوْ سَاعَةً وَتَرُدَّ الْجُوعَ وَلَوْ مُدَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ فَهَلْ يُجِيزُهَا [ بِخَمْرٍ ] أَمْ لَا ؟ قِيلَ : لَا يُسِيغُهَا بِالْخَمْرِ مَخَافَةَ أَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسِيغُهَا ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ دَخَلَ النَّارَ ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَعْيَانًا مَخْصُوصَةً فِي أَوْقَاتٍ مُطْلَقَةٍ ، ثُمَّ دَخَلَ التَّخْصِيصُ بِالدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ ، وَتَطَرَّقَ التَّخْصِيصُ بِالنَّصِّ إلَى بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } ؛ فَرَفَعَتْ الضَّرُورَةُ التَّحْرِيمَ ، وَدَخَلَ التَّخْصِيصُ أَيْضًا بِحَالِ الضَّرُورَةِ إلَى حَالِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَمْلًا عَلَى هَذَا بِالدَّلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ ، فَأَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ كَالْمَيْتَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ يَقُولُ : إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَا يَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ ذَكَرَ أَنَّهَا لَا

تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ شِبَعًا ؛ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ كَانَتْ حَرَامًا ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَبَاحَتْهَا الضَّرُورَةُ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَأَمَّا الْغَاصُّ بِلُقْمَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنْ شَهِدْنَاهُ فَلَا يَخْفَى بِقَرَائِنِ الْحَالِ صُورَةُ الْغُصَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَيُصَدَّقُ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَدَدْنَاهُ ظَاهِرًا وَسَلِمَ مِنْ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } .
فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ نُخْبَتُهَا اثْنَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْبَاغِيَ فِي اللُّغَةِ ، وَهُوَ الطَّالِبُ لِخَيْرٍ كَانَ أَوْ لِشَرٍّ ، إلَّا أَنَّهُ خُصَّ هَاهُنَا بِطَالِبٍ الشَّرِّ ، وَمِنْ طَالِبِ الشَّرِّ الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ .
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } .
وَالْعَادِي ، وَهُوَ : الْمُجَاوِزُ مَا يَجُوزُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ ، وَخُصَّ هَاهُنَا بِقَاطِعِ السَّبِيلِ ، وَقَدْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ الثَّانِي : أَنَّ الْبَاغِيَ آكِلُ الْمَيْتَةِ فَوْقَ الْحَاجَةِ ، وَالْعَادِي آكِلُهَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ : مِنْهُمْ قَتَادَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَادِيَ بَاغٍ ، فَلَمَّا أَفْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ تَعَيَّنَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْآخَرِ ، لِئَلَّا يَكُونَ تَكْرَارًا يَخْرُجُ عَنْ الْفَصَاحَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْقُرْآنِ .
وَالْأَصَحُّ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ طَالِبٍ شَرًّا ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ حَدًّا ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : " غَيْرُ طَالِبٍ شَرًّا " فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ ، وَقَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ .
وَأَمَّا " غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ حَدًّا " فَمَعْنَاهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ حَدَّ الضَّرُورَةِ إلَى حَدِّ الِاخْتِيَارِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الشِّبَعِ ، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ ، وَلَكِنْ مَعَ النُّدُورِ لَا مَعَ التَّمَادِي ؛ { فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ أَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا مِمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَيْتَةٌ حَتَّى أَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ حَلَالٌ } ؛ لَكِنَّ وَجْهَ الْحُجَّةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِحَالِهِمْ جَوَّزَ لَهُمْ أَكْلَهُمْ شِبَعًا وَتَضَلُّعًا مَعَ اعْتِقَادِهِمْ لِضَرُورَتِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ رُخَصَ السَّفَرِ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُبَاحُ لَهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا ، وَالْعَاصِي لَا يَحِلُّ أَنْ يُعَانَ ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْلَ فَلْيَتُبْ وَيَأْكُلْ ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيحُ ذَلِكَ لَهُ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ ؛ فَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَدَمًا وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ وَخَمْرًا وَصَيْدًا حَرَمِيًّا أَوْ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَهَذِهِ صُورَتَانِ : الْأُولَى : الْحَلَالُ يَجِدُهَا ، وَالثَّانِي الْحَرَامُ ؛ فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخَمْرًا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ حَلَالًا بِيَقِينٍ ، وَالْخَمْرُ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّظَرِ ؛ وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَبَعِيرًا ضَالًّا أَكَلَ الْمَيْتَةَ قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ .
فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَكَنْزًا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ أَكَلَ الْكَنْزَ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ .
فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ تَحْتَ حِرْزٍ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ؛ وَلَوْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، فَإِنْ وَجَدَ لَحْمَ بَنِي آدَمَ وَالْمَيْتَةَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ؛ فَإِنَّهَا حَلَالٌ فِي حَالٍ ، وَالْخِنْزِيرُ وَابْنُ آدَمَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ ، وَلَا يَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَأْكُلُ لَحْمَ ابْنِ آدَمَ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ، وَمَيْتَةً ؛ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّيْدَ .
وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ حَيَّةً وَالْخِنْزِيرُ لَا يَحِلُّ ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُخَفَّفُ أَوْلَى أَنْ يُقْتَحَمَ مِنْ التَّحْرِيمِ الْمُثْقَلِ ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً وَطِئَ الْأَجْنَبِيَّةَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ ، وَإِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَخَمْرًا فَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَإِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَمَالَ الْغَيْرِ ، فَإِنْ أَمِنَ الضَّرَرَ فِي بَدَنِهِ أَكَلَ مَالَ الْغَيْرِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ، وَأَمِنَهُ إذَا كَانَ مَالُ الْغَيْرِ فِي الثِّمَارِ أَكْثَرَ مِنْ أَمْنِهِ إذَا كَانَ فِي الْجَرِينِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمَيْتَةِ وَالْآدَمِيِّ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَلَّا يَأْكُلَ الْآدَمِيَّ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِ وَيُحْيِيهِ .
وَإِذَا وَجَدَ

الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَمَيْتَةً أَكَلَ الصَّيْدَ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ مُؤَقَّتٌ ، فَهُوَ أَخَفُّ وَتُقْبَلُ الْفِدْيَةُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ، وَلَا فِدْيَةَ لِآكِلِ الْمَيْتَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا احْتَاجَ إلَى التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِهَا قَائِمَةً بِعَيْنِهَا ، أَوْ يَسْتَعْمِلَهَا مُحْرَقَةً ؛ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بِالْإِحْرَاقِ ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا وَالصَّلَاةُ ، وَخَفَّفَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرْقَ تَطْهِيرٌ لِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ .
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمَرْتَكِ يُصْنَعُ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ إذَا جَعَلَهُ فِي جُرْحِهِ لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ بِعَيْنِهَا فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : لَا يَتَدَاوَى بِهَا بِحَالٍ وَلَا بِالْخِنْزِيرِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مِنْهُ عِوَضًا حَلَالًا ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْمَجَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ عِوَضٌ ، حَتَّى لَوْ وَجَدَ مِنْهَا فِي الْمَجَاعَةِ عِوَضًا لَمْ يَأْكُلْهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا ؛ لِوُجُودِ الْعِوَضِ ، وَلَوْ أُحْرِقَتْ لَبَقِيَتْ نَجِسَةً ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُطَهِّرًا لِلْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا ؟ قَالَ : لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَقَدْ كَانَ الشَّعْبِيُّ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ يَقُولُ : فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَيَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ } .
وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَلَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَإِذَا وَقَعَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَنَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسَرَاهُمْ ، وَإِنْ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ ، وَكَذَا إذَا مَنَعَ الْوَالِي الزَّكَاةَ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ ؟ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَظَرٌ ، أَصَحُّهَا عِنْدِي وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْمَسَاكِينُ } : يَعْنِي : الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ ، وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي الَّذِينَ كَشَفُوا وُجُوهَهُمْ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَفِي الرِّقَابِ } : هُمْ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ قُرْبَةً قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَامٌّ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتَى الزَّكَاةَ } .
قِيلَ الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الْمَالِ فِي أَوَّلِهَا التَّطَوُّعُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا قَدَّرْنَاهُ ، وَبِالزَّكَاةِ هَاهُنَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هَاهُنَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } ؛ فَبَيَّنَ الْمَالَ الْمُؤْتَى وَوَجْهَ الْإِيتَاءِ فِيهِ ، وَهُوَ الزَّكَاةُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمَا فَائِدَتَانِ : الْإِيتَاءُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِهِ ، فَتَارَةً يَكُونُ نَدْبًا ، وَتَارَةً يَكُونُ فَرْضًا ؛ وَالْإِيتَاءُ الثَّانِي هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَهَا الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ لَا يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِعَبْدٍ إلَّا حُرًّا ، وَبِوَضِيعٍ إلَّا شَرِيفًا ، وَبِامْرَأَةٍ إلَّا رَجُلًا ذَكَرًا ، وَيَقُولُونَ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ، فَرَدَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ إلَى الْقِصَاصِ ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَقَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْعَدْلِ بَوْنٌ عَظِيمٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى { كُتِبَ } : فُرِضَ وَأُلْزِمَ ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَالْقِصَاصُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ ؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ كُتِبَ وَفُرِضَ إذَا أَرَدْتُمْ [ اسْتِيفَاءَ ] الْقِصَاصِ فَقَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ، كَمَا يُقَالُ كُتِبَ عَلَيْك إذَا أَرَدْت التَّنَفُّلَ الْوُضُوءُ ؛ وَإِذَا أَرَدْت الصِّيَامَ النِّيَّةُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ؛ فَقِيلَ : هُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ سَائِرُهُمْ : لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ؛ وَإِنَّمَا يَنْقَضِي عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ ، وَتَتْمِيمٌ لِمَعْنَاهُ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
فَائِدَةٌ : وَرَدَ عَلَيْنَا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَقِيهٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْرَفُ بِالزَّوْزَنِيِّ زَائِرًا لِلْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَحَضَرْنَا فِي حَرَمِ الصَّخْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ طَهَّرَهَا اللَّهُ مَعَهُ ، وَشَهِدَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ ، فَسُئِلَ عَلَى الْعَادَةِ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ؛ فَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ ، فَقَالَ : الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ قَتِيلٍ .
فَانْتَدَبَ مَعَهُ لِلْكَلَامِ فَقِيهُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا وَإِمَامُهُمْ عَطَاءٌ الْمَقْدِسِيُّ ، وَقَالَ : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } فَشَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ حَطَّ مَنْزِلَتَهُ وَوَضَعَ مَرْتَبَتَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا ، وَجَعَلَ بَيَانَهَا عِنْدَ تَمَامِهَا ، فَقَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } فَإِذَا نَقَصَ الْعَبْدُ عَنْ الْحُرِّ بِالرِّقِّ ، وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ الْكَافِرُ .
الثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } ؛ وَلَا مُؤَاخَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ فَدَلَّ عَلَى

عَدَمِ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ .
فَقَالَ الزَّوْزَنِيُّ : بَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ ، وَمَا اعْتَرَضْت بِهِ لَا يَلْزَمُنِي مِنْهُ شَيْءٌ .
أَمَّا قَوْلُك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ فَكَذَلِكَ أَقُولُ .
وَأَمَّا دَعْوَاك أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فِي الْقِصَاصِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُرْمَةِ الَّتِي تَكْفِي فِي الْقِصَاصِ ، وَهِيَ حُرْمَةُ الدَّمِ الثَّابِتَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْمُسْلِمَ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ قَدْ سَاوَى مَالَ الْمُسْلِمِ ؛ فَدَلَّ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِدَمِهِ ؛ إذْ الْمَالُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِحُرْمَةِ مَالِكِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ عَامٌّ وَآخِرُهَا خَاصٌّ ، وَخُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا ؛ بَلْ يَجْرِي كُلٌّ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ .
وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ، فَلَا أُسَلِّمُ بِهِ ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِهِ عِنْدِي قِصَاصًا ، فَتَعَلَّقْت بِدَعْوَى لَا تَصِحُّ لَك .
وَأَمَّا قَوْلُك : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي الْمُسْلِمَ ، فَكَذَلِكَ أَقُولُ ، وَلَكِنَّ هَذَا خُصُوصٌ فِي الْعَفْوِ ؛ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ وُرُودِ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ ؛ فَعُمُومُ إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خُصُوصِ الْأُخْرَى ، وَلَا خُصُوصَ هَذِهِ يُنَاقِضُ عُمُومَ تِلْكَ .
وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ مُنَاظَرَةٌ عَظِيمَةٌ حَصَّلْنَا مِنْهَا فَوَائِدَ جَمَّةً أَثْبَتْنَاهَا فِي " نُزْهَةِ النَّاظِرِ " ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ يَكْفِي هُنَا مِنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا التَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ نَظِيرَ الْحُرِّ وَمُسَاوِيهِ وَهُوَ الْحُرُّ ، وَبَيَّنَ الْعَبْدَ وَمُسَاوِيهِ ، وَهُوَ الْعَبْدُ ، وَيَعْضُدُهُ مَا نَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ طَرْفِ الْحُرِّ وَطَرْفِ الْعَبْدِ ، وَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ مِنْهُمَا فِي الْأَطْرَافِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْأَنْفُسِ ، وَلَقَدْ بَلَغَتْ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ أَنْ قَالُوا : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ } وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } الْوَلِيُّ هَاهُنَا السَّيِّدُ ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : جَعَلَهُ إلَى الْإِمَامِ ، قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ إذَا ثَبَتَ لِلْمُسْلِمِينَ مِيرَاثًا ، فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ نِيَابَةً عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ ، وَنِيَابَتُهُ هَاهُنَا عَنْ السَّيِّدِ مُحَالٌ فَلَا يُقَادُ بِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } [ فَلَمْ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى ] .
قُلْنَا : ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ ، وَلَوْ تَرَكْنَا هَذَا التَّقْسِيمَ لَقُلْنَا : لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَهُ لِمَ لَمْ تَقُولُوا : يَنْتَصِبُ النِّكَاحُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا انْتَصَبَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ النَّسَبِ ؛ إذْ النِّكَاحُ ضَرْبٌ مِنْ الرِّقِّ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ .
قُلْنَا : النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ لَهَا عَلَيْهِ كَمَا يَنْعَقِدُ لَهُ عَلَيْهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا ، وَيَحِلُّ لَهَا مِنْهُ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا ، وَتُطَالِبُهُ مِنْ الْوَطْءِ بِمَا يُطَالِبُهَا ، وَلَكِنْ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلُ الْقَوَامِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ ، أَيْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ ، فَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَأَوْرَثَهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقُولُوا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ امْرَأَتَهُ فَقَتَلَهُ وَلِيُّهَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ .
وَلَوْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الْعَقْلِ .
قُلْنَا : هُوَ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَحْجُوجٌ بِالْعُمُومِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ فِيهِمَا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ الْحُرَّةَ تُقْتَلُ بِالْحُرَّةِ ، كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } وَهَذَا بَيِّنٌ ،

وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .

وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لِأَنَّ الْآيَةَ بِعُمُومِهَا تَقْتَضِي الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ وَالْبَعْضَ بِالْبَعْضِ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُؤْخَذُ طَرْفُ الْحُرِّ بِطَرْفِ الْعَبْدِ ، وَتُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ ، فَيَقُولُ : شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّلَامَةِ وَالْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : يُؤْخَذُ طَرْفُ الْعَبْدِ بِطَرْفِ الْحُرِّ ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرْفُ الْحُرِّ بِطَرْفِ الْعَبْدِ ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ ، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي النَّفْسِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الْقِصَاصُ جَارٍ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرْفِ وَالنَّفْسِ ، وَالتَّمْهِيدُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ يُبْطِلُهُ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقَتْلَى ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ يُدْخِلُهُ تَحْتَ ذُلِّ الرِّقِّ ، وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ أَيْدِي الْمَالِكِينَ تَسْلِيطًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُطَاوَلَةِ ، وَيَصُدُّهُ عَنْ تَعَاطِي الْمُصَاوَلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَدَاوَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْإِتْلَافِ ، كَدُخُولِ الْكَافِرِ تَحْتَ ذُلِّ الْعَهْدِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ ، فَإِنَّ مَذَلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ تُرْهِقُهُ كَمَذَلَّةِ الْكُفْرِ الْمُرْهِقَةِ لِلذِّمِّيِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ يُقْتَلُ الْأَبُ بِوَلَدِهِ مَعَ عُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ ؟ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ بِهِ إذَا تَبَيَّنَ قَصْدُهُ إلَى قَتْلِهِ بِأَنْ أَضْجَعَهُ وَذَبَحَهُ ، فَإِنْ رَمَاهُ بِالسِّلَاحِ أَدَبًا وَحَنَقًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ ، وَيُقْتَلُ الْأَجْنَبِيُّ بِمِثْلِ هَذَا ، وَخَالَفَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالُوا : لَا يُقْتَلُ بِهِ .
سَمِعْت شَيْخَنَا فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ فِي النَّظَرِ : لَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِابْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ وُجُودِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ سَبَبَ عَدَمِهِ ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إذَا زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ وَكَانَ سَبَبَ وُجُودِهَا ، وَتَكُونُ هِيَ سَبَبَ عَدَمِهِ ؛ ثُمَّ أَيُّ فِقْهٍ تَحْتَ هَذَا ؟ وَلِمَ لَا يَكُونُ سَبَبَ عَدَمِهِ إذَا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أُثِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِالدِّيَةِ مُغَلَّظَةً فِي قَاتِلِ ابْنِهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الْمَسْأَلَةَ مُسَجَّلَةً ، وَقَالُوا : لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ ، وَأَخَذَهَا مَالِكٌ مُحْكَمَةً مُفَصَّلَةً ، فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ ، وَهَذِهِ حَالَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لِقَصْدِ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ، وَشَفَقَةُ الْأُبُوَّةِ شُبْهَةٌ مُنْتَصِبَةٌ شَاهِدَةٌ بِعَدَمِ الْقَصْدِ [ إلَى الْقَتْلِ ] تُسْقِطُ الْقَوَدَ ، فَإِذَا أَضْجَعَهُ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ قَصْدِهِ فَالْتَحَقَ بِأَصْلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ [ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ] : احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَوْلِهِ : لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ ، لَا سِيَّمَا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } الْجَوَابُ : أَنَّ مُرَاعَاةَ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ ، وَلَوْ عَلِمَ الْجَمَاعَةُ أَنَّهُمْ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا لَمْ يُقْتَلُوا لَتَعَاوَنَ الْأَعْدَاءُ عَلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي قَتْلِهِمْ ، وَبَلَغُوا الْأَمَلَ مِنْ التَّشَفِّي مِنْهُمْ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ لَمْ يَقْتُلْ ، وَتَقْتُلَ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ مِائَةً افْتِخَارًا ، وَاسْتِظْهَارًا بِالْجَاهِ وَالْمَقْدِرَةِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : أَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ بَيَانًا لِلْمُقَابَلَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ أَنَّ النَّفْسَ تُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ ، وَالْأَطْرَافَ بِالْأَطْرَافِ ، رَدًّا عَلَى مَنْ تَبْلُغُ بِهِ الْحَمِيَّةُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَ جَانٍ عَنْ طَرْفِ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ ، وَالشَّرِيعَةُ تُبْطِلُ الْحَمِيَّةَ وَتَعْضُدُ الْحِمَايَةَ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } إلَى آخِرِهَا : قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا قَوْلٌ مُشْكِلٌ تَبَلَّدَتْ فِيهِ أَلْبَابُ الْعُلَمَاءِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُقْتَضَاهُ .
فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : مُوجِبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ خَاصَّةً ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الدِّيَةِ إلَّا بِرِضًا مِنْ الْقَاتِلِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إنْ شَاءَ قَتَلَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَكَاخْتِلَافِهِمْ اخْتَلَفَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ قَبْلَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " الْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ ، فَيُتْبَعَ بِمَعْرُوفٍ وَتُؤَدَّى إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ " يَعْنِي يُحْسِنُ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ ، وَلَا تَعْنِيفٍ ، وَيُحْسِنُ فِي الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلَا تَسْوِيفٍ .
وَنَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ زَادَ قَتَادَةُ : بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ بَعِيرًا يَعْنِي فِي إبِلِ الدِّيَةِ ، فَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لَا يُزَادُ عَلَى الدِّيَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرْعِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَفْسِيرُهُ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا مِنْ الْعَقْلِ فَلْيَتْبَعْهُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ لِلْوَلِيِّ ، قِيلَ لَهُ : إنْ أَعْطَاك أَخُوك الْقَاتِلُ الدِّيَةَ الْمَعْرُوفَةَ فَاقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَاتَّبِعْهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تَفْسِيرُهُ إذَا أَسْقَطَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ ، وَعَيَّنَ لَهُ مِنْ الْوَاجِبِينَ لَهُ الدِّيَةُ فَاتَّبِعْهُ عَلَى ذَلِكَ أَيُّهَا الْجَانِي عَلَى هَذَا الْمَعْرُوفِ ، وَأَدِّ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ .
وَهَذَا يَدُورُ عَلَى حَرْفٍ ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْعَفْوِ ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ خَمْسَةُ مَوَارِدَ : الْأَوَّلُ : الْعَطَاءُ ، يُقَالُ : جَادَ بِالْمَالِ عَفْوًا صَفْوًا ، أَيْ مَبْذُولًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .
الثَّانِي :

الْإِسْقَاطُ ، وَنَحْوُهُ : { وَاعْفُ عَنَّا } { وَعَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ } .
الثَّالِثُ : الْكَثْرَةُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى عَفَوْا } أَيْ كَثُرُوا ، وَيُقَالُ : عَفَا الزَّرْعُ ، أَيْ طَالَ .
الرَّابِعُ : الذَّهَابُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : عَفَتْ الدِّيَارُ .
الْخَامِسُ : الطَّلَبُ ، يُقَالُ : عَفَّيْتُهُ وَأَعْفَيْتُهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : مَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : تَطُوفُ الْعُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَيْتِ الْوَثَنِ وَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ وَجَبَ عَرْضُهَا عَلَى مَسَاقِ الْآيَةِ ، وَمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ ؛ فَاَلَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ مِنْهَا الْعَطَاءُ أَوْ الْإِسْقَاطُ ؛ فَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْإِسْقَاطَ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَهُ الْقِصَاصُ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ كَانَ فِي الْإِسْقَاطِ أَظْهَرُ .
وَرَجَّحَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الْعَطَاءَ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ وُصِلَ بِكَلِمَةِ " عَنْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاعْفُ عَنَّا } وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ } ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْعَطَاءِ كَانَتْ صِلَتَهُ لَهُ ؛ فَتَرَجَّحَ ذَلِكَ بِهَذَا ؛ وَبِوَجْهٍ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ مَالِكٍ هُوَ اخْتِيَارُ خَبَرِ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ تَابَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ وَبِوَجْهٍ ثَالِثٍ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ ، وَالْجَزَاءُ عَائِدٌ إلَى الْوَلِيِّ ، فَلْيَعُدْ إلَيْهِ الشَّرْطُ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَنْ ، مَنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { شَيْءٌ } فَنَكَّرَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْقِصَاصَ لَمَا نَكَّرَهُ ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ ؛ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّنْكِيرُ فِي جَانِبِ الدِّيَةِ وَمَا دُونَهُ .
وَيَنْفَصِلُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ تَرْجِيحِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مَعْنَى عَفَا أَسْقَطَ ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ "

تَرَكَ " وَكَلِمَةُ " لَهُ " تَتَّصِلُ بِتَرَكَ ، كَمَا تَتَّصِلُ بِأَخَذَ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا ، وَأَمَّا الْجَزَاءُ فَقَدْ يَعُودُ عَلَى مَنْ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ الشَّرْطُ ، فَتَقُولُ : مَنْ دَخَلَ مِنْ عَبِيدِي الدَّارَ فَصَاحِبُهُ حُرٌّ ، وَإِنْ دَخَلَ عَمْرٌو الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَأَمَّا فَصْلُ النَّكِرَةِ فَغَيْرُ لَازِمٍ ؛ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وَهُوَ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَتَبَعَّضَ الْقِصَاصُ فَيَعُودُ الْبَعْضُ مُنَكَّرًا .
وَهَذَا كَمَا تَرَوْنَ تَعَارُضٌ عَظِيمٌ ، وَإِشْكَالٌ بَيِّنٌ ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ ، إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ أَشْهَبَ أَظْهَرُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْأَثَرُ ، وَالْآخَرُ النَّظَرُ ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ؛ إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ كَيْفِيَّةَ الرِّوَايَاتِ وَاسْتِيفَاءَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ .
وَلُبَابُهُ هَاهُنَا أَنَّ الْحَرْفَ الْأَوَّلَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : { فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ } .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : { فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ } .
وَفِي الْحَرْفِ الثَّانِي سِتُّ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : { إمَّا أَنْ يَعْقِلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ } .
الثَّانِيَةُ : { أَنْ يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ } .
الثَّالِثَةُ : { إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ } .
الرَّابِعَةُ : { إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ } .
الْخَامِسَةُ : { إمَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يُقْتَلَ } .
السَّادِسَةُ : { إمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُقَادَ } .
وَإِذَا نَزَلَتْ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَلَى الْأُولَى جَاءَ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ تَنْزِيلًا : الْأَوَّلُ : { فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ؛ إمَّا أَنْ يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ } ، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ : إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ صَاحِبِهِ عَلَى مُفَادَاةٍ مَعْلُومَةٍ .

التَّنْزِيلُ الثَّانِي : فِي قَوْلِهِ : { يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ } ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَأْخُذَ الْقَوَدَ .
التَّنْزِيلُ الثَّالِثُ : فِي قَوْلِهِ : { يَفْدِيَ أَوْ يَقْتُلَ مِثْلَهُ } .
التَّنْزِيلُ الرَّابِعُ : فِي قَوْلِهِ : { إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ } ، يَكُونُ مَعْنَاهُ إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ لَهُ أَوْ يُقَادَ : يُمَكَّنُ مِنْ الْقَوَدِ ، وَكَذَا أَهْلُ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ مَجَازًا فِي الْإِخْبَارِ بِهِ عَنْ وَلِيِّهِ .
التَّنْزِيلُ الْخَامِسُ : فِي قَوْلِهِ : { إمَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ } ، وَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ مُتْقَنَةٌ مَضْبُوطَةٌ مَفْهُومَةٌ جَلِيَّةٌ ، وَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ إنْ كَانَ جَرِيحًا حَقِيقَةً ، أَوْ يُعَبَّرُ عَنْ وَلِيِّهِ بِهِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّهُ سُلْطَانُ الْأَمْرِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } .
التَّنْزِيلُ السَّادِسُ : فِي قَوْلِهِ : { يُقْتَلَ أَوْ يُقَادَ } ، تَقْدِيرُهُ إمَّا أَنْ يُقَادَ بِهِ الْقَاتِلُ بِرِضَاهُ أَوْ يُقْتَلَ ، وَكَذَلِكَ تَتَنَزَّلُ التَّقْدِيرَاتُ السِّتَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ : لَهُ قَتِيلٌ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : مَنْ قُتِلَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِهِ فِي حَالِ جُرْحِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، أَوْ يُعَبِّرُ عَنْ وَلِيِّهِ بِهِ ، فَهَذَا وَجْهُ الِادِّكَارِ مِنْ الْأَثَرِ بِالنَّظَرِ .
وَأَمَّا طَرِيقُ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ أَوْ الْقَاتِلَ إذَا وَقَعَ الْعَفْوُ مِنْهُمَا بِالدِّيَةِ ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاتِلِ قَبُولُهُ دُونَ اعْتِبَارِ رِضَا الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ بَقَاءَ نَفْسِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، كَمَا لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ بَقَاءَ نَفْسِهِ فِي الْمَخْمَصَةِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ لَلَزِمَهُ ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ إذَا وَجَدَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ بِمَالِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ الطَّبَرِيُّ : فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْوُجُوبِ مِمَّنْ وَقَعَ ، يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الدِّيَةَ وَجَبَ قَبُولُهَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ جَانٍ ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَمِرُّ فَعَقَّبَهُ بَعْدَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ إنْ عَرَضَهَا الْجَانِي اُسْتُحِبَّ قَبُولُهَا ، وَإِنْ عَرَضَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ وَجَبَ عَلَى الْجَانِي قَبُولُهَا ، وَلَمَّا رَجَعَ إلَيْهِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ الِاعْتِنَاءِ بِهِ ، وَفِي الْآيَةِ فُصُولٌ وَأَقْوَالٌ لَمْ نَتَفَرَّغْ لَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَفَا عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِمَنْ أَسْلَمَ الْآنَ ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ وَحُدَّتْ الْحُدُودُ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } : وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَبَدِيعُ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْمَحْفُوظِ الْمَعْنَى : ثَبَتَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ الْفُرُوضَ عَلَى قِسْمَيْنِ : فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ ، وَفَرْضٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرَادَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ ؛ أَوْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ غَرَرٌ أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ [ إذْ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا ] .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنْ الْمُسَبَّبِ قَالَ شَاعِرُهُمْ : وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْوَصِيَّةُ } : هِيَ الْقَوْلُ الْمُبَيِّنُ لِمَا يَسْتَأْنِفُ عَمَلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ ، وَهِيَ هَاهُنَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالْعُرْفِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا ، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي حُكْمِهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ جَمِيعُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ بَعْضُهَا ، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَرَكَ خَيْرًا } : يَعْنِي مَالًا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ ، بَلْ يُوصِي مِنْ الْقَلِيلِ قَلِيلًا ، وَمِنْ الْكَثِيرِ كَثِيرًا ، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ .
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، لُبَابُهُ : مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَجَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ ، وَفَرَضَ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ فَرْضَيْهِمَا ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَعْدَلَ لِأَحَدٍ عَنْهُ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَارِثًا دَخَلَ مَدْخَلَ الْأَبَوَيْنِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا قِيلَ لَهُ : إنْ قَطْعَك مِنْ الْمِيرَاثِ الْوَاجِبِ إخْرَاجٌ لَك عَنْ الْوَصِيَّةِ الْوَاجِبَةِ ، وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ لِسَائِرِ الْقَرَابَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِالْمَعْرُوفِ } : يَعْنِي : بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي ، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ : { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِقْدَارًا شَرْعِيًّا مُبَيَّنًا حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ } .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ يُوسُفَ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ الْقَاضِي الْحِيرِيُّ بِشَاغُورَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ : أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، سَمِعْت طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ ، سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ ، سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : { حَقًّا } : يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا ، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَلَى الْمُتَّقِينَ } : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي ، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } : يَعْنِي : سَمِعَهُ مِنْ الْمُوصِي ، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ بِهِ عِنْدَهُ ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } : الْمَعْنَى : أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ خَرَجَ عَنْ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَلِيِّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَصَارَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا } : الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ خَافَ } لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، قِيلَ لَهُمْ : إنْ خِفْتُمْ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَعُدُولًا عَنْ الْحَقِّ ، وَوُقُوعًا فِي إثْمٍ ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا بِالْمَعْرُوفِ ، فَبَادِرُوا إلَى السَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ؛ فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ سَقَطَ الْإِثْمُ عَلَى الْمُصْلِحِ ؛ لِأَنَّ إصْلَاحَ الْفَسَادِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِذَا قَامَ بِهِ أَحَدُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أَثِمَ الْكُلُّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّنِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ قَصْدَ الْفَسَادِ وَجَبَ السَّعْيُ فِي الصَّلَاحِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَسَادُ لَمْ يَكُنْ صُلْحٌ ، إنَّمَا يَكُونُ حُكْمٌ بِالدَّفْعِ وَإِبْطَالٌ لِلْفَسَادِ وَحَسْمٌ لَهُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } : وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { الصِّيَامُ } : وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنْ الْإِمْسَاكِ الْمُطْلَقِ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ هَكَذَا خَاصَّةً لَكَانَ فِيهِ كَلَامٌ فِي الْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ وَتَمْثِيلًا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقِيلَ : هُمْ النَّصَارَى .
وَقِيلَ : هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِإِمْسَاكِ اللِّسَانِ عَنْ الْكَلَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا ؛ فَصَارَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ رَاجِعًا إلَى النَّصَارَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْأَدْنَوْنَ إلَيْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ الصَّوْمَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ إذَا نَامَ الرَّجُلُ لَمْ يُفْطِرْ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِصَوْمِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ } وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الزَّمَانُ ، وَالْقَدْرُ ، وَالْوَصْفُ ، وَمُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِهَا ، وَمُحْتَمِلٌ لِاثْنَيْنِ مِنْهَا ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الزَّمَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصُومُونَ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ الزَّمَانُ فَكَانَ يَأْتِي فِي الْحَرِّ يَوْمًا طَوِيلًا ، وَفِي الْبَرْدِ يَوْمًا قَصِيرًا ؛ فَارْتَأَوْا بِرَأْيِهِمْ أَنْ يَرُدُّوهُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ .
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْعَدَدِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ النَّاسَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ ؛ فَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ } ، فَكَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ ، حَتَّى نَزَلَ رَمَضَانُ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، كَمَا فُرِضَ عَلَى النَّصَارَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، ثُمَّ غَيَّرُوهُ لِأَسْبَابٍ مَرْوِيَّةٍ .
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْوَصْفِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ } وَقَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا يَصُومُونَ عَنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ ، وَفِي شَرْعِنَا الْأَمْرُ بِالصِّيَامِ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ مُتَأَكَّدٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي غَيْرِ الصِّيَامِ .
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ التَّشْبِيهُ فِي الْفَرْضِيَّةِ خَاصَّةً ؛ وَسَائِرُهُ مُحْتَمِلٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلَهُ .
الثَّانِي : لَعَلَّكُمْ تَضْعُفُونَ فَتَتَّقُونَ ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الْأَكْلُ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ قَلَّتْ الْمَعَاصِي .
الثَّالِثُ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا فَعَلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ .
رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى بَدَّلَتْهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ ، وَزَادَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ ؛ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ ، وَمُرَادَةٌ بِالْآيَةِ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ [ حَقِيقَةٌ ، وَالثَّانِي مَجَازٌ حَسَنٌ ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ ] ، وَالثَّالِثُ كُفْرٌ .
وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا يُحْتَاطُ لَهَا إذَا وَجَبَتْ ، وَقَبْلَ أَلَا تَجِبَ لَا احْتِيَاطَ شَرْعًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ : { لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَتَلَقَّى رَمَضَانَ بِالْعِبَادَةِ } .
وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَدَمُ الزِّيَادَةِ فَقَالَ : { إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا يَصُمْ أَحَدٌ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ } .
وَقَدْ شَنَّعَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ بِأَنْ يَقُولُوا نُشَيِّعُ رَمَضَانَ ؛ وَلَا تُتَلَقَّى الْعِبَادَةُ وَلَا تُشَيَّعُ ، إنَّمَا تُحْفَظُ فِي نَفْسِهَا وَتُحْرَسُ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهَا أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهَا .
وَلِذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاءُ الدَّيْنِ أَنْ تُصَامَ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ } مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ ، وَرَأَوْا أَنَّ صَوْمَهَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى شَعْبَانَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

مِنْهَا حَاصِلٌ بِتَضْعِيفِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا مَتَى فُعِلَتْ ؛ بَلْ صَوْمُهَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفِي شَعْبَانَ أَفْضَلُ ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ صَوْمَهَا مَخْصُوصٌ بِثَانِي يَوْمِ الْعِيدِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ سَالِكٌ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ ، دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ : { لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } الْحَدِيثَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَمَضَانُ ، لَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ أَبْعَدَ ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الْوِصَالَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِيهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى وِصَالًا غَيْرَ مَحْدُودٍ لَمَا تَحَصَّلَ لِأَحَدٍ تَقْدِيرُهُ ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْعُرْفِ ، أَيْ أَنْ تَصُومُوا الْأَيَّامَ وَتُفْطِرُوا مِنْهَا زَمَنًا مَخْصُوصًا ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مُتَعَيِّنًا إمَّا بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ نَصًّا ، وَإِمَّا بِبَيَانٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُجْمَلًا ، حَتَّى بَيَّنَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } : لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا .
الثَّانِي أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ ؛ فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ ، وَلَا يَصُومُ إلَّا جَاهِلٌ .
وَقَدْ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ ، أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُسْلِمٍ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ اللَّيْثِيُّ الْحَارِثِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ رَبِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ النَّسَوِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانَ صُهَيْبُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ : اعْتَلَلْت بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ لِي : أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، فَقُلْت : نَعَمْ فَقَالَ : خَشِيتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ قُلْت : أَنْبَأَنَا عَبْدَانُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قُلْت لِعَطَاءٍ : مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ ؟ قَالَ : مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَلَمْ يَكُنْ هَكَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ إِسْحَاقَ ، وَهُوَ الثَّالِثُ .
الثَّالِثُ : الْمُسَافِرُ : وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِانْكِشَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ؛ وَهُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجٍ يَتَكَلَّفُ فِيهِ مُؤْنَةً ، وَيَفْصِلُ فِيهِ بُعْدٌ فِي الْمَسَافَةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِيهِ تَنْبِيهٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا } .
وَفِي تَقْدِيرِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ .
وَالْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ

تَثْبُتُ فِي الذِّمِّيَّةِ بِيَقِينٍ ، فَلَا بَرَاءَةَ لَهَا إلَّا بِيَقِينٍ مُسْقِطٍ ؛ وَقَدْرُ السَّفَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ سَفَرًا ظَاهِرًا ، فَيَسْقُطُ الْأَصْلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَحْثُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالسَّفَرِ عَلِمَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِفَضْلِ عِلْمِهَا بِلِسَانِهَا ، وَجَرْيِ عَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا ؛ فَلَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَبْنَى الْخِلَافِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : أَقَلُّ السَّفَرِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { وَسَفَرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَفِي آخَرَ وَذَكَرَ تَمَامَهُ ؛ فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفَرَ يَتَحَقَّقُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : يَوْمٍ يَتَحَمَّلُ فِيهِ عَنْ أَهْلِهِ ، وَيَوْمٍ يَنْزِلُ فِيهِ فِي مُسْتَقَرِّهِ ، وَالْيَوْمِ الْأَوْسَطِ هُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ السَّيْرُ الْمُجَرَّدُ ، بِتَحَمُّلٍ لَا عَنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ ، وَنُزُولٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ .
وَقُلْنَا لَهُ : إذَا كَانَ السَّفَرُ مُتَحَقِّقًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا سَرَدْت فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِثْلُهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَمُّلِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ السَّفَرِ عَلَى الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ ، ثُمَّ التَّحْدِيدُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا ، أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مَرَاحِلُ لَا تُدْرَكُ بِتَحْقِيقٍ أَبَدًا ، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ ؛ فَرَجُلٌ احْتَاطَ وَزَادَ ، وَرَجُلٌ تَرَخَّصَ ، وَرَجُلٌ تَقَصَّرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا الْقَوْلُ مِنْ لَطِيفِ الْفَصَاحَةِ ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ : فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ .
وَقَدْ عُزِيَ إلَى قَوْمٍ : إنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَضَاهُ ، صَامَهُ أَوْ أَفْطَرَهُ ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا ضُعَفَاءُ الْأَعَاجِمِ ؛ فَإِنَّ جَزَالَةَ الْقَوْلِ وَقُوَّةَ الْفَصَاحَةِ تَقْتَضِي " فَأَفْطَرَ " وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } قَوْلًا وَفِعْلًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } : يُعْطِي بِظَاهِرِهِ قَضَاءَ الصَّوْمِ مُتَفَرِّقًا ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُعُ فِي الشَّهْرِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا ، وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِينُ فِي الْقَضَاءِ فَجَازَ بِكُلِّ حَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } : يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِزَمَانٍ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِيَ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى الْأَزْمِنَةِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : إنْ كَانَ لَيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ قَضَاءَهُ إلَّا فِي شَعْبَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَكَانَتْ تَصُومُ بِصِيَامِهِ ؛ إذْ كَانَ صَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَ فِي شَعْبَانَ " .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } : وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ وَتَأْوِيلَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ وَهِيَ بَيْضَةُ الْعُقْرِ .
قُرِئَ يُطِيقُونَهُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَتَشْدِيدِهِمَا ، وَقُرِئَ كَذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ ، لَكِنَّ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ ، وَقُرِئَ يَطُوقُونَهُ ، وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى ، وَمَا وَرَاءَهَا وَإِنْ رُوِيَ وَأُسْنِدَ فَهِيَ شَوَاذٌّ ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أَصْلٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ بَيَانًا شَافِيًا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ كَذَلِكَ ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمَا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مُطْلَقًا .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرَهُ ، وَلَوْلَا تَجْدِيدُ الْفَرْضِ فِيهِ وَتَحْدِيدُهُ وَتَأْكِيدُهُ مَا كَانَ لِتَكْرَارِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ عَنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ ، وَقِيلَ : مَنْ صَامَ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ ، وَخَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ النَّفْلِ ، وَالصَّدَقَةَ النَّفَلَ خَيْرٌ مِنْ الصَّوْمِ النَّفْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ ، وَهُوَ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ .
قُلْنَا قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْفَرْضَ وَتَطَوُّعِهِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْبَدَلَ لَهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَطَوُّعِكُمْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، فَرُبَّمَا رَغَّبَ فِي تَكْثِيرِ الْإِطْعَامِ ، وَتَرْكِ الصِّيَامِ ، فَأَعْلَمَ أَنَّ الصَّوْمَ خَيْرٌ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُقَالُ : الْفَرْضُ خَيْرٌ مِنْ التَّطَوُّعِ ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَحُكْمُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي أَصْلِ التَّخْيِيرِ ، ثُمَّ يَتَفَاضَلَا فِيهِ ؟ قُلْنَا : الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، فَصَارَ فِيهِ وَصْفٌ مِنْ النَّفْلِ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : تَقْدِيمُهُ أَوْ فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ ، وَلِعُلَمَائِنَا مِثْلُهُ ، وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ : إنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ ؛ وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } .
وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ ، فَأَفْطِرُوا } " .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ؛ وَأَمَّا فِطْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : { إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِطْرَك ، فَأَفْطَرَ } .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَهُ الْفِطْرُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ، مِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَذَلِكَ حَسَنٌ ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَذَلِكَ حَسَنٌ } .
فَأَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ اخْتِلَافٌ ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَبِهِ أَقُولُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ طَلْحَةَ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ فَقَالَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ .
قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ } .
الْحَدِيثَ ، فَجَاءَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْمَفْرُوضِ وَبَيَانًا لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : يَعْنِي : هِلَالَ رَمَضَانَ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ [ الشَّهْرُ ] شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ ، فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّوْمَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } .
فَفَرَضَ عَلَيْنَا عِنْدَ غُمَّةِ الْهِلَالِ إكْمَالُ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَإِكْمَالَ عِدَّةِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عِنْدَ غُمَّةِ هِلَالِ شَوَّالٍ ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْعِبَادَةِ بِيَقِينٍ ، وَيَخْرُجَ عَنْهَا بِيَقِينٍ .
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { احْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } : مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ بِمُشَاهَدَةِ الشَّهْرِ ، وَهِيَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } .
وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ بِتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ ، حَتَّى يَدُلَّ مَا يَجْتَمِعُ حِسَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحْوٌ لَرُئِيَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } .
مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فَأَكْمِلُوا الْمِقْدَارَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا صَوْمَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَقَدْ زَلَّ أَيْضًا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ وَهِيَ عَثْرَةٌ لَا لَعًا لَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ } فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ ، وَهُوَ مُقِيمٌ ، ثُمَّ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فِي بَقِيَّتِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ .
الثَّانِي : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا شَهِدَ وَلْيُفْطِرْ مَا سَافَرَ وَقَدْ سَقَطَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَلَى الثَّانِي ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ، فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا صَامَ فِي الْمِصْرِ ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَزِمَهُ إكْمَالُ الصَّوْمِ ، فَلَوْ أَفْطَرَ قَالَ مَالِكٌ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَرَأَ ، فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ طَرَأَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِبَادَةِ ، وَيُخَالِفُ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ ، لِأَنَّ الْمَرَضَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ ، وَالسَّفَرُ لَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصُومُهُ مَنْ رَآهُ ، فَأَمَّا مَنْ أُخْبِرَ بِهِ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ قَدْ تَكُونُ لَمْحَةً ، فَلَوْ وَقَفَ صَوْمُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَرَاهُ وَقْتَ طُلُوعِهِ ، وَإِنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيَمْتَدُّ أَمَدُهُ يُعْلَمُ بِخَبَرِ الْمُؤَذِّنِ ، فَكَيْفَ الْهِلَالُ الَّذِي يَخْفَى أَمْرُهُ وَيَقْصُرُ أَمَدُهُ ، .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْهُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَالصَّلَاةِ قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ قَالَهُ مَالِكٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى أَوَّلَهُ مَجْرَى الْإِخْبَارِ وَأَجْرَى آخِرَهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاطُ لِدُخُولِهَا كَمَا يَحْتَاطُ لِخُرُوجِهَا ، وَالِاحْتِيَاطُ لِدُخُولِهَا أَلَّا تَلْزَمَ إلَّا بِيَقِينٍ .
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَظْهَرَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : يَا بِلَالُ ؛ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا } .
خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ } ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا تَارَةً وَتَارَةً مُسْنَدًا ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ عِنْدَنَا فِي الْإِخْبَارِ ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُسْنِدُهُ تَارَةً وَيُرْسِلُهُ تَارَةً أُخْرَى ، وَيُسْنِدُهُ رَجُلٌ وَيُرْسِلُهُ آخَرُ

.
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ رَآهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَزِيَادَةٌ عَلَى السَّبَبِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا جَائِزًا لَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ بِتَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : نُؤَيِّدُهُ بِالْأَدِلَّةِ ، قُلْنَا : لَا دَلِيلَ ، إنَّمَا الصَّحِيحُ فِيهِ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ الْعَدْلِ وَلُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ بَلَدٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْرُبَ أَوْ يَبْعُدَ ؛ فَإِنْ قَرُبَ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ ، وَإِنْ بَعُدَ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ كُرَيْبٍ ، { أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ قَالَ : فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا ، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَأَنَا بِالشَّامِ ، فَرَأَيْت الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ ، فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ : مَتَى رَأَيْته ؟ فَقُلْت : لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ قُلْت : نَعَمْ ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، فَقُلْت لَهُ : أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ ؟ قَالَ : لَا ؛ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا ، فَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ ، وَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْأَقْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَطَالِعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُرَيْبًا لَمْ يَشْهَدْ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةٍ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ يُجْزَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ؛ وَنَظِيرُ مَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَغْمَاتَ ، وَأَهَلَّ بِإِشْبِيلِيَّةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، فَيَكُونُ لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ سُهَيْلًا يُكْشَفُ مِنْ أَغْمَاتَ وَلَا يُكْشَفُ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } : مَعْنَاهُ عِدَّةُ الْهِلَالِ ، كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ تُكَبِّرُوا إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ ، وَلَا يَزَالُ التَّكْبِيرُ مَشْرُوعًا حَتَّى تُصَلَّى صَلَاةُ الْعِيدِ ، وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ ، وَيُكَبِّرُ فِي الْعِيدِ } ، فَأَمَّا تَكْبِيرُهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ فَلَمْ يَثْبُتْ ، أَمَّا إنَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ بَلَاغًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ : أَحَدُهُمَا : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ أَعْرَضَ عَنْهُ } .
الثَّانِي : { أَنَّهُ كَانَ إذَا رَآهُ قَالَ : هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، آمَنْت بِاَلَّذِي خَلَقَك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا } .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَقَدْ لُكْته فَمَا وَجَدْت لَهُ طَعْمًا .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ زَوْجِ الْحُرَّةِ [ أَنْبَأَنَا النَّجِيُّ ] ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ ، أَنْبَأَنَا ابْنُ سَوْرَةَ ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ الْمَدَنِيُّ ، أَنْبَأَنَا بِلَالُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ : اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ } .
قَالَ ابْنُ سَوْرَةَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْعِيدِ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ مَا وَجَدْت فِيهَا شِفَاءً عِنْدَ أَحَدٍ ، وَمِقْدَارُ الَّذِي تَحَصَّلَ بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ لِلتَّكْبِيرِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ : حَالٌ فِي وَقْتِ الْبُرُوزِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَحَالَ الصَّلَاةِ ، وَحَالٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا

تَكْبِيرُ الْبُرُوزِ ، فَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَمْلِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُبَيْشٍ ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَطَاءٍ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى } .
وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْجَبَّانَةَ } ، يُرِيدُ حِينَ يَبْرُزُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي التَّكْبِيرِ فِي الْفِطْرِ أَشَدَّ مِنْهُمْ فِي الْأَضْحَى .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا ، وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارًا عَنْ السَّلَفِ .
فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ ، فَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ ، وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ } .
وَأَمَّا أَخْبَارُ السَّلَفِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، سِتًّا فِي ========ج22222222222222.............==================



كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي


الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ ، وَيُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ، ثَلَاثًا فِي الْأُولَى وَثِنْتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ " .
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ ، سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ " .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : " ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً مِثْلَهُ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ؛ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَسِتًّا فِي الثَّانِيَةِ " .
وَرُوِيَ عَنْهُ : " إنْ شِئْت سَبْعًا ، أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : " يُكَبِّرُ تِسْعًا : خَمْسًا فِي الْأُولَى ، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ " وَمِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مُوسَى ؛ وَرُوِيَ عَنْهُمَا : " يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا كَتَكْبِيرِ الْجَنَائِزِ " .
وَقَدْ أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ ، سَأَلَهُمْ عَنْ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ ، فَقَالُوا : ثَمَانِي تَكْبِيرَاتٍ ، فَذَكَرَهُ لِابْنِ سِيرِينَ ، فَقَالَ : صَدَقَ ، وَلَكِنَّهُ أَغْفَلَ تَكْبِيرَةَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ .
وَاخْتَلَفَ رَأْيُ الْفُقَهَاءِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ : سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .
إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : سَبْعًا فِي الْأُولَى بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .
قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ : سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ خَمْسًا فِي الْأُولَى ، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ ، سِتٌّ فِيهَا زَوَائِدُ ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ ، لَكِنْ يُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ، وَيُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِي الْأُولَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَيُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ

التَّكْبِيرِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الصَّحَابَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ .
وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا كَأَعْدَادِ الْوُضُوءِ وَرَكَعَاتِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ لَيْسَ فِي الْوُضُوءِ أَعْدَادٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ، وَلَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ رَكَعَاتٌ مُقَدَّرَةٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ رِوَايَاتٍ فِي صَلَاةِ جَمَاعَاتٍ ، فَهِيَ كَاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ؛ وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ ، فَمَنْ فَعَلَ مِنْهَا شَيْئًا تَمَّ لَهُ الْمُرَادُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ نَفْسُ التَّكْبِيرِ لَا قَدْرُهُ .
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ رِوَايَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ بِالدِّينِ أَقْعَدُ فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوهَا ، فَصَارَ نَقْلُهُمْ كَالتَّوَاتُرِ لَهَا .
وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَأَى تَكْبِيرًا يَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِهِ وِتْرٌ ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ [ وَإِلَيْهِ أَمِيلُ ] .
وَقَدْ يُمْكِنُ تَلْخِيصُ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَدَّ الْأُصُولَ وَالزَّوَائِدَ مَرَّةً وَأَخْبَرَ عَنْهَا ، فَيَأْتِيَ مِنْ مَجْمُوعِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى الزَّوَائِدِ فِي الذِّكْرِ وَيَحْذِفَ الْأَصْلِيَّاتِ الثَّلَاثَ فَيَظْهَرُ هَاهُنَا التَّبَايُنُ أَكْثَرَ ، وَلَكِنْ يَفْضُلُ الْكُلُّ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ ، فَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَمَّارٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ غَدَاةَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَوْمَ دَفْعَةِ النَّاسِ الْعُظْمَى } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ : عَلَى مَكَانِكُمْ ، وَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } .
وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ " كَذَلِكَ فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ .
وَرَوَى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْته يُكَبِّرُ فِي الصَّلَوَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا .
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ أَبِي جَعْفَرٍ [ عَنْ جَابِرٍ ] ، أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ، وَذَكَرَهَا ابْنُ الْجَلَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَاخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْإِقْبَالَ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ شُكْرًا عَلَى مَا أَوْلَى مِنْ الْهِدَايَةِ وَأَنْقَذَ بِهِ مِنْ الْغَوَايَةِ ، وَبَدَلًا عَمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْأَحْسَابِ ، وَتَعْدِيدِ الْمَنَاقِبِ ، عَلَى مَا يَأْتِي تِبْيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْأَئِمَّةُ : الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْبَرَاءِ : { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ ، فَقَالَ : أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ : لَا ، وَلَكِنِّي أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ ، وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَامَ قَالَتْ : خَيْبَةً لَك ؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ ، { وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ : قَدْ نِمْتُ ، فَقَالَ : مَا نِمْت ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا ، وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَهُ .
فَغَدَا عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك ؟ فَإِنَّ نَفْسِي زَيَّنَتْ لِي مُوَاقَعَةَ أَهْلِي ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ

رُخْصَةٍ ؟ فَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ حَقِيقًا يَا عُمَرُ ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَنْبَأَهُ بِعُذْرِهِ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ قَالَ : " جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرَادَ أَهْلَهُ ، فَقَالَتْ : إنِّي قَدْ نِمْت : فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ ، فَأَتَاهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي " الرَّفَثِ " : الرَّفَثُ يَكُونُ الْإِفْحَاشَ فِي الْمَنْطِقِ ، وَيَكُونُ حَدِيثَ النِّسَاءِ ، وَيَكُونُ مُبَاشَرَتَهُنَّ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمُبَاشَرَةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الْمُبَاشَرَةُ الْجَمْعُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَكُنِّي ، وَهَذَا يَعْضُدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ يَصُومُونَ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } : الْمَعْنَى هُنَّ [ سِتْرٌ ] لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَيُفْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إلَى صَاحِبِهِ ، وَيَسْتَتِرُ بِهِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ .
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ صَاحِبِهِ لِمُخَالَطَتِهِ إيَّاهُ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ .
وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُتَعَفِّفٌ بِصَاحِبِهِ مُسْتَتِرٌ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ التَّعَرِّي مَعَ غَيْرِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رِوَايَةِ عُمَرَ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْخِيَانَةَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا عَلِمَ مَوْجُودًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَتَقْدِيرُهُ : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَرَخَّصَ لَكُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمْرِ تَوْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ ، وَقَدْ تَابَ عَلَيْنَا رَبُّنَا هَاهُنَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَبُولُهُ تَوْبَةَ مَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ .
وَالثَّانِي : تَخْفِيفُ مَا ثَقُلَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أَيْ رَجَعَ إلَى التَّخْفِيفِ .
قَالَ عُلَمَاءُ الزُّهْدِ : وَكَذَا فَلْتَكُنْ الْعِنَايَةُ وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ ، خَانَ نَفْسَهُ عُمَرُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرِيعَةً ، وَخَفَّفَ لِأَجْلِهِ عَنْ الْأُمَّةِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : مَعْنَاهُ : قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ جِمَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُوعُ قَيْسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ جُوعَ قَيْسٍ لَقَالَ : فَالْآنَ كُلُوا ، ابْتَدَأَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ لِأَجْلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْحَلَالِ .
الثَّانِي : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْوَلَدِ .
الثَّالِثُ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ .
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَامٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ قَيْسٍ ، وَالثَّانِي خَاصٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ ، وَالثَّالِثُ عَامٌّ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } : هَذَا جَوَابُ نَازِلَةِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ ، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ نَازِلَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَبَدَأَ بِنَازِلَةِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ : { قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي ، وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَعَمَدْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الْفَجْرِ } } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَمْنَعَنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِكُمْ ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ : هَكَذَا وَضَرَبَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } : فَشَرَطَ رَبُّنَا تَعَالَى إتْمَامَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ ، كَمَا جَوَّزَ الْأَكْلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ النَّهَارُ ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ فَالسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ { : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ؛ فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى ، فَقَالَ لِرَجُلٍ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي .
قَالَ : لَوْ انْتَظَرْت حَتَّى تُمْسِيَ .
قَالَ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي إذَا رَأَيْت اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ إذَا قَرُبَ الْفَجْرُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ : أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ .
وَتَأَوَّلَهُ عُلَمَاؤُنَا : قَارَبْت الصَّبَاحَ ، وَقَارَبْت تَبَيُّنَ الْخَيْطِ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُوشِكُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَكَلْت لَمْ تَخَفْ مُوَاقَعَةَ مَحْظُورٍ ، وَإِذَا دَنَا الصَّبَاحُ لَمْ يَحِلَّ لَك الْأَكْلُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَك فِي الْمَحْظُورِ غَالِبًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا ، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ لِعُذْرٍ أَوْ لِشُغْلٍ جَازَ ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَصْدًا لِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ قُرْبَةً اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِمَّنْ رَآهُ جَائِزًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، كَانَ يَصُومُ الْأُسْبُوعَ وَيُفْطِرُ عَلَى الصَّبْرِ ، وَرَآهُ الْأَكْثَرُ حَرَامًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ مَعْرُوفَةٌ ، وَهِيَ ضَعْفُ الْقُوَى وَإِنْهَاكُ الْأَبْدَانِ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : فَإِنَّك تُوَاصِلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَيُّكُمْ مِثْلِي ؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي .
فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا وَيَوْمًا ، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ ، فَقَالَ : لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ } ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، وَإِنَّمَا كَانَ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلُوهُ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا فَعَلُوهُ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُوَاصِلُوا ؛ فَأَيُّكُمْ أَرَادَ الْوِصَالَ فَلْيُوَاصِلْ ، حَتَّى السَّحَرِ } ، وَهَذِهِ إبَاحَةٌ لِتَأْخِيرِ الْفِطْرِ ، وَمَنْعٌ مِنْ إيصَالِ يَوْمٍ بِيَوْمٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } : بَيَّنَ بِذَلِكَ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ ؛ وَهِيَ الْأَكْلُ ، وَالشُّرْبُ ، وَالْجِمَاعُ .
فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ اتِّصَالُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا حَرَامٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَاحَةٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ التَّعَرُّضَ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ مَنْ يَأْمَنُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا : أَنَّهَا سَبَبٌ وَدَاعِيَّةٌ إلَى الْجِمَاعِ ، وَذَرِيعَةٌ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، فَيُخْتَلَفُ فِي حُكْمِهَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ الَّتِي تَدْعُو إلَى الْمَحْظُورَاتِ ؛ فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَاعْتَبَرُوا حَالَ الرَّجُلِ وَخَوْفَهُ عَلَى صَوْمِهِ وَأَمْنَهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ أَزْوَاجَهُ عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا ، وَهُوَ صَائِمٌ ، وَيَأْمُرُ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ } ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ كَانَ أَمْلَكَنَا لِإِرْبِهِ .
وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَى عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بِجَوَازِهَا وَهُوَ شَابٌّ } ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهَا مَا اعْتَبَرَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ حَالِ الْمُقَبِّلِ ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ فِي التَّفْصِيلِ حَدَّ الْفُتْيَا ، وَنَحْنُ نَضْبِطُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَنَقُولُ : أَمَّا إنْ أَفْضَى التَّقْبِيلُ وَالْمُبَاشَرَةُ إلَى الْمَذْيِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، وَأَمَّا إنْ خِيفَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْمَنِيِّ فَذَلِكَ الْمَمْنُوعُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } الْفَجْرَ وَيَتَأَخَّرُ الْبَيَانُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ؟ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَقَعَ الْخَطَأُ عَنْ الْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْرِكُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ مَكْشُوفًا فِي دَرَجَةٍ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلَّا عَدِيٌّ وَحْدَهُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَنِّفْ عَدِيًّا ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَيَانَ فِيهِ جَلِيًّا .
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { إنَّك لَعَرِيضُ الْقَفَا } ، وَضَحِكَ ؛ وَلَا يَضْحَكُ إلَّا عَلَى جَائِزٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ إلَّا تَعْرِيضُهُ لِلْغَبَاوَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ جُنُبٌ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا ؛ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ كَلَامٌ ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ ، وَغَوْصِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } : الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللُّبْثُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَقَلُّهُ لَحْظَةٌ ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُمَا مِنْ شَرْطِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الصَّائِمِينَ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْوَجْهَيْنِ : أَمَّا اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ فِيهِ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ صَامَ فَلَا يَلْزَمُ بِظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ ؛ لِأَنَّهَا حَالٌ وَاقِعَةٌ لَا مُشْتَرَطَةٌ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ فَضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً بِشَرْطِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ ، وَتَنْقَضِي الصَّلَاةُ وَتَبْقَى الطَّهَارَةُ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ دَلِيلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ ، وَيُغْنِي الْآنَ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ : اعْتَكِفْ وَصُمْ } .
وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ إذَا دَخَلْنَا مَعَهُ مَسْجِدًا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ لِإِقَامَةِ سَاعَةٍ يَقُولُ : انْوُوا الِاعْتِكَافَ تَرْبَحُوهُ .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ شَرْعِيٌّ ، فَجَاءَ الشَّرْعُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَقْدِيرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقَلَّهُ ، وَجَاءَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِكَافِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فِي الْمَسَاجِدِ } : مَذْهَبُ مَالِكٍ الصَّرِيحُ الَّذِي لَا مَذْهَبَ لَهُ سِوَاهُ جَوَازُ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَعَمَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا ؛ لَكِنَّهُ إذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا جُمُعَةَ فِيهِ لِلْجُمُعَةِ ، فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ ، وَلَا نَقُولُ بِهِ ؛ بَلْ يَشْرُفُ الِاعْتِكَافُ وَيَعْظُمُ .
وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الِاعْتِكَافِ مِنْ مَسْجِدٍ إلَى مَسْجِدٍ لَجَازَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إجْمَاعًا ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى سِوَاهُ ؟ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ بَدِيعَةٌ : فَإِنْ قِيلَ : قُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَقُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } : إنَّهُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ ، فَكَيْفَ هَذَا التَّنَاقُضُ ؟ قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : إنَّهَا الْمُبَاشَرَةُ بِأَسْرِهَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا ؛ وَلَوْلَا أَنَّ السُّنَّةَ قَضَتْ عَلَى عُمُومِهَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فِي جَوَازِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ ، وَبِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي الْقُبْلَةِ وَهُوَ صَائِمٌ فَخَصَصْنَاهَا .
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَعَضَّدَتْهَا أَدِلَّةٌ سِوَاهَا ؛ وَهِيَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى رُكْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْكُ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ بِإِجْمَاعٍ .
الثَّانِي : تَرْكُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ سِوَاهُ مِمَّا يَقْطَعُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ بَابِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهِ ، وَالْمُبَاحَاتُ لَا تَجُوزُ مَعَهُ فَالشَّهَوَاتُ أَحْرَى أَنْ تُمْنَعَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } : فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ مُلْتَزِمُونَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدُونَ لَهُ ، فَهُوَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدٌ لَهُ رَخَّصَ لَهُ فِي حَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَبَقِيَ سَائِرُ أَفْعَالِ الِاعْتِكَافِ كُلِّهَا عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : هَذِهِ الْآيَةُ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } : الْمَعْنَى : لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } : الْمَعْنَى : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا } : مَعْنَاهُ : وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا .
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا } فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِالْبَاطِلِ } : يَعْنِي : بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ ، وَمَنَعَ مِنْهُ ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا ، وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ } : أَيْ : تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا : ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ : وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ .
أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ .
{ بِالْإِثْمِ } : أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : تَحْرِيمَ ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ [ هُوَ فِي الظَّاهِرِ ] عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ ، فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْبَاطِنِ ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ ؟ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا } بِحُكْمِهِمْ { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } بُطْلَانَ ذَلِكَ ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { : يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا عَنْ زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ لِمَ جُعِلَتْ الْأَهِلَّةُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } .
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ .
وَفِي الْأَثَرِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمَا مَلَكَيْنِ ؛ وَرَتَّبَ لَهُمَا مَطْلَعَيْنِ ، وَصَرَّفَهُمَا بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالشَّمْسِ ، وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَمَرِ ؛ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ أَهْلُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا الشَّمْسَ مَلَكًا أَعْجَمِيًّا وَالْقَمَرَ مَلَكًا عَرَبِيًّا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } : يَعْنِي : فِي صَوْمِهِمْ وَإِفْطَارِهِمْ وَآجَالِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَهُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْحَجِّ } : مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِيقَاتٌ فَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } ، فَإِنْ لَمْ يُرَ فَلْيُرْجَعْ إلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جُهِلَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عُوِّلَ عَلَى عَدَدِ الْهِلَالِ قَبْلَهُ ، وَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُ بِالرُّؤْيَةِ بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى رُؤْيَتِهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } .
وَرُوِيَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ " .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ : أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمْسَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قَدِمْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَاهُ فَقَالَ : جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ : وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَابْنُ وَهْبٍ ، وَغَيْرُهُمَا : هُوَ لِلْمَاضِيَةِ .
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ : " أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فَجَعَلَ جَمِيعَهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَادَتْ بَيَانَ حِكْمَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَوَائِدِ بِالْأَهِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ لِجَمِيعِهَا ، فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ لِجَمِيعِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ، فَقَالَ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فَبَيَّنَ أَنَّ أَهِلَّتَهُ مَعْلُومَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } : كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ : { أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ ، فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِهِ فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ ؛ فَيَقْتَحِمَ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ ؛ ثُمَّ يَقُومَ فِي حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ ، فَتَخْرُجَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَثَرِهِ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أَحْمَسِيٌّ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ يَعْنِي عَلَى دِينِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَأْوِيلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا بُيُوتُ الْمَنَازِلِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا النِّسَاءُ أَمَرَنَا بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ الْقُبُلِ لَا مِنْ الدُّبُرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ؛ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا الْقَوْلُ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا النِّسَاءُ : فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ وَلَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مَثَلًا فِي إتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ وُجُوهِهَا : فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ آيَةٍ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَثَلًا مِنْهَا مَا يَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ .
وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبُيُوتُ الْمَعْرُوفَةُ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَا أَوْعَبَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ ، فَحَقَّقَ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ،

ثُمَّ رَكَّبَ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَقْرَبُ ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَنْدُوبَاتِ خَاصَّةً دُونَ الْمُبَاحِ وَدُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَاقْتِحَامُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا فَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ الْقُرْبَةِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ بِمُبَاحٍ وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَنْدُوبٍ ؛ وَهَذَا أَصْلٌ حَسَنٌ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي مُقَدَّمَةٍ لَهَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ ، وَأَرْخَى لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ الَّتِي أَنْفَذهَا ، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ ، وَالْكُفَّارُ يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْإِذَايَةِ ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى ، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْقِتَالِ .
فَقِيلَ : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } .
ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ ، فَقَالَ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إلَى الْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا ، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ، فَبَايَعَ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إلَى أَمْرٍ رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَاهُنَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِذَا بَعْدَهُ ، فَقَالَ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } بَيْدَ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ أَمَرَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ ، إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَاهُ ؛ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ { : قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتْ الْبِدَايَةُ بِهِمْ ، وَبِكُلِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْ عَاوَنَهُمْ ؛ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي ، حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ الْكَفَرَةِ ، وَذَلِكَ مُتَمَادٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ : الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ } .
وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْقِتَالِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } وَقِيلَ غَايَتُهُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ } .
وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، وَسَيُقَاتِلُ الدَّجَّالَ ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَهُوَ آخِرُ الْأَمْرِ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْجِهَادَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَ بِفَرْضٍ إلَّا أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَهُ

سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : وَمَالَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ ، وَظَنَّهُ قَوْمٌ بِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَأَوْهُ مُوَاظِبًا عَلَى الْحَجِّ تَارِكًا لِلْجِهَادِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } .
ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَهَذَا هُوَ دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ بَاقٍ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْفَتْحُ الْهِجْرَةَ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ يَعْنِي كُفْرًا { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } .
وَمُوَاظَبَةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْحَقَّ ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عُدُولٌ وَجَائِرُونَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُؤْثِرٌ لِلْحَجِّ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَشَرَةَ أَعْوَامٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ ، ثُمَّ تَعَيَّنَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ ، سَقَطَ فَرْضُ الدَّعْوَةِ إلَّا عَلَى الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، وَبَقِيَتْ مُسْتَحَبَّةً .
فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ وَعَمَّتْ ، وَظَهَرَ الْعِنَادُ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَا يَنْقَطِعُ .
رَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، فَإِنْ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } ، فَذَكَرَ الدُّعَاءَ إلَى الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ إلَى الْهِجْرَةِ أَوْ إلَى الْجِزْيَةِ ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ .
وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلَ وَسَبَى ، فَعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَ وَالْمُسْتَحَبَّ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَعْتَدُوا } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا تَقْتُلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } وَ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَعْتَدُوا } أَيْ لَا تُقَاتِلُوا عَلَى غَيْرِ الدِّينِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } يَعْنِي دِينًا .
الثَّالِثُ : أَلَّا يُقَاتَلَ إلَّا مَنْ قَاتَلَ ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ ؛ فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ وَالرُّهْبَانُ فَلَا يُقْتَلُونَ ؛ وَبِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ إذَايَةٌ .
وَفِيهِ سِتُّ صُوَرٍ : الْأُولَى : النِّسَاءُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِنَّ ؛ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ ، وَهَذَا مَا لَمْ يُقَاتِلْنَ ، فَإِنْ قَاتَلْنَ قُتِلْنَ .
قَالَ سَحْنُونٌ : فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ قَتْلُهُنَّ ، إذَا قَاتَلْنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ وَبَعْدَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وَلِلْمَرْأَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ فِي الْقِتَالِ ؛ مِنْهَا الْإِمْدَادُ بِالْأَمْوَالِ ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ ، فَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ ، نَادِبَاتٍ ، مُثِيرَاتٍ لِلثَّأْرِ ، مُعَيِّرَاتٍ بِالْفِرَارِ ، وَذَلِكَ يُبِيحُ قَتْلَهُنَّ .
الثَّانِيَةُ : الصِّبْيَانُ ؛ فَلَا يُقْتَلُ الصَّبِيُّ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ ، فَإِنْ قَاتَلَ قُتِلَ حَالَةَ الْقِتَالِ ، فَإِذَا زَالَ الْقِتَالُ فَفِي سَمَاعِ يَحْيَى فِي

الْعُتْبِيَّةِ يُقْتَلُ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ : لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ وَلَا الصَّبِيُّ إذَا قَاتَلَا ، وَأُخِذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسِيرَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَتَلَا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ قِصَاصًا ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءٌ وَحَدٌّ ، وَاَلَّذِي يُقَوِّي عِنْدِي قَتْلَ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمِنَّةِ ، وَالْعَفْوِ عَنْ الصَّبِيِّ لِعَفْوِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الذُّنُوبِ .
الثَّالِثَةُ : الرُّهْبَانُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ ؛ بَلْ يُتْرَكُ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَهَذَا إذَا انْفَرَدُوا عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : " وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْكَنَائِسِ قُتِلُوا " .
وَلَوْ تَرَهَّبَتْ الْمَرْأَةُ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُهَاجُ ، وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَا يُغَيِّرُ التَّرَهُّبُ حُكْمَهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي رِوَايَةُ أَشْهَبَ ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ : فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ .
الرَّابِعَةُ : الزَّمْنَى : قَالَ سَحْنُونٌ : يُقْتَلُونَ ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يُقْتَلُونَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ تُعْتَبَرَ أَحْوَالُهُمْ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إذَايَةٌ قُتِلُوا ، وَإِلَّا تُرِكُوا وَمَا هُمْ بِسَبِيلِهِ مِنْ الزَّمَانَةِ ، وَصَارُوا مَالًا عَلَى حَالِهِمْ .
الْخَامِسَةُ : الشُّيُوخُ : قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يُقْتَلُونَ ، وَرَأْيِي قَتْلُهُمْ ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ ، وَيَعْضُدُهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَوُجُودُ الْمَعْنَى فِيهِمْ مِنْ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ ، إلَّا أَنْ يُدْخِلَهُمْ التَّشَيُّخُ وَالْكِبَرُ فِي حَدِّ

الْهَرَمِ وَالْفَنَدِ ، فَتَعُودُ زَمَانَةً ، وَيَلْحَقُونَ بِالصُّورَةِ الرَّابِعَةِ وَهِيَ الزَّمْنَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُلِّ إذَايَةٌ بِالرَّأْيِ ، وَنِكَايَةٌ بِالتَّدْبِيرِ فَيُقْتَلُونَ أَجْمَعُونَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسَةُ : الْعُسَفَاءُ : وَهُمْ الْأُجَرَاءُ وَالْفَلَّاحُونَ ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ حَشْوَةٌ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يُقْتَلُونَ ، وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : " لَا تَقْتُلَنَّ عَسِيفًا " .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي قَتْلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَهُمْ رِدْءٌ لِلْمُقَاتِلِينَ ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ يُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُقَاتِلِ ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا الدَّلِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ قَتْلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى { : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَعْنَى حَيْثُ أَخَذْتُمُوهُمْ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَك فِي أَسْرَى بَدْرٍ : الْقَتْلَ أَوْ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ مِنْهُمْ قَاتِلًا مِثْلَهُمْ .
قَالُوا : الْفِدَاءَ ، وَيُقْتَلُ مِنَّا } .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْكَمٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : وَقَدْ حَضَرْت فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُتْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الرَّيْحَانِيِّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ ، وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعِ الرِّعَاءِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّيْحَانِيُّ : مَنْ السَّيِّدُ ؟ فَقَالَ لَهُ : رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْسِ ، وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمَ الْمُقَدَّسَ ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا : سَلُوهُ ، عَلَى الْعَادَةِ فِي إكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ .
وَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ ، هَلْ يُقْتَلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ ، فَقَالَ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } .
قُرِئَ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ، فَإِنْ قُرِئَ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ ، وَإِنْ قُرِئَ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ فَهُوَ تَنْبِيهٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ .
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ ، فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

وَجَدْتُمُوهُمْ } .
فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيُّ : هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمِهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْت بِهَا عَلَيَّ عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ ، وَالْآيَةَ الَّتِي احْتَجَجْت بِهَا خَاصَّةٌ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ ، فَأَبَهَتْ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ .
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَهْلَ بِلَادِنَا ، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ الْعَامَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ ، وَهَذَا الْبَائِسُ لَيْتَهُ سَكَتَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ ، وَأَمْسَكَ عَمَّا لَا يَفْهَمُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَسَائِلَ مُجَرَّدَةٍ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً ؛ فَإِنْ لَجَأَ إلَيْهَا كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فِيهَا فَيُقْتَلُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { : فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } : هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَاتَلَ قُتِلَ بِكُلِّ حَالٍ ، بِخِلَافِ الْبَاغِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إذَا قَاتَلَ يُقَاتَلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ .
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، { أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ ؟ قَالَ : أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، إنِّي مُسْلِمٌ .
قَالَ : لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } : يَعْنِي كُفْرٌ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ } يَعْنِي الْكُفْرَ ، فَإِذَا كَفَرُوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَعَبَدُوا فِيهِ الْأَصْنَامَ ، وَعَذَّبُوا فِيهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ ؛ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً ؛ لِأَنَّ مَآلَ الِابْتِلَاءِ كَانَ إلَيْهِ ، فَلَا تُنْكِرُوا قَتْلَهُمْ وَقِتَالَهُمْ ؛ فَمَا فَعَلُوا مِنْ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِمَّا عَابُوهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَيْهِمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { : حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ نَصًّا ، وَأَبَانَ فِيهَا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ الْكُفْرُ .
وَقَدْ ضَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا ، وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ هِيَ الْخَرْبَةُ ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَيْهَا الَّتِي بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ كُفْرُهُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِابْتِدَاءِ قِتَالٍ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرُ لَقُتِلَ كُلُّ كَافِرٍ وَأَنْتَ تَتْرُكُ مِنْهُمْ النِّسَاءَ وَالرُّهْبَانَ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَاهُمْ مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ بِهِمْ لِأَجْلِ مَا عَارَضَ الْأَمْرَ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ : أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَالِاسْتِرْقَاقُ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ ؛ فَيَكُونُ مَالًا وَخَدَمًا ، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ .
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الرُّهْبَانِ بَاعِثًا عَلَى تَخَلِّي رِجَالِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فَيُضْعِفُ حَرْبَهُمْ وَيُقِلُّ حِزْبَهُمْ فَيَنْتَشِرُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } : إبَاحَةٌ لِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِيمَانُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ : لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ جِزْيَةٌ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَسَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا عَلِيٍّ الْوَفَاءَ بْنَ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيَّ إمَامَهُمْ بِبَغْدَادَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى { : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
إنَّ قَوْله تَعَالَى { : قَاتِلُوا } أَمْرٌ بِالْقَتْلِ .
وقَوْله تَعَالَى { : الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } سَبَبٌ لِلْقِتَالِ وقَوْله تَعَالَى { : وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلْزَامٌ لِلْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } بَيَانُ أَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كَأُصُولِهَا وَأَحْكَامَهَا كَعَقَائِدِهَا .
وقَوْله تَعَالَى { : وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أَمْرٌ بِخَلْعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَّا دَيْنَ الْإِسْلَامِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ ، ثُمَّ بَيَّنَ الْغَايَةَ وَبَيَّنَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ ، وَثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
{ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قِتَالِهِ لِفَارِسَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبُرَيْدَةَ : اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، وَذَكَرَ الْجِزْيَةَ } ، وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَكُونُ هَذَا نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا ؟

فَلَنَا : هُوَ تَخْصِيصٌ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ قِتَالَهُمْ وَأَمَرَ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : [ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } ] ؛ فَخَصَّصَ مِنْ الْحَالَةِ الْعَامَّةِ حَالَةً أُخْرَى خَاصَّةً ، وَزَادَ إلَى الْغَايَةِ الْأُولَى غَايَةً أُخْرَى ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ آخَرَ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا وَكَمَالًا .
وَكَذَلِكَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } ، ثُمَّ بَيَّنَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ سَنُبَيِّنُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سَبْعٍ حِينَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ الَّتِي صَدَّهُ عَنْهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَنَةَ سِتٍّ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ، وَقَدْ أَخْلَتْهَا قُرَيْشٌ ، وَقَضَى نُسُكَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .

الْمَعْنَى : شَهْرٌ بِشَهْرٍ وَحُرْمَةٌ بِحُرْمَةٍ ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ قَطَعَ بِهِ عُذْرٌ أَوْ عَدُوٌّ عَنْ عِبَادَةٍ ثُمَّ قَضَاهَا أَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ وَالْمَثُوبَةَ سَوَاءٌ .
وَقِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ الْقِتَالِ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَرَادُوا قِتَالَهُ فِيهِ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الْمَعْنَى إنْ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ بِالْحُرْمَةِ قِصَاصٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تُبِيحَ دَمَ مَنْ أَبَاحَ دَمَك ، وَتَحِلَّ مَالُ مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَك ، وَمَنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ بِمِقْدَارِ مَا قَالَ فِيك ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ : أَمَّا مَنْ أَبَاحَ دَمَك فَمُبَاحٌ دَمُهُ لَك ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا بِاسْتِطَالَتِك وَأَخْذٍ لِثَأْرِك بِيَدِك ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مَالَك فَخُذْ مَالَهُ إذَا تَمَكَّنْت مِنْهُ ، إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِك : طَعَامًا بِطَعَامٍ ، وَذَهَبًا بِذَهَبٍ ، وَقَدْ أَمِنْت مِنْ أَنْ تُعَدَّ سَارِقًا .
وَأَمَّا إنْ تَمَكَّنْت مِنْ مَالِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَالِك فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَحَرَّى قِيمَتَهُ وَيَأْخُذُ مِقْدَارَ ذَلِكَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَأَمَّا إنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ لَا تَتَعَدَّاهُ إلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ .
لَكِنْ لَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَذَبَ عَلَيْك ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَابَلُ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ فَلَوْ قَالَ لَك مَثَلًا : يَا كَافِرُ ، جَازَ لَك أَنْ تَقُولَ لَهُ : أَنْتَ الْكَافِرُ ؛ وَإِنْ قَالَ لَك : يَا زَانٍ ، فَقِصَاصُك أَنْ تَقُولَ : يَا كَذَّابُ ، يَا شَاهِدَ زُورٍ .
وَلَوْ قُلْت لَهُ : يَا زَانٍ ، كُنْت كَاذِبًا فَأَثِمْت فِي الْكَذِبِ ، وَأَخَذْت فِيمَا نُسِبَ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ تَرْبَحْ شَيْئًا ، وَرُبَّمَا خَسِرْت .
وَإِنْ مَطَلَك وَهُوَ غَنِيٌّ دُونَ عُذْرٍ قُلْ : يَا ظَالِمُ ، يَا آكِلَ أَمْوَالِ النَّاسِ .

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } .
أَمَّا عِرْضُهُ فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ ، وَأَمَّا عُقُوبَتُهُ فَبِالسَّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ .
وَعِنْدِي أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ أَخْذُ الْمَالِ كَمَا أَخَذَ مَالَهُ ، وَأَمَّا إنْ جَحَدَك وَدِيعَةً وَقَدْ اسْتَوْدَعَك أُخْرَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اصْبِرْ عَلَى ظُلْمِهِ ، وَأَدِّ إلَيْهِ أَمَانَتَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اجْحَدْهُ ، كَمَا جَحَدَك ؛ لَكِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، وَلَوْ صَحَّ فَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ ، وَهُوَ إذَا أَوْدَعَك مِائَةً وَأَوْدَعْته خَمْسِينَ فَجَحَدَ الْخَمْسِينَ فَاجْحَدْهُ خَمْسِينَ مِثْلَهَا ، فَإِنْ جَحَدْت الْمِائَةَ كُنْت قَدْ خُنْت مَنْ خَانَك فِيمَا لَمْ يَخُنْك فِيهِ ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ أَقُولُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } : هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعُمْدَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَفِيمَا جَانَسَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بِكْرٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الثَّانِي اعْتِدَاءً ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِحَقٍّ ، حَمْلًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ .
قَالُوا : وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } .
وَاَلَّذِي أَقُولُ فِيهِ : إنَّ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ فَالْأَوَّلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ بِهِ ، وَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَقْلِبُ الْمَعَانِيَ ؛ بَلْ إنَّهُ يُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَصْفَ الطَّاعَةِ وَالْحُسْنِ ، وَيُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَصْفَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُبْحِ ؛ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ يَسُوءُ الْوَاقِعُ بِهِ : وَأَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ وَلَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ ، إلَّا الْخَمْرَ وَآلَةَ اللِّوَاطِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقْتَلُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ إلَّا فِي وَجْهَيْنِ وَصِفَتَيْنِ : أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَالْمَعْصِيَةُ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَالسُّمُّ وَالنَّارُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّهُ مِنْ الْمِثْلِ ؛ وَلَسْت أَقُولُهُ ؛ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْعَذَابِ .
وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } ، وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارَيْنِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِهِ .
وَأَمَّا الْوَصْفَانِ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ : إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ بِالْحَجَرِ مُجْهِزَةً قُتِلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرَبَاتٍ فَلَا ، وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُضْرَبُ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ ، وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ رُجِيَ أَنْ يَمُوتَ بِالضَّرْبِ ضُرِبَ ، وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : لَا يُقْتَلُ بِالنَّبْلِ وَلَا بِالرَّمْيِ

بِالْحِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيبِ .
وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَفَقَأَ عَيْنَهُ قَصْدَ التَّعْذِيبَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ الرِّعَاءَ حَسْبَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ وَمُضَارَبَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ ، إلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ فَلْتُتْرَكْ إلَى السَّيْفِ ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَهُوَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ ، { عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا قَتَلَ أَخِي .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَتَلْته ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَأَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ .
قَالَ : نَعَمْ ، قَتَلْته .
قَالَ : كَيْفَ قَتَلْته ؟ قَالَ : كُنْت أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْته .
} وَرَوَى أَبُو دَاوُد : { وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِك ؟ فَقَالَ : مَا لِي مَالٌ إلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي .
قَالَ : فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك ؟ قَالَ : أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ هَذَا .
قَالَ : فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ ، وَقَالَ : دُونَكَ صَاحِبَكَ ، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ ؛ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ ، فَقَالَ :

يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت كَذَا وَأَخَذْته بِأَمْرِك قَالَ : أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك وَإِثْمِ صَاحِبِك ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ .
قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّ ذَاكَ كَذَلِكَ .
قَالَ : فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ } .
وَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ ، وَقَدْ قَتَلَ بِالْفَأْسِ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ فَرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } اعْتِمَادًا لِلْمُمَاثَلَةِ وَحُكْمًا بِهَا .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ : كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، فَحَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ، يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ : يَأَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا ، وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ ؛ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيْ هَلُمَّ } .
الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا .
وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ ، وَالثَّانِي : قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ ، وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ : فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ .
الثَّانِي : لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
الثَّالِثُ : لَا تَتْرُكُوا الْجِهَادَ .
الرَّابِعُ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَا .
الْخَامِسُ : لَا تَيْأَسُوا مِنْ الْمَغْفِرَةِ ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ، وَقَدْ أَصَابَ إلَّا فِي اقْتِحَامِ الْعَسَاكِرِ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا : لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنْ التَّهْلُكَةِ .
وَقِيلَ : إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتْ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : طَلَبُ الشَّهَادَةِ .
الثَّانِي : وُجُودُ النِّكَايَةِ .
الثَّالِثُ : تَجْرِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ : ضَعْفُ نُفُوسِهِمْ لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ ، فَمَا ظَنَّك بِالْجَمِيعِ ، وَالْفَرْضُ لِقَاءُ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَحْسِنُوا } .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الثَّانِي : فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ : أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ .
قَالَ الْقَاضِي : الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحُسْنِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ .
وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ ؛ وَإِنَّمَا الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ : { مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا } : فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَسُفْيَانُ .
الثَّانِي : أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ [ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ] .
الثَّالِثُ : بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
الْخَامِسُ : أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّادِسُ : إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا ؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ .
السَّابِعُ : أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ ، وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : أَحْرِمْ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك ، فَإِنَّهَا مَشَقَّةٌ رَفَعَهَا الشَّرْعُ وَهَدَمَتْهَا السُّنَّةُ بِمَا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَوَاقِيتِ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْبَيْتِ ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ ، وَلَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَحِيحٌ .
وَأَمَّا أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَالسُّنَّةُ

الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ التَّمَتُّعُ .
وَأَمَّا إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِمَا حَتَّى بَالَغُوا فَقَالُوا : يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُمَا ، وَإِنْ أَفْسَدَهُمَا .
وَأَمَّا أَلَّا يَتَّجِرَ فِيهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَرَاءِ أَلَّا تَمْتَزِجَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ، وَهُوَ أَخْلَصُ فِي النِّيَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ ؛ وَالْكُلُّ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَجُّ : وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَبِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ ، لَكِنَّهَا غَيَّرَتْهُ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَتَهُ ، وَأَعَادَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صِفَتَهُ ، وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ ، فَقَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْعُمْرَةُ : وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَارَةِ ، وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ ، خَصَّصَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ ، وَقَصَرَتْهُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مُطْلَقِهِ ، عَلَى عَادَتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا عَلَى سِيرَةِ الْعَرَبِ فِي لُغَاتِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وُجُوبُ الْعُمْرَةِ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ ، وَيُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : هِيَ تَطَوُّعٌ ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَرَنَهَا بِالْحَجِّ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
وَابْتَدَأَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَلَمَّا ذَكَرَ الْعُمْرَةَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا لَا بِابْتِدَائِهَا ، فَلَوْ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ أَوْ اعْتَمَرَ عَشْرَ عُمَرَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فِي جَمِيعِهَا ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِإِلْزَامِ الْإِتْمَامِ لَا لِإِلْزَامِ الِابْتِدَاءِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلَّهِ } : الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ " وَالْعُمْرَةُ " بِالرَّفْعِ لِلْهَاءِ ، وَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَّ مِنْ فَرْضِ الْعُمْرَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِرَاءَةَ يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ ، وَلَا يُقْرَأُ بِحُكْمِ الْمَذْهَبِ .
الثَّانِي : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّصْبَ لَا يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْفَرْضِ ، فَلَا مَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ : يُقْرَأُ بِكُلِّ لُغَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } : هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ عُضْلَةٌ مِنْ الْعُضْلِ ، فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مُنِعْتُمْ بِأَيِّ عُذْرٍ كَانَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : [ مُنِعْتُمْ ] بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا ، وَرَأْيُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُحَصِّلِيهَا عَلَى أَنَّ أُحْصِرَ عُرِّضَ لِلْمَرَضِ ، وَحُصِرَ نَزَلَ بِهِ الْحَصْرُ .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَكَّةَ ، وَمَا كَانُوا حَبَسُوهُ وَلَكِنْ حَبَسُوا الْبَيْتَ وَمَنَعُوهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ فَقَالَ : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } .
وَقَدْ تَأْتِي أَفْعَالٌ يَكُونُ فِيهَا فَعَلَ وَأَفْعَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، وَمَعْنَاهَا : فَإِنْ مُنِعْتُمْ .
وَيُقَالُ : مُنِعَ الرَّجُلُ عَنْ كَذَا ؟ فَإِنَّ الْمَنْعَ مُضَافٌ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْمَمْنُوعِ عَنْهُ .
وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ عِنْدَنَا الْعَجْزُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْفِعْلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَمْنُوعِ بِعُذْرٍ ، وَأَنَّ لَفْظَهَا فِي كُلِّ مَمْنُوعٍ ، وَمَعْنَاهَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَحْقِيقِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } وَظَاهِرُهُ قَوْلُهُ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَبِهَذَا قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ ؛ وَإِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى ذِي التَّفْرِيطِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَعْنَى .
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ .
وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ ؛ فَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَارِي تَعَالَى الْهَدْيَ وَاجِبًا مَعَ التَّفْرِيطِ وَمَعَ عَدَمِهِ عِبَادَةً مِنْهُ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا .
وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ ، وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْهَدْيُ مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ وَيُهْدِي .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَعْنَى لِلْآيَةِ إلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ ، أَوْ الْحَصْرَ مُطْلَقًا ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ الْجَوَابُ إلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ ، أَمَّا أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى بَعْضِهِ كَانَ جَائِزًا لِدَلِيلٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { خَرَجْنَا مُعْتَمِرِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَةً وَحَلَقَ رَأْسَهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا ؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ .
قَالَ : انْحَرْ وَلَا حَرَجَ } .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : الْحِلَاقُ نُسُكٌ مَقْصُودٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ إلْقَاءُ تَفَثٍ ، وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ وَرَتَّبَهُ عَلَى نُسُكٍ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحِ مَمْدُوحٌ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَأْكِيدِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } وَتَتْمِيمُهُ : وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُحْصِرْتُمْ } مُنِعْتُمْ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِعَدُوٍّ فَفِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ ، وَيَنْحَرُ هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُ ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ هَدْيًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِمَرَضٍ لَمْ يَحِلَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا إلَّا الْبَيْتُ ، فَخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، حَيْثُ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا أَخْذًا بِمُطْلَقِ الْمَنْعِ .
وَزَادَ أَصْحَابُهُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ : حَصَرَهُ الْعَدُوُّ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالْكِسَائِيُّ .
قُلْنَا : قَالَ غَيْرُهُمَا عَكْسَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَحَقِيقَتُهُ هَاهُنَا مَنْعُ الْعَدُوِّ ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَهُمْ ، وَلَمْ يَحْبِسْهُمْ ، وَالْمَنْعُ كَانَ مُضَافًا إلَى الْبَيْتِ ، فَلِذَلِكَ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَهَذَا الْمَرِيضُ الْمَنْعُ مُضَافٌ إلَيْهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ الْحِلِّ .
وَلِلْقَوْمِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ ، وَآثَارٌ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُهَا مُعَنْعَنٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْإِحْصَارَ عَامٌّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : لَا إحْصَارَ فِي الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ .
قُلْنَا : وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، لَكِنْ فِي الصَّبْرِ إلَى زَوَالِ الْعَدُوِّ ضَرَرٌ ؛ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ ، وَبِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ فَلَا مَعْدَلَ عَنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا مَنَعَهُ الْعَدُوُّ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ خَاصَّةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً .
وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعَامِ الْآخَرِ .
قُلْنَا : إنَّمَا قَضَاهَا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ إرْغَامًا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَإِتْمَامًا لِلرُّؤْيَا ، وَتَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءُ عُمْرَةٍ أُخْرَى ؛ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، مِنْ الْمُقَاضَاةِ لَا مِنْ الْقَضَاءِ .
الثَّانِي : الْمَعْنَى قَالُوا : تَحَلَّلَ مِنْ نُسُكِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَضَائِهِ كَالْفَائِتِ وَالْمُفْسَدِ .
قُلْنَا : الْفَاسِدُ هُوَ فِيهِ مَلُومٌ ، وَالْفَائِتُ هُوَ فِيهِ مَنْسُوبٌ إلَى التَّقْصِيرِ ؛ وَهَذَا مَغْلُوبٌ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي اتِّبَاعِ الْمَعْنَى مَعَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَاصِرُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا ؛ فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ ، وَلَوْ وَثِقَ بِالظُّهُورِ ؛ وَيَتَحَلَّلُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَوْ سَأَلَ الْكَافِرُ جُعْلًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَهْنٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِرُ مُسْلِمًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ بِحَالٍ ، وَوَجَبَ التَّحَلُّلُ ، فَإِنْ طَلَبَ شَيْئًا وَيَتَخَلَّى عَنْ الطَّرِيقِ جَازَ دَفْعُهُ ، وَلَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمُهَجِ ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّ الدِّينَ أَسْمَحُ .
وَأَمَّا بَذْلُ الْجُعْلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَهْوَنِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا يُنْفَقُ فِيهِ الْمَالُ ، فَيُعَدُّ هَذَا مِنْ النَّفَقَةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا حَلَّ الْمُحْصَرُ نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ حَلَّ ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ تَابِعٌ لِلْمُهْدِي ، وَالْمُهْدِي حَلَّ بِمَوْضِعِهِ ، فَالْهَدْيُ أَيْضًا يَحِلُّ مَعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَمَحِلُّهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } .
قُلْنَا : كَذَلِكَ كَانَ صَاحِبُ الْهَدْيِ ، وَهُوَ الْمُهْدِي مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَنْسَكَهُ ، وَلَكِنْ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ ، كَذَلِكَ هَدْيُهُ يَجِبُ أَنْ يَحِلَّ مَعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ صَاحِبَ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ أَنْحَرْهُ فِي الْحَرَمِ .
قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : أُخْرِجُهُ فِي أَوْدِيَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ؛ فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ } .
قُلْنَا هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ فَصَدَّهُ الْعَدُوُّ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ أَوْ لَا يَعْلَمَ ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَيْتِ فَإِحْرَامُهُ مُلْزِمٌ لَهُ أَلَّا يَحِلَّ إلَّا بِالْبَيْتِ أَبَدًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَلَّ بِمَنْعِهِمْ لَهُ ، فَإِنْ شَكَّ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ : إنَّهُ كَائِنٌ هَذَا الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ ، فَقَالَ : إنْ صُدِدْنَا عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَحَلَّ حِينَ مُنِعَ ، وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الشَّكِّ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّرِيقِ خَاصَّةً فَلْيَأْخُذْ فِي أُخْرَى إنْ كَانَتْ آمِنَةً ، وَكَانَ الْمَنْعُ مُتَطَاوِلًا ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا صَبَرَ حَتَّى يَنْجَلِيَ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ فَاتَ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : يَحِلُّ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ فِي الْمَنَاسِكِ ، وَأَمَّا الْيَائِسُ فَيَحِلُّ إذَا تَحَقَّقَ يَأْسُهُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ وَيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ، وَلَوْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ وَمُكِّنَ مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ فِي مَشْهُورِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقِيلَ : الْحَجُّ بَاطِلٌ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ الْحَجُّ مَضْمُونًا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ التَّطَوُّعُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ وَمَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَسُفْيَانُ : لَا يَنْحَرُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } بِكَسْرِ الْحَاءِ ، وَهُوَ وَقْتُ الْحِلِّ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ وَقْتَهُ وَقْتُ حَلِّ الْمُهْدِي ، وَقَدْ حَلَّ بِالْيَأْسِ عَنْ الْبُلُوغِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَإِذَا سَقَطَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَسُقُوطُ الِاسْتِقْرَاءِ أَوْلَى .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : { مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي فَقَالَ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّك ؟ قُلْت : نَعَمْ .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ } ، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ .
فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا وَاحْتَاجَ إلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَعَلَهُ وَافْتَدَى ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ : { أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ اهْدِ شَاةً ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } ، وَفِي الْحَدِيثِ خِلَافٌ وَكَلَامٌ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ : هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ .
قَالُوا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصِّيَامَ هَاهُنَا مُطْلَقًا ، وَقَيَّدَهُ فِي التَّمَتُّعِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي نَازِلَةٍ وَاحِدَةٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَهَاتَانِ نَازِلَتَانِ .
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَدْرَ الصِّيَامِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُجْزِئُ [ الطَّعَامِ ] فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَقِيلَ : لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِمَكَّةَ إلَّا الْهَدْيُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الطَّعَامُ كَالْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْهَدْيِ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَالطَّعَامُ الَّذِي هُوَ عِوَضُهُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَيَأْتِي بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِلَفْظِ النُّسُكِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْبَحَ حَيْثُ شَاءَ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ النُّسُكِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَثَرِ : { مَنْ وُلِدَ لَهُ فَأَحَبَّ أَنْ يُنْسَكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ } .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَوْ اُنْسُكْ بِشَاةٍ } ، فَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ هَاهُنَا وَهُوَ الْهَدْيُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا النُّسُكَ هَدْيًا جَعَلَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نُسُكًا ، وَالنُّسُكُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَدْيًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } : قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ احْتَجَّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَا نَقُولُ هَكَذَا ، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ مَرَضٍ ، وَهُوَ أَمْنٌ ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ ، وَهُوَ عَامٌّ ، كَمَا جَاءَ بِلَفْظِ " أُحْصِرَ " وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ ؛ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } : الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ ؛ فَإِنْ كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ ، وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ ؛ فَإِذَا أَمِنْتُمْ أَيْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ فَحَجَجْتُمْ ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
وَالتَّمَتُّعُ يَكُونُ بِشُرُوطٍ ثَمَانِيَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ .
الثَّانِي : فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ .
الثَّالِثُ : فِي عَامٍ وَاحِدٍ .
الرَّابِعُ : فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
الْخَامِسُ : تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ .
السَّادِسُ : أَلَّا يَجْمَعَهُمَا ؛ بَلْ يَكُونُ إحْرَامُ الْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ .
السَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ .
الثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ .
وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا هُوَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْهَا مُسْتَنْبَطٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ } يَعْنِي : مَنْ انْتَفَعَ بِضَمِّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَرَّتَيْنِ بِقَصْدَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، فَإِذَا انْتَفَعَ بِاتِّحَادِهِمَا ، وَذَلِكَ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا انْتِفَاعٌ إلَّا قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَإِنَّهُ نَصٌّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ بَدَنَةٌ ، مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعُرْوَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ شَاةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ شَاةٌ أَوْ بَدَنَةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ بَدَنَةٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْإِبِلِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : كَمْ هَدْيُ فُلَانٍ ، أَيْ إبِلُهُ .
وَيُقَالُ فِي وَصْفِ السَّنَةِ : هَلَكَ الْهَدْيُ وَجَفَّ الْوَادِي .
فَيُقَالُ لَهُ : إنْ كُنْت تَجْعَلُ أَيْسَرَ الْهَدْيِ بَدَنَةً وَأَكْثَرَهُ مَا زَادَ مِنْ الْعَدَدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ فَيَلْزَمُك أَلَّا يَجُوزَ هَدْيٌ بِشَاةٍ .
وَقَدْ أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَمَ ، وَأَهْدَى أَصْحَابُهُ ، وَلَوْ كَانَ أَيْسَرُهُ بَدَنَةً مَا جَازَتْ شَاةٌ .
وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا سَمَّتْ الْإِبِلَ هَدْيًا ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَكُونُ مِنْهَا فِي الْأَغْلَبِ أَوْ لِأَنَّهَا أَعْلَاهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ أَيْسَرَ الْهَدْيِ شِرْكٌ فِي دَمٍ ، فَاحْتَجَّ { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } .
رَوَاهُ جَابِرٌ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ } ، وَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } : يَعْنِي انْتَفَعَ ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُتْعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : مَا كَانَ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : مَا كَانَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إحْرَامٍ أَوْ سَفَرٍ وَاحِدٍ .
فَأَمَّا فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، وَيَقُولُونَ : إذَا بَرَأَ الدَّبَرُ ، وَعَفَا الْأَثَرُ ، وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ .
{ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ؛ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ } .
وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ خِلَافٍ يَسِيرٍ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ زَالَ .
وَأَمَّا مُتْعَةُ الْقِرَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَيْهَا فِي حَجِّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ السُّنَّةُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مُفْرِدًا ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهِ وَلَا انْتِفَاعَ بِإِسْقَاطِ عَمَلٍ وَلَا سَفَرٍ .
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : أَنَّ عَلِيًّا شَاهَدَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا ، وَقَالَ : مَا كُنْت أَدَعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ .
وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
وَمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ ، أَيْ أَمَرَ بِفِعْلِهِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ شَرْحِ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَحْمَدُ : إنَّهَا الْأَفْضَلُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً } .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَشْفَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْأَرْفَقِ لَا عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى ، وَالْأَرْفَقِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً شَقَّ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُمْ لَهُ فِي الْفِعْلِ ، فَقَالَ { : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي ، وَقَلَّدْت هَدْيِي ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ } ؛ مُعْتَذِرًا إلَيْهِمْ مُبَيِّنًا عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ ، لَمَّا رَأَى مَنْ شَفَقَتِهِمْ وَلِمَا رَجَاهُ مِنْ امْتِثَالِهِمْ وَاقْتِدَائِهِمْ ، وَسَلِّ سَخِيمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنْ أَهْوَائِهِمْ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ } .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إضَافَةُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَلَا يَصْلُحُ هَذَا اللَّفْظُ لِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا فِي الْآيَةِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَالْآيَةُ بَعْدُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقِرَانِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إمَّا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَصَدَّهُمْ الْعَدُوُّ فَحَلُّوا ؛ وَذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الَّتِي مَنْ اعْتَمَرَ فِيهَا ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الشُّرُوطِ ؛ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُ .
وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنْتُمْ

قَدْ اعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَلَوْ حَجَجْتُمْ فِي هَذَا الْعَامِ لَكُنْتُمْ مُتَمَتِّعِينَ ، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ صُدِدْتُمْ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَكُمْ مَعَ حِلِّكُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْبَيْتِ عُمْرَةٌ صَحِيحَةٌ كَامِلَةٌ تَكُونُ إضَافَةُ الْحَجِّ إلَيْهَا مُتْعَةً .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَلْزَمُ الْمَكِّيَّ دَمُ مُتْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّهْ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَلَدُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَمَتَّعُ وَلَا يَقْرِنُ مَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } : الْمَعْنَى : أَنَّ جَمْعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّمَ لَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
[ وَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَشْرُوعٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ] .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْهَدْيُ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ حِينَئِذٍ يَتِمُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ وَصْفُ التَّمَتُّعِ ، وَمَا لَمْ يُتِمَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَخْلُصُ بِهِ أَوْ يَقْطَعُ دُونَهُ قَاطِعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِضَمِّ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَوَّلُ الْحَجِّ كَآخِرِهِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فَسَادَهَا ، وَلَوْ ذَبَحَهُ قَبْلَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِيهِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } .
وَلَوْ كَانَ ذَبْحُ الْهَدْيِ جَائِزًا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَذَبَحَهُ وَجَعَلَهَا حِينَئِذٍ عُمْرَةً .
وَقَالَ : { إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَذَلِكَ بِأَنْ يَصُومَ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ ، هَذِهِ حَقِيقَتُهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُهُ فِي إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ إحْرَامَيْ الْمُتَمَتِّعِ ، فَجَازَ صَوْمُ الْأَيَّامِ فِيهِ كَإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ .
وَدَلِيلُنَا { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } فَإِذَا صَامَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : إذَا ثَبَتَ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَصُومُهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا ، فَذَلِكَ اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ .
وَلَا يَخْلُو الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ أَوْ لَا يَجِدَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَعَلِمَ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ إلَى آخِرِ الْحَجِّ صَامَ مِنْ أَوَّلِهِ ؛ وَإِنْ رَجَاهُ آخِرَهُ إلَى مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ عَرَفَةَ فَيَصُومُهُ حِينَئِذٍ لِتَقَعَ الْأَيَّامُ مُصَوَّمَةً فِي الْحَجِّ ، وَيَخْلُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ الصَّوْمِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عِنْدِي عَلَى أَصْلٍ ؛ وَهُوَ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي الْحَجِّ } فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيَّامَ الْحَجِّ ، وَيَحْتَمِلُ مَوْضِعَ الْحَجِّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ فَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَيَّامِ الْحَجِّ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ أَيَّامِ الْحَجِّ أَيَّامَ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ خَالِصًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْكَانِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعَ الْحَجِّ صَامَهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ ، وَيَقْوَى جِدًّا ، وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ : " كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ، وَكَانَ أَبِي يَصُومُهَا " ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَا : " لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ

إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ " .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ إقَامَتِهِ إلَّا بِمِقْدَارِهَا ؛ يُؤَكِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ لَقَالَ : إذَا أَحْلَلْتُمْ أَوْ فَرَغْتُمْ ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } أَيْ : عَنْ مَوْضِعِ الْحَجِّ بِإِتْمَامِ أَفْعَالِهِ .
وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ الْهَدْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ أَيَّامَ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
قُلْنَا : إنْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَامًّا فَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ بِالتَّخْصِيصِ لِلْمُتَمَتِّعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } : يَعْنِي إلَى بِلَادِكُمْ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ : إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى .
قَالَ الْقَاضِي : وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } إنْ كَانَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الرُّخَصِ وَتَرْكُ الرِّفْقِ فِيهَا إلَى الْعَزِيمَةِ إجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوْقِيتًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْبِلَادَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي الْأَغْلَبِ وَالْأَظْهَرِ فِيهِ أَنَّهُ الْحَجُّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَهْلُ الْحَرَمِ .
الثَّانِي : مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا كَذِي طُوًى .
الثَّالِثُ : أَهْلُ عَرَفَةَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
الرَّابِعُ : مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الْخَامِسُ : مَنْ هُوَ فِي مَسَافَةِ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَلِكُلٍّ وَجْهٌ سَرَدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَعْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : شَوَّالٌ ، وَذُو الْقِعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَتَادَةُ ، وَطَاوُسٌ ، وَمَالِكٌ .
الثَّانِي : وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ : وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ .
الرَّابِعُ : إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا .
فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالتَّعْدِيدُ لِلثَّلَاثَةِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ : إنَّ الطَّوَافَ وَالرَّمْيَ فِي الْعَقَبَةِ رُكْنَانِ يُفْعَلَانِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ .
وَمَنْ قَالَ : عَشْرُ لَيَالٍ قَالَ : إنَّ الْحَجَّ يَكْمُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ .
وَمَنْ قَالَ : آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَأَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ ، وَبَعْضُ الشَّهْرِ يُسَمَّى شَهْرًا لُغَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ مَنْ جَعَلَهُ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا وَتَنْصِيصِهِ عَلَيْهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا كَذَلِكَ فِي مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ إلَى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ ،

فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُغَيِّرُهَا فَتُنْسِئُهَا وَتُقَدِّمُهَا حَتَّى عَادَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى حَدِّهَا .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ الْمُنْتَقَى { : إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } الْحَدِيثَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّمَتُّعَ ، وَهُوَ ضَمُّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَيْسَتْ جَمِيعَ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
أَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ الْحَجُّ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِهَا بِذَلِكَ ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَجَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَصَحِيحُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْعَامِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمَخْصُوصَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسِوَاهُ : تَقْدِيرُهَا الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَرَى أَحَدٌ الْإِحْرَامَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَا .
[ وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ] ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لُغَةً فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَعَيَّنَّاهُ فِقْهًا [ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ ] .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } : الْمَعْنَى الْتَزَمَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا ، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا ، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا ؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ نُطْقٍ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا ، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ مُعْضِلَةٌ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْبَيَانَ فِيهَا ، وَأَوْضَحْنَا لُبَابَهُ فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ ، وَأَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا دَائِرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ الْحَجِّ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِهِ ، وَمُعَوَّلُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَهُنَاكَ تَبَيَّنَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ ، وَظَهَرَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } : الرَّفَثُ : كُلُّ قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ ؛ يُقَالُ : رَفَثَ يَرْفُثُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا .
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا إذَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ ، وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مُفْرِدًا عَنْهُنَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ مُنِعَ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّكَاحِ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَكَيْفَ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْقَوْلِ يُذْكَرُ كُلُّهُ ، وَهَذِهِ بَدِيعَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } : أَرَادَ نَفْيَهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا ، فَإِنَّا نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ .
وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
مَعْنَاهُ شَرْعًا لَا حِسًّا ، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ ، فَعَادَ النَّفْيُ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، لَا إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } إذَا قُلْنَا : إنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ ؛ فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا : إنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَيَتَضَادَّانِ وَصْفًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ أَفْسَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَمْ تُفْسِدْهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى الْجِمَاعِ ، كَمَا حَرَّمَ الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ } ، وَلَوْ وُجِدَ الطِّيبُ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ ، فَكَذَلِكَ بِالْمُبَاشَرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا فُسُوقَ } : فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ ؛ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثٌ : الْأَوَّلُ : جَمِيعُ الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الصَّيْدِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو عَنْ ذَبْحٍ ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا ، فَشَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوَجْهِهِ نُسُكًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ جَمِيعُهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَقَالَ : { الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ } .
فَقَالَ الْفُقَهَاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ، هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهُ بَعْدَهُ .
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ { : مَنْ حَجّ ثُمَّ لَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ } بِقَوْلِهِ : ثُمَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } : أَرَادَ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَعَادَ بِذَلِكَ إلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ .
وَقِيلَ : لَا جِدَالَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَانَ مِنْ الْحُمْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِدَالَ فِي الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْخَلْقِ ، فَلَا يَكُونُ إلَى الْقِيَامَةِ ؛ وَلِهَذَا قَرَأَهُ الْعَامَّةُ وَحْدَهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى التَّبْرِئَةِ دُونَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَةٍ تَنْفُقُ فِي الطَّرِيقِ ، أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَادٍ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ؛ وَالتَّوَكُّلُ لَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا يَخْرُجُ مَنْ قَامَ بِهَا بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ .
[ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ] فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِمَنْ الضَّالِّينَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي : فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ ، خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ أَنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ أَجْرًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } : الْإِفَاضَةُ : السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ } .
وَرُوِيَ { عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِبْضَاعِ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ عَرَفَاتٍ } : مَوْضِعٌ مَعْلُومُ الْحُدُودِ ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ .
رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ } .
وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت : جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي ، وَأَتْعَبْت نَفْسِي ، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا إخْرَاجُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ ، وَسَتَرَوْنَهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ ، وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ .
وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ ، فَقَالَ : هَذَا قُزَحُ ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ ، وَجَمْعٌ ، كُلُّهَا مَوْقِفٌ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ قُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ ، فَرُحِلَتْ لَهُ ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ .
الْحَدِيثَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ

وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ { وَقْتَ الْإِفَاضَةِ ، وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَلِيلًا ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ ، وَغَابَ الْقُرْصُ } .
خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ ؛ فَكَانَ بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ : الْفَرْضُ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : الْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ : لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } : رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ دَفَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى فِيهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ قَوْمٌ : قَوْله تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } : إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ بِهِ دُونَ أَنْ تُفْعَلَ فِي الطَّرِيقِ ؛ فَإِنْ الْوَقْتُ أَخَذَهُ بِعَرَفَةَ وَتَمَادَى عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي الطَّرِيقِ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ ، وَكَذَلِكَ { قَالَ أُسَامَةُ : الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّلَاةُ أَمَامَك حَتَّى نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِيهَا } ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ صَلَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ أَمَامَك } ، فَجَعَلَهُ لَهَا حَدًّا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } ؛ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ الذِّكْرِ .
الثَّانِي : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِعُرْوَةِ بْنِ مُضَرِّسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إجْزَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ كُلُّهُ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفُ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ } .
رَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا ، وَأَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } .

قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا .
.
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ مُخَالَفَةً لِقُرَيْشٍ ؛ قَالَهُ الْجَمَاعَةُ .
الثَّانِي : الْمُرَادُ بِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى مِنًى ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَالْإِفَاضَةُ الَّتِي بَعْدَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هِيَ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةً : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ، التَّقْدِيرُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ .
وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّانِي : أَنْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ : ثُمَّ ذَكَرْنَا لَكُمْ أَفِيضُوا مِنْ

حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فَيَرْجِعُ التَّعْقِيبُ إلَى ذِكْرِ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا إلَى نَفْسِ وُجُودِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } .
الْمَعْنَى : ثُمَّ أَخْبَرْنَاكُمْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ؛ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ فِي الْإِخْبَارِ لَا فِي الْإِيتَاءِ .
الرَّابِعُ : وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ : يَا مَعْشَرَ مَنْ حَلَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ .
وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِطَابَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِيَعُمَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمَنْ لَمْ يَقِفْ حَتَّى يَمْتَثِلَهُ مَعَ مَنْ وَقَفَ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ ، وَخُصُوصًا فِي رِسَالَةِ نُزُولِ الْوَافِدِ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِهَا ، وَهِيَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الذَّبْحُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا شَعَائِرُ الْحَجِّ .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا الرَّمْي أَوْ جَمِيعُ مَعَانِي الْحَجِّ ، { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
وَالْمَعْنَى بِالْآيَةِ كُلِّهَا : إذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى : كَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ ، وَالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّكْبِيرُ .
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَاعْلَمُوا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِالْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينِهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ مَعْلُومَاتٌ ؛ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ؛ وَاَلَّذِي أَصَارَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرَّمْيِ فِيهَا .
وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ .
أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ أَفِيضُوا يَعْنِي : إلَى مِنًى عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوَّلُهُ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَآخِرُهُ لِمِنًى ،

فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِمِنًى لَمْ يُعَدَّ فِيهَا ، وَصَارَتْ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةً سِوَى يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدً الْإِطْلَاقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ قَالَ حِينَئِذٍ عُلَمَاؤُنَا : الْيَوْمُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْدُودٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَلَا مِنْ الَّتِي عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ } ، وَكَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ ؛ فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ مُرَادٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَعْلُومَاتٍ } ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْحَرُ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ ؛ فَصَارَ مَعْدُودًا فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الرَّمْيِ ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ النَّحْرِ فِيهِ .
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ بِالذَّبْحِ ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَكُونُ كَمَا قُلْتُمْ يَوْمُ النَّحْرِ مُرَادًا فِي الْمَعْدُودَاتِ وَتَكُونُ الْمَعْدُودَاتُ أَرْبَعَةً وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةً ؟ وَكَمَا يُعْطِي ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةً كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَرْبَعَةً .
فَالْجَوَابُ : أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى بِمَعْدُودٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ مَعْلُومٌ ، وَكُلَّ مَعْلُومٍ مَعْدُودٌ ، لَكِنْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْمَعْدُودَاتِ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا قَدْ

اسْتَحَقَّ أَوَّلُهُ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَمِنْهُ تَكُونُ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى ؛ فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ ، وَبَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مَعْدُودًا مِنْهَا لَاقْتَضَى مُطْلَقُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ نَفَرَ فِي يَوْمِ ثَانِي النَّحْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ فِيهَا لَا قُرْآنًا وَلَا سُنَّةً ، وَهَذَا مُنْتَهَى بَدِيعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ ؛ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذِّكْرِ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْحَاجُّ ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْحَاجِّ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ أَيْضًا خِطَابٌ لِلْحَاجِّ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ ؟ فَنَقُولُ : أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ؛ فَيُكَبِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ ، كَانَ الْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ .
لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُهُ [ وَالْمُزَنِيُّ ] .
وَالثَّانِي : مِثْلُهُ فِي الْأَوَّلِ ، وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :

يُكَبِّرُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الرَّابِعُ : يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُكَبِّرُ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ ، وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ : يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ ؛ فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : إنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } فَذِكْرُ عَرَفَاتٍ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ قَالَ يُكَبِّرُ مِنْ الْمَغْرِبِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الظُّهْرِ ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَلِّقِ قَوْله تَعَالَى : { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ بِمِنًى .
وَمِنْ قَصَرَهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ظَاهِرٌ ، وَأَنَّ تَعَيُّنَهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا بِالرَّمْيِ ، وَأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْآفَاقِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ فِيهَا ، وَلَوْلَا الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ لَضَعُفَ مُتَابَعَةُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ إلَّا فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ قَوْمٌ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ : وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، وَقَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ وَحُمُرٍ ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ ، وَهُوَ أَقْوَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، وَمَا يَبْدُو مِنْ إيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ الْخَلْقِ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي قَبِيحًا .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَلَّا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَحَدٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَيَخْتَبِرُ بِالْمُخَالَطَةِ أَمْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَه إلَّا اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ } .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْكَفِّ عَنْهُ وَعِصْمَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ فِي حَالَتِهِ ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَأَمَّا فِي [ حَدِيثِ ] حَقِّ ثُبُوتِ الْمَنْزِلَةِ بِإِمْضَاءِ قَوْلِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهُ ، وَيُخْتَبَرُ فِي تَقَلُّبَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ ؛ فَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ النَّاسَ الْفَسَادُ فَلَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } : يَعْنِي : ذَا جِدَالٍ إذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ .
الثَّانِي : فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ ؛ أَرْسَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشًا فَحَاصَرُوا حِصْنًا فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ ، فَقَالَ النَّاسُ : أَلْقَى بِيَدِهِ لِلتَّهْلُكَةِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ : كَذَبُوا ؛ أَوْ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } وَحَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } .
الثَّالِثُ : نَزَلَتْ فِي الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْمَالِ وَالدِّيَارِ لِأَجْلِهَا ؛ رُوِيَ أَنْ صُهَيْبًا أَخَذَهُ أَهْلُهُ وَهُوَ قَاصِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ آخَرُ فَافْتَدَى مِنْهُ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ ، وَغَيْرُهُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاسْتَرْجَعَ ، وَقَالَ : قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ .
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ ، فَأَرْسَلَ إلَى فِتْيَانٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عَنْبَسَةَ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْقَائِلَةُ انْصَرَفُوا .
قَالَ : فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إلَى جَانِبِهِ : اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ .
فَسَمِعَ

عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ قُلْت ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ .
قَالَ : مَاذَا قُلْت ؟ قَالَ : فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : أَرَى هَذَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ مِنْ أَمْرِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ ، فَيَقُولُ هَذَا : وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَيُقَاتِلُهُ ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ .
فَقَالَ عُمَرُ : لِلَّهِ تِلَادُك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ ، لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ ، دَاخِلًا فِي عُمُومِهَا ، إلَّا أَنَّ مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ أَمَّا الْقَوْلُ : إنَّهَا فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا اقْتِحَامُ الْقِتَالِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُهُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا خَافَ مِنْهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَ فَرْضُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اقْتِحَامُ الْغَرَرِ فِيهِ وَتَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْإِذَايَةِ أَوْ الْهَلَكَةِ ؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ [ كَانَتْ ] مَوْضُوعَةً أَوَّلًا فِي الْأَقْرَبِينَ ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ مَصْرِفَهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مَصَارِفَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ دَعْوَى ، وَشُرُوطُهُ مَعْدُومَةٌ هُنَا ؛ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْأَقْرَبِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمْ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ؛ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ .
فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ لِزَوْجِهَا : أَرَاك خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ ، فَإِنْ أَجْزَأَتْ عَنِّي فِيك صَرَفْتهَا إلَيْك .
فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ ، فَقَالَتْ : أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ مِنِّي عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَك أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا : أُمَّكَ وَأَبَاكَ ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ، وَأَدْنَاك أَدْنَاك } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُنُوَّ عَلَى الْقَرَابَةِ أَبْلَغُ ، وَمُرَاعَاةُ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ أَوْقَعُ فِي الْإِخْلَاصِ .
وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ ظَاهِرًا عَلَى مَوْضِعٍ ؛ كَانَ الْقِتَالُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، حَتَّى يَكْشِفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بِهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاشِعٍ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَخِي فَقُلْت : بَايِعْنِي عَلَى الْهِجْرَةِ .
فَقَالَ : مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا .
قُلْت : عَلَامَ تُبَايِعُنَا ؟ قَالَ : عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ إبَاحَةِ الْقِتَالِ وَالْإِذْنِ فِيهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنْ اسْتَطَاعُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَكَانَ عَطَاءٌ يَحْلِفُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ ؛ وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِالْخَاصِّ بِاتِّفَاقٍ .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ ؛ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَهَا { غَزْوُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ } ؛ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ بِمَكَّةَ ، وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبِهِ ، فَبَايَعَ عَلَى دَفْعِهِمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } يَعْنِي أَشْهُرَ التَّسْيِيرِ ، فَلَمْ يَجْعَلْ حُرْمَةً إلَّا لِزَمَانِ التَّسْيِيرِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَعْظَمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ وَالْحِمَايَةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ

أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ } وَهِيَ الْكُفْرُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَعَيَّنَ قِتَالُكُمْ فِيهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ ، هَلْ يُحْبِطُ عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ .
وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ .
وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَمَةِ ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ ، فَكَيْف أَنْتُمْ ؟ لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، حِينَ قَرَأَ : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } ؛ وَاَللَّهِ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا ذَكَرَ

الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً ، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى ، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ مُرْسَلٌ دُونَ ذِكْرِ " عَنْ " وَقَالَ بَدَلَهَا : عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْمَائِدَة : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : انْتَهَيْنَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهُ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَمْرَ شَرَابٌ يُعْتَصَرُ مِنْ الْعِنَبِ خَاصَّةً ، وَمَا اُعْتُصِرَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ لَهُمَا نَبِيذٌ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مَلَذٌّ مُطْرِبٌ ، قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ ؛ وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا خَطْمٌ وَلَا أَزْمَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَنَسًا قَالَ : " حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلٌ ، وَعَامَّةُ خَمْرِهَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ " .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى رِوَايَةٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْرُ عِنَبٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ خَمْرَ النَّبِيذِ ، فَكَسَرُوا دِنَانَهُمْ ، وَبَادَرُوا الِامْتِثَالَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَمْرٌ .
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : الْعِنَبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ " .
وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ اشْتِقَاقًا وَأُصُولًا وَقُرْآنًا وَأَخْبَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَيْسِرُ : مَا كُنَّا نَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ فِعْلَهُ وَجَهِلْنَاهُ حَمِدْنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَشَكَرْنَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ قَالَ الْحَسَنُ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ : حُرِّمَتْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } : وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } فَلَمَّا تَنَاوَلَ التَّحْرِيمُ الْإِثْمَ ، وَكَانَ الْإِثْمُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ وَجَبَ تَحْرِيمُهَا .
وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ كَانَ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ } فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيمٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَا هَذَا الْإِثْمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ مَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ ، وَالْمَنْفَعَةُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ .
الثَّانِي : أَنَّ إثْمَهَا كَانُوا إذَا شَرِبُوا سَكِرُوا فَسَبُّوا وَجَرَحُوا وَقَتَلُوا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إثْمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَتَمَامُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ .
وَالثَّانِي : السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ .
وَالثَّالِثُ : قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ : مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ ، وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ .
وَأَمَّا اللَّذَّةُ : فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ .
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ : فَقَدْ بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ لِي : لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ فِي مَنَافِعِهَا ، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا .
وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ

فِيهَا كَانَتْ بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت ، فَإِنَّ خَالِقَهَا وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ { طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا .
قَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ .
قَالَ : لَيْسَ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ : أَتُتَّخَذُ خَلًّا ؟ قَالَ : لَا .
} وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ مَا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا عِوَضَ مِنْهُ ؟ هَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا ؛ بَلْ لِلْمَرِيضِ عَنْهَا أَلْفُ غِنًى ، وَلِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مِنْهَا عِوَضٌ مِنْ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ .
الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : لَوْ كَانَتْ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا لَامْتَنَعَ تَحْرِيمُهَا ، وَلَا اسْتَحَالَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَارِي تَعَالَى الْخَلْقَ مِنْهَا لِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْمَرَافِقَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا ، وَأَنْ يُبِيحَهَا ، وَقَدْ آلَمَ الْحَيَوَانَ وَأَمْرَضَ الْإِنْسَانَ .
الثَّانِي : أَنَّ التَّطَبُّبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ : { يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ

كَانَ فِيهَا صَلَاحُ بَدَنٍ لَكَانَتْ فِيهَا ضَرَاوَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ ، فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ ، فَغَلَبَ الْمَنْعُ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ؛ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَوْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ أَمْ لَا ؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ شِهَابٍ ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ ، وَتَرَدَّدَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } : وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِثْمَ فِيمَا يَكُونُ عَنْهَا مِنْ فَسَادِ الْعَمَلِ عِنْدَ ذَهَابِ الْعَقْلِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ اللَّذَّةِ وَالرِّبْحِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَزَادَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ تَوَرَّعَ عَنْهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَشَرِبَهَا آخَرُونَ لِلْمَنْفَعَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا لَا لِمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ كَمَا قَدَّمْنَا ، حَتَّى نَزَلَتْ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَإِنْ قِيلَ : كَيْف شُرِبَتْ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَبَعْدَ قَوْلِهِ : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَكَيْف تَعَاطَى مُسْلِمٌ مَا فِيهِ مَأْثَمٌ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ بِالْإِثْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ شُرْبُهَا لَا نَفْسُ شُرْبِهَا .
فَمَنْ فَعَلَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ فَقَدْ أَثِمَ بِمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ لَا بِنَفْسِ الشُّرْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إثْمٌ ؛ فَكَانَ هَذَا مَقْصَدَ الْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ ؛ فَقَبِلَهُ قَوْمٌ فَتَوَرَّعُوا ، وَأَقْدَمَ آخَرُونَ عَلَى الشُّرْبِ حَتَّى حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى التَّحْرِيمَ ، فَامْتَنَعَ الْكُلُّ ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّك التَّحْرِيمَ لَقَالَ لِعُمَرَ أَوَّلًا مَا قَالَ لَهُ آخِرًا حَتَّى قَالَ : انْتَهَيْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا فِيهَا مِنْ الْإِثْمِ الْمُوجِبِ لِلِامْتِنَاعِ وَقَرَنَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِقْدَامِ فَهِمَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْله تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } لَغَلَبَ الْوَرَعُ ؛ فَأَقْدَمَ مَنْ

أَقْدَمَ ، وَتَوَرَّعَ مَنْ تَوَرَّعَ ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّحْرِيمِ الْبَاحِثَةِ الْكَاشِفَةِ لِتَحْقِيقِهِ ، فَفَهِمَهَا النَّاسُ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : انْتَهَيْنَا ، { وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ } .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا فَضَلَ عَنْ الْأَهْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا إسْرَافٍ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : مَا سَمَحَتْ بِهِ النَّفْسُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْخَامِسُ : صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
التَّنْقِيحُ : قَدْ بَيَّنَّا أَقْسَامَ الْعَفْوِ فِي مَوْرِدِ اللُّغَةِ عِنْدَمَا فَسَّرْنَا قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
وَأَسْعَدُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ [ بِالتَّحْقِيقِ ] وَبِالصِّحَّةِ مَا عَضَّدَتْهُ اللُّغَةُ ، وَأَقْوَاهَا عِنْدِي الْفَضْلُ ، لِلْأَثَرِ الْمُتَقَدِّمِ .
[ وَلِلنَّظَرِ ] ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِالْكَثِيرِ نَدِمَ وَاحْتَاجَ ، فَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا ، فَإِعْطَاءُ الْيَسِيرِ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ أَوْقَعُ فِي الدِّينِ وَأَنْفَعُ فِي الْمَالِ ؛ وَقَدْ { جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ كَعْبٌ ، فَقَالَ لَهُمَا : الثُّلُثُ } .

الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الْآيَةَ تَحَرَّجَ النَّاسُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ وَاعْتَزَلُوهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } يَعْنِي : قَصْدُ إصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ اعْتِزَالِهِمْ : فَكَانَ إذْنًا فِي ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْقَصْدِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ رِفْقَ الْيَتِيمِ لَا أَنْ يَقْصِدَ رِفْقَ نَفْسِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْبَحْثِ عَنْ الْيَتِيمِ : هُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُنْفَرِدِ مِنْ أَبِيهِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُنْفَرِدِ مِنْ أُمِّهِ .
وَالْأَوَّلُ : أَظْهَرُ لُغَةً ، وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ ، وَلِأَنَّ الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ عَدِمَ النُّصْرَةَ ، وَاَلَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ عَدِمَ الْحَضَانَةَ ، وَقَدْ تَنْصُرُ الْأُمُّ لَكِنَّ نُصْرَةَ الْأَبِ أَكْثَرُ ، وَقَدْ يَحْضُنُ الْأَبُ لَكِنَّ الْأُمُّ أَرْفَقُ حَضَانَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ لُغَةً ، وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْيُتْمِ فِي عَدَمِ الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ مَعَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ بِالنَّظَرِ لَهُمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْأَيْتَامِ كَمَا يُتَصَرَّفُ لِلْأَبْنَاءِ ، وَفِي الْأَثَرِ : " مَا كُنْت تُؤَدِّبُ مِنْهُ وَلَدَك فَأَدِّبْ مِنْهُ يَتِيمَك " وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ ، وَبِهِ أَقُولُ وَأَحْكُمُ ، فَيَنْفُذُ بِنُفُوذِ فِعْلِهِ لَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا كَفَلَ الرَّجُلُ الْيَتِيمَ وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَرِهِ ، جَازَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ .
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيمٍ مَعَ وُجُودِهِمْ فِي أَزْمِنَتِهِمْ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنِهِمْ عِنْدَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّقِيطِ هُوَ حُرٌّ ، لَك وَلَاؤُهُ ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ " يَعْنِي بِالْوَلَاءِ الْوِلَايَةَ ، لَيْسَ الْمِيرَاثَ ، كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْتُمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ بِوِلَايَةِ الْكَفَالَةِ كَمَا قَدَّمْتُمْ بَيَانَهُ إنْ كَانَ بِتَقْدِيمِ وَالٍ عَلَيْهِ ، فَهَلْ يُنْكِحُ نَفْسَهُ مِنْ يَتِيمَتِهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ يَتِيمَتِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّ مَالِكًا جَعَلَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةُ أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ ، حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَعْوَامِ الْمَجَاعَةِ إلَى الْكَفَلَةِ : إنَّهُمْ يُنْكِحُونَهُمْ إنْكَاحَهُمْ .
فَأَمَّا إنْكَاحُ الْكَافِلِ مِنْ نَفْسِهِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَشْتَرِي فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الْبَيْعِ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَأَمَّا مَا نَزَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ النِّكَاحِ فَلَهُ فِيهَا طُرُقٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا هُنَالِكَ ؛ وَأَمَّا الشِّرَاءُ فَطَرِيقُهُ فِيهَا ضَعِيفٌ جِدًّا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَنَا فِي مُرَاعَاةِ الذَّرَائِعِ وَالتُّهَمِ فَيَنْقُضُ أَصْلَهُ فِي تَرْكِهَا .
فَإِنَّ قِيلَ : فَلِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ ، وَجَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ يَتِيمَتِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا نَقُولُ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ ، وَوَكَّلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَيُمْنَعُ مِنْهُ ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ

مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ ، مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ .
وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأْمُلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمِّلُوهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ بِرَحْمَتِهِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ سِتِّينَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ ؛ قَالَهُ عُمَرُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ أَمَةً .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَطْءُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَدَرَسَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ قَالَ : احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ } ؛ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ ، فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ ، لَا بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنَعِ ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ : الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُخَايَرَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ لُغَةً وَقُرْآنًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } وَلَا خَيْرَ عِنْدَ

أَهْلِ النَّارِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي مُوسَى : " الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ " .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُشْرِكِ لِلْمُؤْمِنَةِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكَةِ ؛ إذْ لَوْ دَلَّ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ لَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا سِيقَتَا فِي الْبَيَانِ مَسَاقًا وَاحِدًا .
الثَّالِثُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَأَمَةٌ } لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّقِيقَ الْمَمْلُوكَ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ : الْآدَمِيَّةُ وَالْآدَمِيَّاتُ ، وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ .
التَّنْقِيحُ : كُلُّ كَافِرٍ بِالْحَقِيقَةِ مُشْرِكٌ ؛ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ، وَقَالَ : أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَقُولُ : عِيسَى هُوَ اللَّهُ أَوْ وَلَدُهُ ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَمْ تَنْسَخْهُ ؛ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ فِيهِ لَفْظُ الْمُشْرِكِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } فَلَفْظُ الْكُفْرِ يَجْمَعُهُمْ ، وَيَخُصُّهُمْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } ؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ .
قُلْنَا : لَا

نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } لَا إلَى النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } : قَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنْ " لَوْ " تَفْتَقِرُ إلَى جَوَابٍ ، وَنَسِيَ أَنَّ " إنْ " أَيْضًا تَفْتَقِرُ إلَى جَزَاءٍ .
وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ : لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ابْتِدَاءً وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حُسْنُهُنَّ ، كَمَا تَقُولُ ، لَا تُكَلِّمَ زَيْدًا وَإِنْ أَعْجَبَك مَنْطِقُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ : النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ ثُمَّ قَرَأَ : وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بِضَمِّ التَّاءِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ السُّؤَالِ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { كَانَتْ الْيَهُودُ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَاكِلُوهُنَّ وَيُشَارِبُوهُنَّ ، وَأَنْ يَكُونُوا فِي الْبَيْتِ مَعَهُنَّ ، وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا النِّكَاحَ .
فَقَالَتْ الْيَهُودُ : مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا نُخَالِفُ الْيَهُودَ فَنَطَأُ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا .
قَالَ : فَقَامَا فَخَرَجَا عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ ا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا ، فَعَلِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا .
} وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ غَضَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا كَرَاهِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَسْئِلَةِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : { ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ } .
وَإِمَّا أَنْ

يَكُونَ كَرِهَ الْأَطْمَاعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّذَائِلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَرِنَةً بِاللَّذَّاتِ ؛ وَالْوَطْءُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ رَذِيلَةٌ يَسْتَدْعِي عُزُوفَ النَّفْسِ .
وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ الِانْكِفَافَ عَنْهُ لَوْ كَانَ مُبَاحًا ، كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِي الدِّينِ عِلْمُهُ ، وَثَبَتَ فِي الْمُرُوءَةِ قَدَمُهُ كَأُسَيْدٍ وَعَبَّادٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : { كَانُوا يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي الْمَحِيضِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } وَهَذَا ضَعِيفٌ يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْمَحِيضِ وَهُوَ مَفْعَلُ ، مِنْ حَاضَ يَحِيضُ إذَا سَالَ حَيْضًا ، تَقُولُ الْعَرَبُ : حَاضَتْ الشَّجَرَةُ وَالسَّمُرَةُ : إذَا سَالَتْ رُطُوبَتُهَا ، وَحَاضَ السَّيْلُ : إذَا سَالَ قَالَ الشَّاعِرُ : أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ الَّذِي يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فَيَفِيضُ ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ : الْأَوَّلُ : حَائِضٌ .
الثَّانِي : عَارِكٌ .
الثَّالِثُ : فَارِكٌ .
الرَّابِعُ : طَامِسٌ .
الْخَامِسُ : دَارِسٌ .
السَّادِسُ : كَابِرٌ .
السَّابِعُ : ضَاحِكٌ .
الثَّامِنُ : طَامِثٌ .
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَضَحِكَتْ } يَعْنِي حَاضَتْ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَهْجُرُهَا يَوْمًا إذَا هِيَ ضَاحِكٌ وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } يَعْنِي حِضْنَ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ : يَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا يَأْتِي النِّسَاءَ إذَا أَكْبَرْنَ إكْبَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمَحِيضُ ، مَفْعَلُ ، مِنْ حَاضَ ، فَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَوْنُ .
عِبَارَةٌ عَنْ الزَّمَانِ أَمْ عَنْ الْمَكَانِ أَمْ عَنْ الْمَصْدَرِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ ؟ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْحَيْضِ وَعَنْ مَكَانِهِ ، وَعَنْ الْحَيْضِ نَفْسِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَ مَشْيَخَةِ الصَّنْعَةِ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ الْمَبْنِيَّ مِنْ فَعَلَ يَفْعِلُ لِلْمَوْضِعِ مَفْعَلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَالْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ ، وَالِاسْمُ الْمَبْنِيُّ مِنْهُ عَلَى مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ كَالْمَضْرَبِ ، تَقُولُ : إنَّ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمَضْرَبًا ، أَيْ ضَرْبًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } أَيْ عَيْشًا .
وَقَدْ يَأْتِي الْمَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِلزَّمَانِ ، كَقَوْلِنَا : مَضْرِبُ النَّاقَةِ أَيْ زَمَانُ ضِرَابِهَا .
وَقَدْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ مَا تَقَدَّمَ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } أَيْ رُجُوعُكُمْ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ

عَنْ الْمَحِيضِ } أَيْ عَنْ الْحَيْضِ .
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ، فَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَعَلِّقٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنْ بِنَاءٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَصْدًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا ، وَهِيَ سَبْعَةٌ : الْفَاعِلُ ، وَالْمَفْعُولُ ، وَالزَّمَانُ ، وَالْمَكَانُ ، وَأَحْوَالُ الْفِعْلِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مَاضٍ ، وَمُسْتَقْبَلٍ ، وَحَالٍ ، وَيَتَدَاخَلَانِ ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ إلَى عَشَرَةٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهَا بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْمُتَعَلِّقَاتِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ يَتَمَيَّزُ بِخُصُصِيَّتِهِ اللَّفْظِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تُمَيِّزُهُ بِمَعْنَاهُ ، وَقَدْ يَتَمَيَّزُ بِبِنَائِهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ ، كَقَوْلِك : مَعَهُ ، وَلَهُ ، وَبِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِذَا وَضَعَ الْعَرَبِيُّ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ جَازَ ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْمُنْصِفِ اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنْ كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْت مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } زَمَانِ الْحَيْضِ صَحَّ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ السُّؤَالُ بِسَبَبِهِ ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ .
وَإِنْ قُلْت : إنَّ مَعْنَاهُ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَانَ مَجَازًا فِي مَجَازٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفَيْنِ تَقْدِيرُهُ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } أَيْ : عَنْ الْوَطْءِ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ حَالَةَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ اسْمِ الْمَوْضِعِ يَبْقَى عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَ بِهِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ ، لِظُهُورِ الْمَجَازِ فِيهِ .
وَإِنْ قُلْت مَعْنَاهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْحَيْضِ ، كَانَ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَاحِدٍ ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ مَنْعِ الْحَيْضِ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَصَوَّرٌ مُتَقَرِّرٌ

عَلَى رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَثَابِتِ بْنِ الدَّحْدَاحَةِ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ مُتَقَدِّرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا تَقْدِيرًا صَحِيحًا ؛ فَيَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّنْزِيلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهِ بِتَطْوِيلٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي اعْتِبَارِهِ شَرْعًا الدِّمَاءُ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ دَمُ عَادَةٍ ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ ، وَدَمُ عِلَّةٍ يُعْتَبَرُ غَالِبًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَفِيهِ خِلَافٌ ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ ؛ وَالْأَرْحَامُ الَّتِي تُرْخِيهَا ثِنْتَانِ : حَامِلٌ ، وَحَائِلٌ [ وَالْحَائِلُ ] تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةٍ : مُبْتَدَأَةٌ ، وَمُعْتَادَةٌ ، وَمُخْتَلِطَةٌ ، وَمُسْتَحَاضَةٌ ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ بِالْأَحْوَالِ وَالزَّمَانِ إلَى ثَلَاثِينَ قِسْمًا ، بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا حُكْمٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَذِرٌ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .
الثَّانِي : دَمٌ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِث : نَجِسٌ .
الرَّابِعُ : مَكْرُوهٌ يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ هَذَا الرَّابِعُ ، بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَعُمُّهَا .
الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ } وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَتَقْدِيرُهُ : يَسْأَلُونَك عَنْ مَوْضِعِ الْحَيْضِ ، قُلْ : هُوَ أَذًى ؛ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمَحِيضِ مَجَازًا ، وَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى مَجَازِهِ حَقِيقَةً ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّقْدِيرِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي دَمِ الْحَيْضِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ ، رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } وَهَذَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى الْآخَرِ بِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنٍ .
وَذَلِكَ الْأَوَّلُ هُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالٍ ، وَحَالُ الْمُعَيَّنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ فُنُونِ التَّرْجِيحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : جُمْلَةُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ الطَّهَارَةُ .
الثَّانِي : دُخُولُ الْمَسْجِدِ .
الثَّالِثُ : الصَّوْمُ .
الرَّابِعُ : الْوَطْءُ .
الْخَامِسُ : إيقَاعُ الطَّلَاقِ .
وَيَنْتَهِي بِالتَّفْصِيلِ إلَى سِتَّةَ عَشْرَ حُكْمًا تَفْسِيرُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } : مَعْنَاهُ افْعَلُوا الْعَزْلَ أَيْ اكْتَسَبُوهُ ، وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ عَارِضًا لَا أَصْلًا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَوْرِدِ الْعَزْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : جَمِيعُ بَدَنِهَا .
فَلَا يُبَاشِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ فِي قَوْلٍ ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ .
الثَّالِثُ : الْفَرْجُ ؛ قَالَتْهُ حَفْصَةُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْبَغُ .
الرَّابِعُ : الدُّبُرُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَعْنَاهُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَمِيعُ بَدَنِهَا فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } ؛ وَهَذَا عَامُّ فِيهِنَّ فِي جَمِيعِ أَبْدَانِهِنَّ ، وَالْمَرْوِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ مَعِي وَأَنَا حَائِضٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ } .
وَقَالَتْ أَيْضًا : { كَانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا ، أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرَهَا } .
قَالَتْ : { وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ } ؟ وَهَذَا يَقْتَضِي خُصُوصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { بَدْرَةَ مَوْلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ : بَعَثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ إلَى امْرَأَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ .
فَوَجَدَتْ فِرَاشَهُ مُعْتَزِلًا فِرَاشَهَا ، فَظَنَنْت أَنَّ ذَلِكَ عَنْ الْهُجْرَانِ ، فَسَأَلْتهَا فَقَالَتْ : إذَا طَمَثْت اعْتَزَلَ فِرَاشِي ؛ فَرَجَعْت فَأَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ فَرَدَّتْنِي إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَتْ : تَقُولُ لَك أُمُّك : أَرَغِبْت عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ وَإِنَّهَا حَائِضٌ ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلَّا ثَوْبٌ مَا يُجَاوِزُ الرُّكْبَتَيْنِ } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الرَّاحَةِ مِنْ مُضَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ فَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَدَلِيلُهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ .
فَقَالَ : لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْفَرْجُ خَاصَّةً فَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ : { افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ } .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى حِمَايَةِ الذَّرَائِعِ ، وَخَصَّ الْحُكْمَ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِمَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْفَرْجُ ؛ لِيَكُونَ الْحُكْمُ طِبْقًا لِلْعِلَّةِ يَتَقَرَّرُ بِتَقَرُّرِ الْعِلَّةِ إذَا أَوْجَبَتْهُ خَاصَّةً ، فَإِذَا أَثَارَتْ الْعِلَّةُ نُطْقًا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالنُّطْقِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّعْيِ مِنْ قَبْلُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ الرَّمَلُ فِيهِ لِعِلَّةِ إظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ ؛ ثُمَّ زَالَتْ ، وَلَكِنْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِبًا يَثْبُتُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُسْتَمِرًّا ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ فِي الْفُرُوعِ وَأَدِلَّةٌ فِي الْأُصُولِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الدُّبُرُ ، فَرَوَى الْمُقَصِّرُونَ الْغَافِلُونَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ حَرُمَ حِجْرُهَا " ، وَهَذَا بَاطِلٌ ذَكَرْنَاهُ لِنُبَيِّن حَاله .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : { افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ } ، فَمَعْنَاهُ الْإِذْنُ فِي الْجِمَاعِ ؛ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحِلَّهُ ، وَقَوْلُهُ : { شَأْنُك بِأَعْلَاهَا } ، بَيَانٌ لِمَحِلِّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } : فَذَكَرَهُنَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَإِنَّ حَمَلْتهَا عَلَى الْعَهْدِ صَحَّ ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ مَعْهُودٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، فَعَادَ الْجَوَابُ عَلَيْهِ طِبْقًا ، وَإِنْ حَمَلْتهَا عَلَى الْجِنْسِ جَازَ وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَعَمُّ مِنْ السُّؤَالِ ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } عَامًّا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ زَوْجًا أَوْ غَيْرَ زَوْجٍ ، خَاصًّا فِي حَالِ الْحَيْضِ ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً فِي حَالِ الْحَيْضِ بِالْحَيْضِ ، وَتَكُونُ الْأَجْنَبِيَّاتُ مُحَرَّمَاتٍ فِي حَالِ الْحَيْضِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَبِالْحَيْضِ جَمِيعًا ، وَيَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالْعِلَّتَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَّتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { فِي الْمَحِيضِ } : وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، فَاعْتَبِرْهُ بِمَا فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } : سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ : إذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسَ بِالْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ .
وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَهُوَ مَوْرِدُ { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، لَكِنْ بِإِضْمَارٍ بَعْدَ إضْمَارٍ ، كَقَوْلِك مَثَلًا : فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ، أَيْ فِي مَكَانِ الْحَيْضِ ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ فِيهِ ، وَرَكَّبُوا عَلَيْهَا بَاقِيَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } : حَتَّى بِمَعْنَى الْغَايَةِ ، وَهُوَ انْتِهَاءُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَاطِعِ لِلشَّيْءِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَثِيرٌ ، مِثَالُهُ أَنَّ اللَّيْلَ يَنْتَهِي بِإِقْبَالِهِ الصَّوْمُ ، وَبِالسَّلَامِ تَنْتَهِي الصَّلَاةُ ، وَبِوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَنْتَهِي تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَتَحْقِيقُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي حُكْمِ الْغَايَةِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا ، وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا ، وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } : وَالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } : وَهُمَا مُلْتَزِمَتَانِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا نُطِيلُ النَّفَسَ فِيهِ قَلِيلًا ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } ؛ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ قَالَ : إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ حِينَئِذٍ تَحِلُّ ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ تَحِلَّ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ .
الثَّانِي : لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ .
الثَّالِثُ : تَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ .
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُنْقَضُ قَوْلُهُ بِمَا نَاقَضَ فِيهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِأَنَّ الدَّمَ إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ يُؤْمَنْ عَوْدَتُهُ .
قُلْنَا : وَلَا تُؤْمَنُ عَوْدَتُهُ إذَا مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ ، فَبَطَلَ مَا قُلْته .
وَالتَّعَلُّقُ بِالْآيَةِ يُدْفَعُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } مُخَفَّفًا .
وَقُرِئَ " حَتَّى يَطَّهَّرْنَّ " مُشَدَّدًا .
وَالتَّخْفِيفُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ وَغَايَةً لِلتَّحْرِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الدَّمُ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ التَّشْدِيدُ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ ، فَيُقَالُ : تَطَهَّرَ بِمَعْنَى طَهُرَ ، كَمَا يُقَالُ : قَطَعَ وَقَطَّعَ ، وَيَكُونُ هَذَا أَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ ، وَمَذْهَبُكُمْ يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارِ قَوْلِك بِالْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا يُقَالُ اطَّهَرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى

انْقَطَعَ دَمُهَا ، وَلَا يُقَالُ قَطَّعَ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى قَطَعَ مُخَفَّفًا ، وَإِنَّمَا التَّشْدِيدُ [ بِمَعْنَى ] تَكْثِيرُ التَّخْفِيفِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ ، فَقَالَ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ قَبْلَهَا ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } مُخَفَّفًا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " يَطَّهَّرْنَ " مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْآيَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَقَالَ الْكُمَيْتُ : وَمَا كَانَتْ الْأَبْصَارُ فِيهَا أَذِلَّةً وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إذَا النَّاسُ غُيَّبُ وَقِيلَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا إعَادَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : حَتَّى يَطْهُرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ خَاصَّةً ، فَلَمَّا زَادَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ آخَرَ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛ فَإِنَّ الْمَعَادَ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ ، بِدَلِيلِ ذِكْرِهِ بِالْفَاءِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لِذِكْرِهِ بِالْوَاوِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَلَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَا تُعْطِ هَذَا الثَّوْبَ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ الثَّوْبَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ ، لَكَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَقَالَ : لَا تُعْطِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ وَجَلَسَ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا ؛ هَذَا طَرِيقُ النَّظْمِ فِي اللِّسَانِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : إنَّا لَا نَفْتَقِرُ فِي تَأْوِيلِنَا إلَى إضْمَارٍ ؛ وَأَنْتُمْ تَفْتَقِرُونَ إلَى إضْمَارٍ .
قُلْنَا : لَا يَقَعُ بِمِثْلِ هَذَا تَرْجِيحٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ مِنْ ضَرُورَةِ الْكَلَامِ ، فَهَذَا كَالْمَنْطُوقِ بِهِ .
جَوَابٌ

ثَالِثٌ : وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي مِنْ الْآيَةِ : إنَّا نَقُولُ : نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ ، لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ، مَعْنَاهُ فَإِذَا اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْقِطَاعُ الدَّمِ .
الثَّانِي : الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ .
فَوَقَفَ الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الْوَطْءِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ ، وَصَارَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فَعَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بُلُوغُ النِّكَاحِ ، وَالثَّانِي : إينَاسُ الرُّشْدِ .
فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ بِأَحَدِهِمَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ ؛ فَوَقَفَ التَّحْلِيلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُمَا انْعِقَادُ النِّكَاحِ ، وَوُقُوعُ الْوَطْءِ ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ الْجُوَيْنِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ مَدَّ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ ، وَهِيَ انْقِطَاعُ الدَّمِ ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الْجَوَازُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِسَبَبِ حُكْمِ الْغَايَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَايَةِ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً ، فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا شَرْطٌ آخَرُ فَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } ؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَكَمَا بَيَّنَّاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا تَجْدِيدَ شَرْطٍ زَائِدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إعَادَةٌ لِلْكَلَامِ ، كَمَا تَقُولُ : لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ ؛ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ

وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْفَظُ حُكْمَ الْغَايَةِ وَيُقِرُّهَا عَلَى أَصْلِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ لَفْظِ الشَّرْطِ أَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا نَقُولُ : رَوَى عَطِيَّةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ " ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ .
الثَّانِي : أَنَّ تَطَهَّرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ ، فَأَمَّا انْقِطَاعُ الدَّمِ فَلَيْسَ بِمُكْتَسَبٍ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ يُسْتَعْمَلُ تَفَعَّلَ فِي غَيْرِ الِاكْتِسَابِ ، كَمَا يُقَالُ : تُقَطَّعَ الْحَبْلُ ، وَكَمَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : تَجَبُّرٌ وَتَكَبُّرٌ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اكْتِسَابٌ وَلَا تَكَلُّفٌ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللُّغَةِ مَا قُلْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ : تَقَطَّعَ الْحَبْلُ نَادِرٌ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حُكْمٌ .
جَوَابٌ آخَرُ : هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ ، فَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسْتَعْمَلُ ، فَلَا يُقَالُ تَطَهَّرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى انْقَطَعَ دَمُهَا .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَقَعْ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهَا ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْمَجَازِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ .
وَأَمَّا مَجَازٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقًا إلَى تَأْوِيلِ اللَّفْظِ فِيمَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ ؛ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا تُوصَفُ بِالِاكْتِسَابِ لِلْأَفْعَالِ وَتَكَلُّفِهَا ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَفْعَالِهِ التَّكَلُّفُ ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَهَذَا جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : قَالَ

تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فَمَدَحَهُنَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِنَّ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ انْقِطَاعَ الدَّمِ مَا كَانَ فِيهِ مَدْحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِنَّ ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ ذَمَّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَقَالَ : { وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ ، وَلَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى مَا تَقَدَّمَ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } ؛ وَلَمْ يَجْرِ لِلتَّوْبَةِ ذِكْرٌ .
قُلْنَا : سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
جَوَابٌ رَابِعٌ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ : وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّمَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا كَمَا قَدْ حَفِظْنَا مُوجِبَ الْغَايَةِ وَمُقْتَضَاهَا ، فَهَذَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْغَايَةِ ، فَأَمَّا إذَا قُرِنَ بِهَا الشَّرْطُ فَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
جَوَابٌ خَامِسٌ : وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : إنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا مُوجَبَ الْغَايَةِ فَقَدْ حَمَلْتُمْ أَنْتُمْ اللَّفْظَ عَلَى التَّكْرَارِ ، فَتَرَكْتُمْ فَائِدَةَ عَوْدِهِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّكْرَارِ فِي كَلَامِ النَّاسِ ، فَكَيْف كَلَامُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ ؟ جَوَابٌ سَادِسٌ : لَيْسَ حَمْلُكُمْ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } عَلَى قَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ ؛ هَذَا جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ .
جَوَابٌ سَابِعٌ : وَذَلِكَ أَنَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ كُنَّا قَدْ حَفِظْنَا الْآيَةَ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ التَّنَاقُضِ ؛ وَإِذَا حَمَلْنَا { تَطَهَّرْنَ } عَلَى انْقِطَاعِ الدَّمِ كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْآيَةَ وَتَحَكَّمْنَا عَلَى مَعْنَى لَفْظِهَا بِمَا لَا يَقْتَضِيه وَلَا يَشْهَدُ لَهُ فَرْقٌ فِيهِ ، وَتَنَاقَضْنَا فِي الْأَدِلَّةِ ؛ وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى .
هَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ

.
وَجَوَابٌ ثَامِنٌ : وَهُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ ؛ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُنَا جَوَابُ الطُّوسِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُهَا ؛ وَقَدْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُ ضَعِيفَةً عِنْدَ لِقَائِنَا لَهُ ، وَقَدْ حَصَّلْنَا فِيهَا الْقُوَّةَ وَالنُّصْرَةَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ إمَامٍ وَفِي كُلِّ طَرِيقٍ .
جَوَابٌ تَاسِعٌ : قَوْلُهُمْ : إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللَّفْظِ الْمَعَادِ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَادًا بِلَفْظِ الْأَوَّلِ ؛ أَمَّا إذَا كَانَ مَعَادًا بِغَيْرِ لَفْظِهِ فَلَا ، وَهُوَ قَدْ قَالَ هَاهُنَا : حَتَّى " يَطْهُرْنَ " مُخَفَّفًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " مُشَدَّدًا ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَانَ كَلَامُنَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ آخِرُ أَسْئِلَةِ الْقَوْمِ ، وَأَعْمَدُهَا : الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى فَتُحْمَلُ الْمُشَدَّدَةُ عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَقَلِّ ، فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُ وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ ، وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَكْثَرِ ، فَنُجَوِّزُ وَطْأَهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ .
قُلْنَا : قَدْ جَعَلْنَا الْقِرَاءَتَيْنِ حُجَّةً لَنَا ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ تَقْتَضِي التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ أَيْضًا مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ .
جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَوْجَبَتْ انْقِطَاعَ الدَّمِ ، وَالْأُخْرَى أَوْجَبَتْ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى تَحْلِيلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ ، وَاقْتَضَتْ السُّنَّةُ التَّحْلِيلَ بِالْوَطْءِ ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اعْتَبَرْتُمْ الْقِرَاءَتَيْنِ هَكَذَا كُنْتُمْ قَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ ،

وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا نَحْنُ كَمَا قُلْنَا حَمَلْنَاهَا عَلَى فَائِدَتَيْنِ مُتَجَدِّدَتَيْنِ ، وَهِيَ اعْتِبَارُ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي قَوْله تَعَالَى : { تَطَهَّرْنَ } فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَاعْتِبَارُ قَوْلِهِ : يَطْهُرُ فِي الْأَقَلِّ .
قُلْنَا : نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا قَدْ حَمَلْنَاهُمَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَدْ وَجَدْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَحَفِظْنَا نُطْقَ الْآيَةِ وَلَمْ نَخُصَّهُ ، وَحَفِظْنَا الْأَدِلَّةَ فَلَمْ نَنْقُضْهَا ؛ فَكَانَ تَأْوِيلُنَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلٍ آخَرَ يَخْرُجُ عَنْهَا .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْجَمْعِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِلْأَكْثَرِ ، وَمَا قُلْنَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ ؛ وَإِذَا تَعَارَضَ بَاعِثُ الْحَظْرِ وَبَاعِثُ الْإِبَاحَةِ غَلَبَ بَاعِثُ الْحَظْرِ ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ : " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } ثُمَّ قَالَ : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } وَهُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ ، وَمَتَى انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَالزَّمَانُ بَاقٍ ، فَبَقِيَ النَّهْيُ ، وَهَذَا اعْتِرَاضُ أَبِي الْحَسَنِ الْقُدُورِيِّ .
أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ : [ الْمَحِيضُ ] هُوَ الْحَيْضُ بِعَيْنِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ : حَاضَتْ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ .
وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنْ قَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " الْمَحِيضِ " نَفْسَ الْحَيْضِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } فَإِنْ قِيلَ : بِهَذَا نَحْتَجُّ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الدَّمُ زَالَ الْأَذَى ؛ فَجَازَ الْوَطْءُ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا .
قُلْنَا : هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ ؛ فَإِنْ زَالَتْ الْعِلَّةُ

وَلَمْ يَزُلْ الْحُكْمُ ؛ وَذَلِكَ لِفِقْهٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ وُجُودُ الْأَذَى ، ثُمَّ لَمْ يَرْبِطْ زَوَالَ الْحُكْمِ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ حَتَّى ضَمَّ إلَيْهِ شَرْطًا آخَرَ ، وَهُوَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ .
وَأَمَّا طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ فَالْكَلَامُ مَعَهُمَا سَهْلٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُمَا تَفْسِيرُ الطُّهْرِ بِالِانْقِطَاعِ أَوْ الِاغْتِسَالِ ؛ وَلِذَلِكَ حَمَلْنَا قَوْله تَعَالَى : { فَاطَّهَّرُوا } عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَوْ الْمَسْأَلَتَيْنِ ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنْ نَقُولَ : الْحَيْضُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّوْمَ ؛ فَكَانَ الطُّهْرُ الْوَارِدُ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ أَصْلُهُ الْجَنَابَةُ .
وَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّا لَمْ نُرَاعِ خِلَافَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيُضَلِّلُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ الْقِيَاسَ كَفَّرْنَاهُ ؛ فَإِنْ رَاعِينَا إشْكَالَ سُؤَالِهِ ، قُلْنَا : هَذَا الْكَلَامُ هُوَ عَكْسُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَهَذَا ضَمِيرُ النِّسَاءِ ؛ فَكَيْف يَصِحُّ أَنْ يَسْمَعَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } فَيَقُولُ : إنَّ وَطْأَهَا جَائِزٌ ، مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ؛ فَيُبِيحُ الْوَطْءَ قَبْلَ وُجُودِ غَايَتِهِ الَّتِي عَلَّقَ جَوَازَ الْوَطْءِ عَلَيْهَا .
وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِعِطْفٍ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } ؛ عَلَى قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } تَجِدُهُ صَحِيحًا ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اعْتَزِلُوا جُمْلَةَ الْمَرْأَةِ كَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } عَامًّا فِيهَا ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } رَاجِعًا إلَى جُمْلَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا } أَسْفَلَهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : حَتَّى يَطْهُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ كُلُّهُ ؛ وَلَا يَصِحُّ لَهُ ؛ ==========ج33333333333333333333333333.=============


كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي


الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ ، وَيُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ، ثَلَاثًا فِي الْأُولَى وَثِنْتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ " .
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ ، سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ " .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : " ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً مِثْلَهُ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ؛ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَسِتًّا فِي الثَّانِيَةِ " .
وَرُوِيَ عَنْهُ : " إنْ شِئْت سَبْعًا ، أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : " يُكَبِّرُ تِسْعًا : خَمْسًا فِي الْأُولَى ، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ " وَمِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مُوسَى ؛ وَرُوِيَ عَنْهُمَا : " يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا كَتَكْبِيرِ الْجَنَائِزِ " .
وَقَدْ أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ ، سَأَلَهُمْ عَنْ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ ، فَقَالُوا : ثَمَانِي تَكْبِيرَاتٍ ، فَذَكَرَهُ لِابْنِ سِيرِينَ ، فَقَالَ : صَدَقَ ، وَلَكِنَّهُ أَغْفَلَ تَكْبِيرَةَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ .
وَاخْتَلَفَ رَأْيُ الْفُقَهَاءِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ : سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .
إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : سَبْعًا فِي الْأُولَى بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .
قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ : سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ خَمْسًا فِي الْأُولَى ، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ ، سِتٌّ فِيهَا زَوَائِدُ ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ ، لَكِنْ يُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ، وَيُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِي الْأُولَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَيُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ

التَّكْبِيرِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الصَّحَابَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ .
وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا كَأَعْدَادِ الْوُضُوءِ وَرَكَعَاتِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ لَيْسَ فِي الْوُضُوءِ أَعْدَادٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ، وَلَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ رَكَعَاتٌ مُقَدَّرَةٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ رِوَايَاتٍ فِي صَلَاةِ جَمَاعَاتٍ ، فَهِيَ كَاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ؛ وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ ، فَمَنْ فَعَلَ مِنْهَا شَيْئًا تَمَّ لَهُ الْمُرَادُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ نَفْسُ التَّكْبِيرِ لَا قَدْرُهُ .
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ رِوَايَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ بِالدِّينِ أَقْعَدُ فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوهَا ، فَصَارَ نَقْلُهُمْ كَالتَّوَاتُرِ لَهَا .
وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَأَى تَكْبِيرًا يَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِهِ وِتْرٌ ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ [ وَإِلَيْهِ أَمِيلُ ] .
وَقَدْ يُمْكِنُ تَلْخِيصُ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَدَّ الْأُصُولَ وَالزَّوَائِدَ مَرَّةً وَأَخْبَرَ عَنْهَا ، فَيَأْتِيَ مِنْ مَجْمُوعِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى الزَّوَائِدِ فِي الذِّكْرِ وَيَحْذِفَ الْأَصْلِيَّاتِ الثَّلَاثَ فَيَظْهَرُ هَاهُنَا التَّبَايُنُ أَكْثَرَ ، وَلَكِنْ يَفْضُلُ الْكُلُّ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ ، فَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَمَّارٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ غَدَاةَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَوْمَ دَفْعَةِ النَّاسِ الْعُظْمَى } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ : عَلَى مَكَانِكُمْ ، وَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } .
وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ " كَذَلِكَ فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ .
وَرَوَى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْته يُكَبِّرُ فِي الصَّلَوَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا .
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ أَبِي جَعْفَرٍ [ عَنْ جَابِرٍ ] ، أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ، وَذَكَرَهَا ابْنُ الْجَلَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَاخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْإِقْبَالَ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ شُكْرًا عَلَى مَا أَوْلَى مِنْ الْهِدَايَةِ وَأَنْقَذَ بِهِ مِنْ الْغَوَايَةِ ، وَبَدَلًا عَمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْأَحْسَابِ ، وَتَعْدِيدِ الْمَنَاقِبِ ، عَلَى مَا يَأْتِي تِبْيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْأَئِمَّةُ : الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْبَرَاءِ : { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ ، فَقَالَ : أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ : لَا ، وَلَكِنِّي أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ ، وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَامَ قَالَتْ : خَيْبَةً لَك ؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ ، { وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ : قَدْ نِمْتُ ، فَقَالَ : مَا نِمْت ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا ، وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَهُ .
فَغَدَا عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك ؟ فَإِنَّ نَفْسِي زَيَّنَتْ لِي مُوَاقَعَةَ أَهْلِي ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ

رُخْصَةٍ ؟ فَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ حَقِيقًا يَا عُمَرُ ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَنْبَأَهُ بِعُذْرِهِ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ قَالَ : " جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرَادَ أَهْلَهُ ، فَقَالَتْ : إنِّي قَدْ نِمْت : فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ ، فَأَتَاهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي " الرَّفَثِ " : الرَّفَثُ يَكُونُ الْإِفْحَاشَ فِي الْمَنْطِقِ ، وَيَكُونُ حَدِيثَ النِّسَاءِ ، وَيَكُونُ مُبَاشَرَتَهُنَّ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمُبَاشَرَةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الْمُبَاشَرَةُ الْجَمْعُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَكُنِّي ، وَهَذَا يَعْضُدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ يَصُومُونَ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } : الْمَعْنَى هُنَّ [ سِتْرٌ ] لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَيُفْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إلَى صَاحِبِهِ ، وَيَسْتَتِرُ بِهِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ .
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ صَاحِبِهِ لِمُخَالَطَتِهِ إيَّاهُ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ .
وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُتَعَفِّفٌ بِصَاحِبِهِ مُسْتَتِرٌ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ التَّعَرِّي مَعَ غَيْرِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رِوَايَةِ عُمَرَ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْخِيَانَةَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا عَلِمَ مَوْجُودًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَتَقْدِيرُهُ : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَرَخَّصَ لَكُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمْرِ تَوْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ ، وَقَدْ تَابَ عَلَيْنَا رَبُّنَا هَاهُنَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَبُولُهُ تَوْبَةَ مَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ .
وَالثَّانِي : تَخْفِيفُ مَا ثَقُلَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أَيْ رَجَعَ إلَى التَّخْفِيفِ .
قَالَ عُلَمَاءُ الزُّهْدِ : وَكَذَا فَلْتَكُنْ الْعِنَايَةُ وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ ، خَانَ نَفْسَهُ عُمَرُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرِيعَةً ، وَخَفَّفَ لِأَجْلِهِ عَنْ الْأُمَّةِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : مَعْنَاهُ : قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ جِمَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُوعُ قَيْسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ جُوعَ قَيْسٍ لَقَالَ : فَالْآنَ كُلُوا ، ابْتَدَأَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ لِأَجْلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْحَلَالِ .
الثَّانِي : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْوَلَدِ .
الثَّالِثُ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ .
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَامٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ قَيْسٍ ، وَالثَّانِي خَاصٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ ، وَالثَّالِثُ عَامٌّ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } : هَذَا جَوَابُ نَازِلَةِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ ، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ نَازِلَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَبَدَأَ بِنَازِلَةِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ : { قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي ، وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَعَمَدْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الْفَجْرِ } } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَمْنَعَنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِكُمْ ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ : هَكَذَا وَضَرَبَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } : فَشَرَطَ رَبُّنَا تَعَالَى إتْمَامَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ ، كَمَا جَوَّزَ الْأَكْلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ النَّهَارُ ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ فَالسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ { : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ؛ فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى ، فَقَالَ لِرَجُلٍ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي .
قَالَ : لَوْ انْتَظَرْت حَتَّى تُمْسِيَ .
قَالَ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي إذَا رَأَيْت اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ إذَا قَرُبَ الْفَجْرُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ : أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ .
وَتَأَوَّلَهُ عُلَمَاؤُنَا : قَارَبْت الصَّبَاحَ ، وَقَارَبْت تَبَيُّنَ الْخَيْطِ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُوشِكُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَكَلْت لَمْ تَخَفْ مُوَاقَعَةَ مَحْظُورٍ ، وَإِذَا دَنَا الصَّبَاحُ لَمْ يَحِلَّ لَك الْأَكْلُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَك فِي الْمَحْظُورِ غَالِبًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا ، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ لِعُذْرٍ أَوْ لِشُغْلٍ جَازَ ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَصْدًا لِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ قُرْبَةً اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِمَّنْ رَآهُ جَائِزًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، كَانَ يَصُومُ الْأُسْبُوعَ وَيُفْطِرُ عَلَى الصَّبْرِ ، وَرَآهُ الْأَكْثَرُ حَرَامًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ مَعْرُوفَةٌ ، وَهِيَ ضَعْفُ الْقُوَى وَإِنْهَاكُ الْأَبْدَانِ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : فَإِنَّك تُوَاصِلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَيُّكُمْ مِثْلِي ؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي .
فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا وَيَوْمًا ، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ ، فَقَالَ : لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ } ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، وَإِنَّمَا كَانَ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلُوهُ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا فَعَلُوهُ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُوَاصِلُوا ؛ فَأَيُّكُمْ أَرَادَ الْوِصَالَ فَلْيُوَاصِلْ ، حَتَّى السَّحَرِ } ، وَهَذِهِ إبَاحَةٌ لِتَأْخِيرِ الْفِطْرِ ، وَمَنْعٌ مِنْ إيصَالِ يَوْمٍ بِيَوْمٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } : بَيَّنَ بِذَلِكَ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ ؛ وَهِيَ الْأَكْلُ ، وَالشُّرْبُ ، وَالْجِمَاعُ .
فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ اتِّصَالُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا حَرَامٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَاحَةٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ التَّعَرُّضَ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ مَنْ يَأْمَنُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا : أَنَّهَا سَبَبٌ وَدَاعِيَّةٌ إلَى الْجِمَاعِ ، وَذَرِيعَةٌ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، فَيُخْتَلَفُ فِي حُكْمِهَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ الَّتِي تَدْعُو إلَى الْمَحْظُورَاتِ ؛ فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَاعْتَبَرُوا حَالَ الرَّجُلِ وَخَوْفَهُ عَلَى صَوْمِهِ وَأَمْنَهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ أَزْوَاجَهُ عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا ، وَهُوَ صَائِمٌ ، وَيَأْمُرُ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ } ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ كَانَ أَمْلَكَنَا لِإِرْبِهِ .
وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَى عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بِجَوَازِهَا وَهُوَ شَابٌّ } ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهَا مَا اعْتَبَرَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ حَالِ الْمُقَبِّلِ ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ فِي التَّفْصِيلِ حَدَّ الْفُتْيَا ، وَنَحْنُ نَضْبِطُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَنَقُولُ : أَمَّا إنْ أَفْضَى التَّقْبِيلُ وَالْمُبَاشَرَةُ إلَى الْمَذْيِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، وَأَمَّا إنْ خِيفَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْمَنِيِّ فَذَلِكَ الْمَمْنُوعُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } الْفَجْرَ وَيَتَأَخَّرُ الْبَيَانُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ؟ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَقَعَ الْخَطَأُ عَنْ الْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْرِكُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ مَكْشُوفًا فِي دَرَجَةٍ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلَّا عَدِيٌّ وَحْدَهُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَنِّفْ عَدِيًّا ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَيَانَ فِيهِ جَلِيًّا .
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { إنَّك لَعَرِيضُ الْقَفَا } ، وَضَحِكَ ؛ وَلَا يَضْحَكُ إلَّا عَلَى جَائِزٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ إلَّا تَعْرِيضُهُ لِلْغَبَاوَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ جُنُبٌ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا ؛ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ كَلَامٌ ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ ، وَغَوْصِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } : الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللُّبْثُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَقَلُّهُ لَحْظَةٌ ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُمَا مِنْ شَرْطِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الصَّائِمِينَ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْوَجْهَيْنِ : أَمَّا اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ فِيهِ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ صَامَ فَلَا يَلْزَمُ بِظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ ؛ لِأَنَّهَا حَالٌ وَاقِعَةٌ لَا مُشْتَرَطَةٌ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ فَضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً بِشَرْطِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ ، وَتَنْقَضِي الصَّلَاةُ وَتَبْقَى الطَّهَارَةُ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ دَلِيلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ ، وَيُغْنِي الْآنَ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ : اعْتَكِفْ وَصُمْ } .
وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ إذَا دَخَلْنَا مَعَهُ مَسْجِدًا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ لِإِقَامَةِ سَاعَةٍ يَقُولُ : انْوُوا الِاعْتِكَافَ تَرْبَحُوهُ .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ شَرْعِيٌّ ، فَجَاءَ الشَّرْعُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَقْدِيرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقَلَّهُ ، وَجَاءَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِكَافِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فِي الْمَسَاجِدِ } : مَذْهَبُ مَالِكٍ الصَّرِيحُ الَّذِي لَا مَذْهَبَ لَهُ سِوَاهُ جَوَازُ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَعَمَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا ؛ لَكِنَّهُ إذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا جُمُعَةَ فِيهِ لِلْجُمُعَةِ ، فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ ، وَلَا نَقُولُ بِهِ ؛ بَلْ يَشْرُفُ الِاعْتِكَافُ وَيَعْظُمُ .
وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الِاعْتِكَافِ مِنْ مَسْجِدٍ إلَى مَسْجِدٍ لَجَازَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إجْمَاعًا ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى سِوَاهُ ؟ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ بَدِيعَةٌ : فَإِنْ قِيلَ : قُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَقُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } : إنَّهُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ ، فَكَيْفَ هَذَا التَّنَاقُضُ ؟ قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : إنَّهَا الْمُبَاشَرَةُ بِأَسْرِهَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا ؛ وَلَوْلَا أَنَّ السُّنَّةَ قَضَتْ عَلَى عُمُومِهَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فِي جَوَازِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ ، وَبِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي الْقُبْلَةِ وَهُوَ صَائِمٌ فَخَصَصْنَاهَا .
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَعَضَّدَتْهَا أَدِلَّةٌ سِوَاهَا ؛ وَهِيَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى رُكْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْكُ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ بِإِجْمَاعٍ .
الثَّانِي : تَرْكُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ سِوَاهُ مِمَّا يَقْطَعُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ بَابِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهِ ، وَالْمُبَاحَاتُ لَا تَجُوزُ مَعَهُ فَالشَّهَوَاتُ أَحْرَى أَنْ تُمْنَعَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } : فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ مُلْتَزِمُونَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدُونَ لَهُ ، فَهُوَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدٌ لَهُ رَخَّصَ لَهُ فِي حَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَبَقِيَ سَائِرُ أَفْعَالِ الِاعْتِكَافِ كُلِّهَا عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : هَذِهِ الْآيَةُ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } : الْمَعْنَى : لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } : الْمَعْنَى : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا } : مَعْنَاهُ : وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا .
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا } فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِالْبَاطِلِ } : يَعْنِي : بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ ، وَمَنَعَ مِنْهُ ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا ، وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ } : أَيْ : تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا : ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ : وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ .
أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ .
{ بِالْإِثْمِ } : أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : تَحْرِيمَ ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ [ هُوَ فِي الظَّاهِرِ ] عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ ، فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْبَاطِنِ ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ ؟ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا } بِحُكْمِهِمْ { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } بُطْلَانَ ذَلِكَ ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { : يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا عَنْ زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ لِمَ جُعِلَتْ الْأَهِلَّةُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } .
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ .
وَفِي الْأَثَرِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمَا مَلَكَيْنِ ؛ وَرَتَّبَ لَهُمَا مَطْلَعَيْنِ ، وَصَرَّفَهُمَا بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالشَّمْسِ ، وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَمَرِ ؛ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ أَهْلُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا الشَّمْسَ مَلَكًا أَعْجَمِيًّا وَالْقَمَرَ مَلَكًا عَرَبِيًّا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } : يَعْنِي : فِي صَوْمِهِمْ وَإِفْطَارِهِمْ وَآجَالِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَهُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْحَجِّ } : مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِيقَاتٌ فَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } ، فَإِنْ لَمْ يُرَ فَلْيُرْجَعْ إلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جُهِلَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عُوِّلَ عَلَى عَدَدِ الْهِلَالِ قَبْلَهُ ، وَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُ بِالرُّؤْيَةِ بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى رُؤْيَتِهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } .
وَرُوِيَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ " .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ : أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمْسَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قَدِمْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَاهُ فَقَالَ : جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ : وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَابْنُ وَهْبٍ ، وَغَيْرُهُمَا : هُوَ لِلْمَاضِيَةِ .
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ : " أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فَجَعَلَ جَمِيعَهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَادَتْ بَيَانَ حِكْمَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَوَائِدِ بِالْأَهِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ لِجَمِيعِهَا ، فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ لِجَمِيعِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ، فَقَالَ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فَبَيَّنَ أَنَّ أَهِلَّتَهُ مَعْلُومَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } : كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ : { أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ ، فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِهِ فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ ؛ فَيَقْتَحِمَ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ ؛ ثُمَّ يَقُومَ فِي حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ ، فَتَخْرُجَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَثَرِهِ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أَحْمَسِيٌّ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ يَعْنِي عَلَى دِينِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَأْوِيلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا بُيُوتُ الْمَنَازِلِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا النِّسَاءُ أَمَرَنَا بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ الْقُبُلِ لَا مِنْ الدُّبُرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ؛ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا الْقَوْلُ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا النِّسَاءُ : فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ وَلَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مَثَلًا فِي إتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ وُجُوهِهَا : فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ آيَةٍ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَثَلًا مِنْهَا مَا يَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ .
وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبُيُوتُ الْمَعْرُوفَةُ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَا أَوْعَبَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ ، فَحَقَّقَ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ،

ثُمَّ رَكَّبَ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَقْرَبُ ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَنْدُوبَاتِ خَاصَّةً دُونَ الْمُبَاحِ وَدُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَاقْتِحَامُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا فَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ الْقُرْبَةِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ بِمُبَاحٍ وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَنْدُوبٍ ؛ وَهَذَا أَصْلٌ حَسَنٌ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي مُقَدَّمَةٍ لَهَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ ، وَأَرْخَى لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ الَّتِي أَنْفَذهَا ، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ ، وَالْكُفَّارُ يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْإِذَايَةِ ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى ، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْقِتَالِ .
فَقِيلَ : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } .
ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ ، فَقَالَ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إلَى الْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا ، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ، فَبَايَعَ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إلَى أَمْرٍ رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَاهُنَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِذَا بَعْدَهُ ، فَقَالَ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } بَيْدَ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ أَمَرَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ ، إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَاهُ ؛ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ { : قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتْ الْبِدَايَةُ بِهِمْ ، وَبِكُلِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْ عَاوَنَهُمْ ؛ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي ، حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ الْكَفَرَةِ ، وَذَلِكَ مُتَمَادٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ : الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ } .
وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْقِتَالِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } وَقِيلَ غَايَتُهُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ } .
وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، وَسَيُقَاتِلُ الدَّجَّالَ ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَهُوَ آخِرُ الْأَمْرِ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْجِهَادَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَ بِفَرْضٍ إلَّا أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَهُ

سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : وَمَالَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ ، وَظَنَّهُ قَوْمٌ بِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَأَوْهُ مُوَاظِبًا عَلَى الْحَجِّ تَارِكًا لِلْجِهَادِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } .
ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَهَذَا هُوَ دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ بَاقٍ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْفَتْحُ الْهِجْرَةَ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ يَعْنِي كُفْرًا { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } .
وَمُوَاظَبَةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْحَقَّ ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عُدُولٌ وَجَائِرُونَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُؤْثِرٌ لِلْحَجِّ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَشَرَةَ أَعْوَامٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ ، ثُمَّ تَعَيَّنَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ ، سَقَطَ فَرْضُ الدَّعْوَةِ إلَّا عَلَى الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، وَبَقِيَتْ مُسْتَحَبَّةً .
فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ وَعَمَّتْ ، وَظَهَرَ الْعِنَادُ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَا يَنْقَطِعُ .
رَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، فَإِنْ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } ، فَذَكَرَ الدُّعَاءَ إلَى الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ إلَى الْهِجْرَةِ أَوْ إلَى الْجِزْيَةِ ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ .
وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلَ وَسَبَى ، فَعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَ وَالْمُسْتَحَبَّ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَعْتَدُوا } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا تَقْتُلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } وَ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَعْتَدُوا } أَيْ لَا تُقَاتِلُوا عَلَى غَيْرِ الدِّينِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } يَعْنِي دِينًا .
الثَّالِثُ : أَلَّا يُقَاتَلَ إلَّا مَنْ قَاتَلَ ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ ؛ فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ وَالرُّهْبَانُ فَلَا يُقْتَلُونَ ؛ وَبِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ إذَايَةٌ .
وَفِيهِ سِتُّ صُوَرٍ : الْأُولَى : النِّسَاءُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِنَّ ؛ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ ، وَهَذَا مَا لَمْ يُقَاتِلْنَ ، فَإِنْ قَاتَلْنَ قُتِلْنَ .
قَالَ سَحْنُونٌ : فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ قَتْلُهُنَّ ، إذَا قَاتَلْنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ وَبَعْدَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وَلِلْمَرْأَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ فِي الْقِتَالِ ؛ مِنْهَا الْإِمْدَادُ بِالْأَمْوَالِ ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ ، فَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ ، نَادِبَاتٍ ، مُثِيرَاتٍ لِلثَّأْرِ ، مُعَيِّرَاتٍ بِالْفِرَارِ ، وَذَلِكَ يُبِيحُ قَتْلَهُنَّ .
الثَّانِيَةُ : الصِّبْيَانُ ؛ فَلَا يُقْتَلُ الصَّبِيُّ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ ، فَإِنْ قَاتَلَ قُتِلَ حَالَةَ الْقِتَالِ ، فَإِذَا زَالَ الْقِتَالُ فَفِي سَمَاعِ يَحْيَى فِي

الْعُتْبِيَّةِ يُقْتَلُ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ : لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ وَلَا الصَّبِيُّ إذَا قَاتَلَا ، وَأُخِذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسِيرَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَتَلَا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ قِصَاصًا ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءٌ وَحَدٌّ ، وَاَلَّذِي يُقَوِّي عِنْدِي قَتْلَ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمِنَّةِ ، وَالْعَفْوِ عَنْ الصَّبِيِّ لِعَفْوِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الذُّنُوبِ .
الثَّالِثَةُ : الرُّهْبَانُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ ؛ بَلْ يُتْرَكُ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَهَذَا إذَا انْفَرَدُوا عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : " وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْكَنَائِسِ قُتِلُوا " .
وَلَوْ تَرَهَّبَتْ الْمَرْأَةُ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُهَاجُ ، وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَا يُغَيِّرُ التَّرَهُّبُ حُكْمَهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي رِوَايَةُ أَشْهَبَ ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ : فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ .
الرَّابِعَةُ : الزَّمْنَى : قَالَ سَحْنُونٌ : يُقْتَلُونَ ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يُقْتَلُونَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ تُعْتَبَرَ أَحْوَالُهُمْ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إذَايَةٌ قُتِلُوا ، وَإِلَّا تُرِكُوا وَمَا هُمْ بِسَبِيلِهِ مِنْ الزَّمَانَةِ ، وَصَارُوا مَالًا عَلَى حَالِهِمْ .
الْخَامِسَةُ : الشُّيُوخُ : قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يُقْتَلُونَ ، وَرَأْيِي قَتْلُهُمْ ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ ، وَيَعْضُدُهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَوُجُودُ الْمَعْنَى فِيهِمْ مِنْ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ ، إلَّا أَنْ يُدْخِلَهُمْ التَّشَيُّخُ وَالْكِبَرُ فِي حَدِّ

الْهَرَمِ وَالْفَنَدِ ، فَتَعُودُ زَمَانَةً ، وَيَلْحَقُونَ بِالصُّورَةِ الرَّابِعَةِ وَهِيَ الزَّمْنَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُلِّ إذَايَةٌ بِالرَّأْيِ ، وَنِكَايَةٌ بِالتَّدْبِيرِ فَيُقْتَلُونَ أَجْمَعُونَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسَةُ : الْعُسَفَاءُ : وَهُمْ الْأُجَرَاءُ وَالْفَلَّاحُونَ ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ حَشْوَةٌ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يُقْتَلُونَ ، وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : " لَا تَقْتُلَنَّ عَسِيفًا " .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي قَتْلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَهُمْ رِدْءٌ لِلْمُقَاتِلِينَ ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ يُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُقَاتِلِ ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا الدَّلِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ قَتْلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى { : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَعْنَى حَيْثُ أَخَذْتُمُوهُمْ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَك فِي أَسْرَى بَدْرٍ : الْقَتْلَ أَوْ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ مِنْهُمْ قَاتِلًا مِثْلَهُمْ .
قَالُوا : الْفِدَاءَ ، وَيُقْتَلُ مِنَّا } .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْكَمٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : وَقَدْ حَضَرْت فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُتْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الرَّيْحَانِيِّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ ، وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعِ الرِّعَاءِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّيْحَانِيُّ : مَنْ السَّيِّدُ ؟ فَقَالَ لَهُ : رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْسِ ، وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمَ الْمُقَدَّسَ ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا : سَلُوهُ ، عَلَى الْعَادَةِ فِي إكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ .
وَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ ، هَلْ يُقْتَلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ ، فَقَالَ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } .
قُرِئَ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ، فَإِنْ قُرِئَ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ ، وَإِنْ قُرِئَ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ فَهُوَ تَنْبِيهٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ .
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ ، فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

وَجَدْتُمُوهُمْ } .
فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيُّ : هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمِهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْت بِهَا عَلَيَّ عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ ، وَالْآيَةَ الَّتِي احْتَجَجْت بِهَا خَاصَّةٌ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ ، فَأَبَهَتْ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ .
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَهْلَ بِلَادِنَا ، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ الْعَامَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ ، وَهَذَا الْبَائِسُ لَيْتَهُ سَكَتَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ ، وَأَمْسَكَ عَمَّا لَا يَفْهَمُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَسَائِلَ مُجَرَّدَةٍ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً ؛ فَإِنْ لَجَأَ إلَيْهَا كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فِيهَا فَيُقْتَلُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { : فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } : هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَاتَلَ قُتِلَ بِكُلِّ حَالٍ ، بِخِلَافِ الْبَاغِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إذَا قَاتَلَ يُقَاتَلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ .
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، { أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ ؟ قَالَ : أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، إنِّي مُسْلِمٌ .
قَالَ : لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } : يَعْنِي كُفْرٌ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ } يَعْنِي الْكُفْرَ ، فَإِذَا كَفَرُوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَعَبَدُوا فِيهِ الْأَصْنَامَ ، وَعَذَّبُوا فِيهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ ؛ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً ؛ لِأَنَّ مَآلَ الِابْتِلَاءِ كَانَ إلَيْهِ ، فَلَا تُنْكِرُوا قَتْلَهُمْ وَقِتَالَهُمْ ؛ فَمَا فَعَلُوا مِنْ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِمَّا عَابُوهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَيْهِمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { : حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ نَصًّا ، وَأَبَانَ فِيهَا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ الْكُفْرُ .
وَقَدْ ضَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا ، وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ هِيَ الْخَرْبَةُ ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَيْهَا الَّتِي بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ كُفْرُهُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِابْتِدَاءِ قِتَالٍ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرُ لَقُتِلَ كُلُّ كَافِرٍ وَأَنْتَ تَتْرُكُ مِنْهُمْ النِّسَاءَ وَالرُّهْبَانَ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَاهُمْ مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ بِهِمْ لِأَجْلِ مَا عَارَضَ الْأَمْرَ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ : أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَالِاسْتِرْقَاقُ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ ؛ فَيَكُونُ مَالًا وَخَدَمًا ، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ .
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الرُّهْبَانِ بَاعِثًا عَلَى تَخَلِّي رِجَالِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فَيُضْعِفُ حَرْبَهُمْ وَيُقِلُّ حِزْبَهُمْ فَيَنْتَشِرُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } : إبَاحَةٌ لِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِيمَانُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ : لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ جِزْيَةٌ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَسَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا عَلِيٍّ الْوَفَاءَ بْنَ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيَّ إمَامَهُمْ بِبَغْدَادَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى { : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
إنَّ قَوْله تَعَالَى { : قَاتِلُوا } أَمْرٌ بِالْقَتْلِ .
وقَوْله تَعَالَى { : الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } سَبَبٌ لِلْقِتَالِ وقَوْله تَعَالَى { : وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلْزَامٌ لِلْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } بَيَانُ أَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كَأُصُولِهَا وَأَحْكَامَهَا كَعَقَائِدِهَا .
وقَوْله تَعَالَى { : وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أَمْرٌ بِخَلْعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَّا دَيْنَ الْإِسْلَامِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ ، ثُمَّ بَيَّنَ الْغَايَةَ وَبَيَّنَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ ، وَثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
{ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قِتَالِهِ لِفَارِسَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبُرَيْدَةَ : اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، وَذَكَرَ الْجِزْيَةَ } ، وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَكُونُ هَذَا نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا ؟

فَلَنَا : هُوَ تَخْصِيصٌ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ قِتَالَهُمْ وَأَمَرَ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : [ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } ] ؛ فَخَصَّصَ مِنْ الْحَالَةِ الْعَامَّةِ حَالَةً أُخْرَى خَاصَّةً ، وَزَادَ إلَى الْغَايَةِ الْأُولَى غَايَةً أُخْرَى ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ آخَرَ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا وَكَمَالًا .
وَكَذَلِكَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } ، ثُمَّ بَيَّنَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ سَنُبَيِّنُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سَبْعٍ حِينَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ الَّتِي صَدَّهُ عَنْهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَنَةَ سِتٍّ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ، وَقَدْ أَخْلَتْهَا قُرَيْشٌ ، وَقَضَى نُسُكَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .

الْمَعْنَى : شَهْرٌ بِشَهْرٍ وَحُرْمَةٌ بِحُرْمَةٍ ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ قَطَعَ بِهِ عُذْرٌ أَوْ عَدُوٌّ عَنْ عِبَادَةٍ ثُمَّ قَضَاهَا أَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ وَالْمَثُوبَةَ سَوَاءٌ .
وَقِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ الْقِتَالِ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَرَادُوا قِتَالَهُ فِيهِ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الْمَعْنَى إنْ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ بِالْحُرْمَةِ قِصَاصٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تُبِيحَ دَمَ مَنْ أَبَاحَ دَمَك ، وَتَحِلَّ مَالُ مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَك ، وَمَنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ بِمِقْدَارِ مَا قَالَ فِيك ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ : أَمَّا مَنْ أَبَاحَ دَمَك فَمُبَاحٌ دَمُهُ لَك ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا بِاسْتِطَالَتِك وَأَخْذٍ لِثَأْرِك بِيَدِك ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مَالَك فَخُذْ مَالَهُ إذَا تَمَكَّنْت مِنْهُ ، إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِك : طَعَامًا بِطَعَامٍ ، وَذَهَبًا بِذَهَبٍ ، وَقَدْ أَمِنْت مِنْ أَنْ تُعَدَّ سَارِقًا .
وَأَمَّا إنْ تَمَكَّنْت مِنْ مَالِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَالِك فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَحَرَّى قِيمَتَهُ وَيَأْخُذُ مِقْدَارَ ذَلِكَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَأَمَّا إنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ لَا تَتَعَدَّاهُ إلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ .
لَكِنْ لَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَذَبَ عَلَيْك ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَابَلُ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ فَلَوْ قَالَ لَك مَثَلًا : يَا كَافِرُ ، جَازَ لَك أَنْ تَقُولَ لَهُ : أَنْتَ الْكَافِرُ ؛ وَإِنْ قَالَ لَك : يَا زَانٍ ، فَقِصَاصُك أَنْ تَقُولَ : يَا كَذَّابُ ، يَا شَاهِدَ زُورٍ .
وَلَوْ قُلْت لَهُ : يَا زَانٍ ، كُنْت كَاذِبًا فَأَثِمْت فِي الْكَذِبِ ، وَأَخَذْت فِيمَا نُسِبَ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ تَرْبَحْ شَيْئًا ، وَرُبَّمَا خَسِرْت .
وَإِنْ مَطَلَك وَهُوَ غَنِيٌّ دُونَ عُذْرٍ قُلْ : يَا ظَالِمُ ، يَا آكِلَ أَمْوَالِ النَّاسِ .

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } .
أَمَّا عِرْضُهُ فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ ، وَأَمَّا عُقُوبَتُهُ فَبِالسَّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ .
وَعِنْدِي أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ أَخْذُ الْمَالِ كَمَا أَخَذَ مَالَهُ ، وَأَمَّا إنْ جَحَدَك وَدِيعَةً وَقَدْ اسْتَوْدَعَك أُخْرَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اصْبِرْ عَلَى ظُلْمِهِ ، وَأَدِّ إلَيْهِ أَمَانَتَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اجْحَدْهُ ، كَمَا جَحَدَك ؛ لَكِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، وَلَوْ صَحَّ فَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ ، وَهُوَ إذَا أَوْدَعَك مِائَةً وَأَوْدَعْته خَمْسِينَ فَجَحَدَ الْخَمْسِينَ فَاجْحَدْهُ خَمْسِينَ مِثْلَهَا ، فَإِنْ جَحَدْت الْمِائَةَ كُنْت قَدْ خُنْت مَنْ خَانَك فِيمَا لَمْ يَخُنْك فِيهِ ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ أَقُولُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } : هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعُمْدَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَفِيمَا جَانَسَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بِكْرٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الثَّانِي اعْتِدَاءً ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِحَقٍّ ، حَمْلًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ .
قَالُوا : وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } .
وَاَلَّذِي أَقُولُ فِيهِ : إنَّ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ فَالْأَوَّلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ بِهِ ، وَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَقْلِبُ الْمَعَانِيَ ؛ بَلْ إنَّهُ يُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَصْفَ الطَّاعَةِ وَالْحُسْنِ ، وَيُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَصْفَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُبْحِ ؛ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ يَسُوءُ الْوَاقِعُ بِهِ : وَأَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ وَلَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ ، إلَّا الْخَمْرَ وَآلَةَ اللِّوَاطِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقْتَلُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ إلَّا فِي وَجْهَيْنِ وَصِفَتَيْنِ : أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَالْمَعْصِيَةُ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَالسُّمُّ وَالنَّارُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّهُ مِنْ الْمِثْلِ ؛ وَلَسْت أَقُولُهُ ؛ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْعَذَابِ .
وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } ، وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارَيْنِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِهِ .
وَأَمَّا الْوَصْفَانِ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ : إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ بِالْحَجَرِ مُجْهِزَةً قُتِلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرَبَاتٍ فَلَا ، وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُضْرَبُ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ ، وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ رُجِيَ أَنْ يَمُوتَ بِالضَّرْبِ ضُرِبَ ، وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : لَا يُقْتَلُ بِالنَّبْلِ وَلَا بِالرَّمْيِ

بِالْحِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيبِ .
وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَفَقَأَ عَيْنَهُ قَصْدَ التَّعْذِيبَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ الرِّعَاءَ حَسْبَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ وَمُضَارَبَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ ، إلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ فَلْتُتْرَكْ إلَى السَّيْفِ ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَهُوَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ ، { عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا قَتَلَ أَخِي .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَتَلْته ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَأَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ .
قَالَ : نَعَمْ ، قَتَلْته .
قَالَ : كَيْفَ قَتَلْته ؟ قَالَ : كُنْت أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْته .
} وَرَوَى أَبُو دَاوُد : { وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِك ؟ فَقَالَ : مَا لِي مَالٌ إلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي .
قَالَ : فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك ؟ قَالَ : أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ هَذَا .
قَالَ : فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ ، وَقَالَ : دُونَكَ صَاحِبَكَ ، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ ؛ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ ، فَقَالَ :

يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت كَذَا وَأَخَذْته بِأَمْرِك قَالَ : أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك وَإِثْمِ صَاحِبِك ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ .
قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّ ذَاكَ كَذَلِكَ .
قَالَ : فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ } .
وَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ ، وَقَدْ قَتَلَ بِالْفَأْسِ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ فَرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } اعْتِمَادًا لِلْمُمَاثَلَةِ وَحُكْمًا بِهَا .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ : كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، فَحَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ، يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ : يَأَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا ، وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ ؛ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيْ هَلُمَّ } .
الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا .
وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ ، وَالثَّانِي : قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ ، وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ : فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ .
الثَّانِي : لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
الثَّالِثُ : لَا تَتْرُكُوا الْجِهَادَ .
الرَّابِعُ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَا .
الْخَامِسُ : لَا تَيْأَسُوا مِنْ الْمَغْفِرَةِ ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ، وَقَدْ أَصَابَ إلَّا فِي اقْتِحَامِ الْعَسَاكِرِ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا : لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنْ التَّهْلُكَةِ .
وَقِيلَ : إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتْ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : طَلَبُ الشَّهَادَةِ .
الثَّانِي : وُجُودُ النِّكَايَةِ .
الثَّالِثُ : تَجْرِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ : ضَعْفُ نُفُوسِهِمْ لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ ، فَمَا ظَنَّك بِالْجَمِيعِ ، وَالْفَرْضُ لِقَاءُ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَحْسِنُوا } .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الثَّانِي : فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ : أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ .
قَالَ الْقَاضِي : الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحُسْنِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ .
وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ ؛ وَإِنَّمَا الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ : { مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا } : فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَسُفْيَانُ .
الثَّانِي : أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ [ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ] .
الثَّالِثُ : بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
الْخَامِسُ : أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّادِسُ : إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا ؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ .
السَّابِعُ : أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ ، وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : أَحْرِمْ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك ، فَإِنَّهَا مَشَقَّةٌ رَفَعَهَا الشَّرْعُ وَهَدَمَتْهَا السُّنَّةُ بِمَا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَوَاقِيتِ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْبَيْتِ ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ ، وَلَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَحِيحٌ .
وَأَمَّا أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَالسُّنَّةُ

الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ التَّمَتُّعُ .
وَأَمَّا إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِمَا حَتَّى بَالَغُوا فَقَالُوا : يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُمَا ، وَإِنْ أَفْسَدَهُمَا .
وَأَمَّا أَلَّا يَتَّجِرَ فِيهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَرَاءِ أَلَّا تَمْتَزِجَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ، وَهُوَ أَخْلَصُ فِي النِّيَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ ؛ وَالْكُلُّ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَجُّ : وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَبِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ ، لَكِنَّهَا غَيَّرَتْهُ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَتَهُ ، وَأَعَادَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صِفَتَهُ ، وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ ، فَقَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْعُمْرَةُ : وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَارَةِ ، وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ ، خَصَّصَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ ، وَقَصَرَتْهُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مُطْلَقِهِ ، عَلَى عَادَتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا عَلَى سِيرَةِ الْعَرَبِ فِي لُغَاتِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وُجُوبُ الْعُمْرَةِ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ ، وَيُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : هِيَ تَطَوُّعٌ ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَرَنَهَا بِالْحَجِّ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
وَابْتَدَأَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَلَمَّا ذَكَرَ الْعُمْرَةَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا لَا بِابْتِدَائِهَا ، فَلَوْ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ أَوْ اعْتَمَرَ عَشْرَ عُمَرَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فِي جَمِيعِهَا ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِإِلْزَامِ الْإِتْمَامِ لَا لِإِلْزَامِ الِابْتِدَاءِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلَّهِ } : الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ " وَالْعُمْرَةُ " بِالرَّفْعِ لِلْهَاءِ ، وَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَّ مِنْ فَرْضِ الْعُمْرَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِرَاءَةَ يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ ، وَلَا يُقْرَأُ بِحُكْمِ الْمَذْهَبِ .
الثَّانِي : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّصْبَ لَا يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْفَرْضِ ، فَلَا مَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ : يُقْرَأُ بِكُلِّ لُغَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } : هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ عُضْلَةٌ مِنْ الْعُضْلِ ، فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مُنِعْتُمْ بِأَيِّ عُذْرٍ كَانَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : [ مُنِعْتُمْ ] بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا ، وَرَأْيُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُحَصِّلِيهَا عَلَى أَنَّ أُحْصِرَ عُرِّضَ لِلْمَرَضِ ، وَحُصِرَ نَزَلَ بِهِ الْحَصْرُ .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَكَّةَ ، وَمَا كَانُوا حَبَسُوهُ وَلَكِنْ حَبَسُوا الْبَيْتَ وَمَنَعُوهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ فَقَالَ : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } .
وَقَدْ تَأْتِي أَفْعَالٌ يَكُونُ فِيهَا فَعَلَ وَأَفْعَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، وَمَعْنَاهَا : فَإِنْ مُنِعْتُمْ .
وَيُقَالُ : مُنِعَ الرَّجُلُ عَنْ كَذَا ؟ فَإِنَّ الْمَنْعَ مُضَافٌ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْمَمْنُوعِ عَنْهُ .
وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ عِنْدَنَا الْعَجْزُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْفِعْلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَمْنُوعِ بِعُذْرٍ ، وَأَنَّ لَفْظَهَا فِي كُلِّ مَمْنُوعٍ ، وَمَعْنَاهَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَحْقِيقِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } وَظَاهِرُهُ قَوْلُهُ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَبِهَذَا قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ ؛ وَإِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى ذِي التَّفْرِيطِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَعْنَى .
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ .
وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ ؛ فَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَارِي تَعَالَى الْهَدْيَ وَاجِبًا مَعَ التَّفْرِيطِ وَمَعَ عَدَمِهِ عِبَادَةً مِنْهُ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا .
وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ ، وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْهَدْيُ مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ وَيُهْدِي .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَعْنَى لِلْآيَةِ إلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ ، أَوْ الْحَصْرَ مُطْلَقًا ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ الْجَوَابُ إلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ ، أَمَّا أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى بَعْضِهِ كَانَ جَائِزًا لِدَلِيلٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { خَرَجْنَا مُعْتَمِرِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَةً وَحَلَقَ رَأْسَهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا ؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ .
قَالَ : انْحَرْ وَلَا حَرَجَ } .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : الْحِلَاقُ نُسُكٌ مَقْصُودٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ إلْقَاءُ تَفَثٍ ، وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ وَرَتَّبَهُ عَلَى نُسُكٍ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحِ مَمْدُوحٌ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَأْكِيدِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } وَتَتْمِيمُهُ : وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُحْصِرْتُمْ } مُنِعْتُمْ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِعَدُوٍّ فَفِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ ، وَيَنْحَرُ هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُ ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ هَدْيًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِمَرَضٍ لَمْ يَحِلَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا إلَّا الْبَيْتُ ، فَخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، حَيْثُ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا أَخْذًا بِمُطْلَقِ الْمَنْعِ .
وَزَادَ أَصْحَابُهُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ : حَصَرَهُ الْعَدُوُّ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالْكِسَائِيُّ .
قُلْنَا : قَالَ غَيْرُهُمَا عَكْسَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَحَقِيقَتُهُ هَاهُنَا مَنْعُ الْعَدُوِّ ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَهُمْ ، وَلَمْ يَحْبِسْهُمْ ، وَالْمَنْعُ كَانَ مُضَافًا إلَى الْبَيْتِ ، فَلِذَلِكَ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَهَذَا الْمَرِيضُ الْمَنْعُ مُضَافٌ إلَيْهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ الْحِلِّ .
وَلِلْقَوْمِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ ، وَآثَارٌ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُهَا مُعَنْعَنٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْإِحْصَارَ عَامٌّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : لَا إحْصَارَ فِي الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ .
قُلْنَا : وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، لَكِنْ فِي الصَّبْرِ إلَى زَوَالِ الْعَدُوِّ ضَرَرٌ ؛ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ ، وَبِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ فَلَا مَعْدَلَ عَنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا مَنَعَهُ الْعَدُوُّ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ خَاصَّةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً .
وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعَامِ الْآخَرِ .
قُلْنَا : إنَّمَا قَضَاهَا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ إرْغَامًا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَإِتْمَامًا لِلرُّؤْيَا ، وَتَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءُ عُمْرَةٍ أُخْرَى ؛ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، مِنْ الْمُقَاضَاةِ لَا مِنْ الْقَضَاءِ .
الثَّانِي : الْمَعْنَى قَالُوا : تَحَلَّلَ مِنْ نُسُكِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَضَائِهِ كَالْفَائِتِ وَالْمُفْسَدِ .
قُلْنَا : الْفَاسِدُ هُوَ فِيهِ مَلُومٌ ، وَالْفَائِتُ هُوَ فِيهِ مَنْسُوبٌ إلَى التَّقْصِيرِ ؛ وَهَذَا مَغْلُوبٌ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي اتِّبَاعِ الْمَعْنَى مَعَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَاصِرُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا ؛ فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ ، وَلَوْ وَثِقَ بِالظُّهُورِ ؛ وَيَتَحَلَّلُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَوْ سَأَلَ الْكَافِرُ جُعْلًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَهْنٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِرُ مُسْلِمًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ بِحَالٍ ، وَوَجَبَ التَّحَلُّلُ ، فَإِنْ طَلَبَ شَيْئًا وَيَتَخَلَّى عَنْ الطَّرِيقِ جَازَ دَفْعُهُ ، وَلَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمُهَجِ ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّ الدِّينَ أَسْمَحُ .
وَأَمَّا بَذْلُ الْجُعْلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَهْوَنِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا يُنْفَقُ فِيهِ الْمَالُ ، فَيُعَدُّ هَذَا مِنْ النَّفَقَةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا حَلَّ الْمُحْصَرُ نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ حَلَّ ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ تَابِعٌ لِلْمُهْدِي ، وَالْمُهْدِي حَلَّ بِمَوْضِعِهِ ، فَالْهَدْيُ أَيْضًا يَحِلُّ مَعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَمَحِلُّهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } .
قُلْنَا : كَذَلِكَ كَانَ صَاحِبُ الْهَدْيِ ، وَهُوَ الْمُهْدِي مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَنْسَكَهُ ، وَلَكِنْ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ ، كَذَلِكَ هَدْيُهُ يَجِبُ أَنْ يَحِلَّ مَعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ صَاحِبَ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ أَنْحَرْهُ فِي الْحَرَمِ .
قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : أُخْرِجُهُ فِي أَوْدِيَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ؛ فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ } .
قُلْنَا هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ فَصَدَّهُ الْعَدُوُّ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ أَوْ لَا يَعْلَمَ ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَيْتِ فَإِحْرَامُهُ مُلْزِمٌ لَهُ أَلَّا يَحِلَّ إلَّا بِالْبَيْتِ أَبَدًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَلَّ بِمَنْعِهِمْ لَهُ ، فَإِنْ شَكَّ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ : إنَّهُ كَائِنٌ هَذَا الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ ، فَقَالَ : إنْ صُدِدْنَا عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَحَلَّ حِينَ مُنِعَ ، وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الشَّكِّ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّرِيقِ خَاصَّةً فَلْيَأْخُذْ فِي أُخْرَى إنْ كَانَتْ آمِنَةً ، وَكَانَ الْمَنْعُ مُتَطَاوِلًا ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا صَبَرَ حَتَّى يَنْجَلِيَ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ فَاتَ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : يَحِلُّ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ فِي الْمَنَاسِكِ ، وَأَمَّا الْيَائِسُ فَيَحِلُّ إذَا تَحَقَّقَ يَأْسُهُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ وَيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ، وَلَوْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ وَمُكِّنَ مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ فِي مَشْهُورِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقِيلَ : الْحَجُّ بَاطِلٌ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ الْحَجُّ مَضْمُونًا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ التَّطَوُّعُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ وَمَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَسُفْيَانُ : لَا يَنْحَرُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } بِكَسْرِ الْحَاءِ ، وَهُوَ وَقْتُ الْحِلِّ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ وَقْتَهُ وَقْتُ حَلِّ الْمُهْدِي ، وَقَدْ حَلَّ بِالْيَأْسِ عَنْ الْبُلُوغِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَإِذَا سَقَطَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَسُقُوطُ الِاسْتِقْرَاءِ أَوْلَى .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : { مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي فَقَالَ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّك ؟ قُلْت : نَعَمْ .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ } ، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ .
فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا وَاحْتَاجَ إلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَعَلَهُ وَافْتَدَى ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ : { أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ اهْدِ شَاةً ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } ، وَفِي الْحَدِيثِ خِلَافٌ وَكَلَامٌ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ : هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ .
قَالُوا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصِّيَامَ هَاهُنَا مُطْلَقًا ، وَقَيَّدَهُ فِي التَّمَتُّعِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي نَازِلَةٍ وَاحِدَةٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَهَاتَانِ نَازِلَتَانِ .
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَدْرَ الصِّيَامِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُجْزِئُ [ الطَّعَامِ ] فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَقِيلَ : لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِمَكَّةَ إلَّا الْهَدْيُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الطَّعَامُ كَالْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْهَدْيِ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَالطَّعَامُ الَّذِي هُوَ عِوَضُهُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَيَأْتِي بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِلَفْظِ النُّسُكِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْبَحَ حَيْثُ شَاءَ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ النُّسُكِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَثَرِ : { مَنْ وُلِدَ لَهُ فَأَحَبَّ أَنْ يُنْسَكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ } .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَوْ اُنْسُكْ بِشَاةٍ } ، فَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ هَاهُنَا وَهُوَ الْهَدْيُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا النُّسُكَ هَدْيًا جَعَلَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نُسُكًا ، وَالنُّسُكُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَدْيًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } : قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ احْتَجَّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَا نَقُولُ هَكَذَا ، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ مَرَضٍ ، وَهُوَ أَمْنٌ ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ ، وَهُوَ عَامٌّ ، كَمَا جَاءَ بِلَفْظِ " أُحْصِرَ " وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ ؛ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } : الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ ؛ فَإِنْ كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ ، وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ ؛ فَإِذَا أَمِنْتُمْ أَيْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ فَحَجَجْتُمْ ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
وَالتَّمَتُّعُ يَكُونُ بِشُرُوطٍ ثَمَانِيَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ .
الثَّانِي : فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ .
الثَّالِثُ : فِي عَامٍ وَاحِدٍ .
الرَّابِعُ : فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
الْخَامِسُ : تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ .
السَّادِسُ : أَلَّا يَجْمَعَهُمَا ؛ بَلْ يَكُونُ إحْرَامُ الْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ .
السَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ .
الثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ .
وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا هُوَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْهَا مُسْتَنْبَطٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ } يَعْنِي : مَنْ انْتَفَعَ بِضَمِّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَرَّتَيْنِ بِقَصْدَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، فَإِذَا انْتَفَعَ بِاتِّحَادِهِمَا ، وَذَلِكَ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا انْتِفَاعٌ إلَّا قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَإِنَّهُ نَصٌّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ بَدَنَةٌ ، مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعُرْوَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ شَاةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ شَاةٌ أَوْ بَدَنَةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ بَدَنَةٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْإِبِلِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : كَمْ هَدْيُ فُلَانٍ ، أَيْ إبِلُهُ .
وَيُقَالُ فِي وَصْفِ السَّنَةِ : هَلَكَ الْهَدْيُ وَجَفَّ الْوَادِي .
فَيُقَالُ لَهُ : إنْ كُنْت تَجْعَلُ أَيْسَرَ الْهَدْيِ بَدَنَةً وَأَكْثَرَهُ مَا زَادَ مِنْ الْعَدَدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ فَيَلْزَمُك أَلَّا يَجُوزَ هَدْيٌ بِشَاةٍ .
وَقَدْ أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَمَ ، وَأَهْدَى أَصْحَابُهُ ، وَلَوْ كَانَ أَيْسَرُهُ بَدَنَةً مَا جَازَتْ شَاةٌ .
وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا سَمَّتْ الْإِبِلَ هَدْيًا ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَكُونُ مِنْهَا فِي الْأَغْلَبِ أَوْ لِأَنَّهَا أَعْلَاهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ أَيْسَرَ الْهَدْيِ شِرْكٌ فِي دَمٍ ، فَاحْتَجَّ { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } .
رَوَاهُ جَابِرٌ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ } ، وَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } : يَعْنِي انْتَفَعَ ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُتْعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : مَا كَانَ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : مَا كَانَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إحْرَامٍ أَوْ سَفَرٍ وَاحِدٍ .
فَأَمَّا فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، وَيَقُولُونَ : إذَا بَرَأَ الدَّبَرُ ، وَعَفَا الْأَثَرُ ، وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ .
{ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ؛ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ } .
وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ خِلَافٍ يَسِيرٍ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ زَالَ .
وَأَمَّا مُتْعَةُ الْقِرَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَيْهَا فِي حَجِّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ السُّنَّةُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مُفْرِدًا ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهِ وَلَا انْتِفَاعَ بِإِسْقَاطِ عَمَلٍ وَلَا سَفَرٍ .
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : أَنَّ عَلِيًّا شَاهَدَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا ، وَقَالَ : مَا كُنْت أَدَعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ .
وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
وَمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ ، أَيْ أَمَرَ بِفِعْلِهِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ شَرْحِ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَحْمَدُ : إنَّهَا الْأَفْضَلُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً } .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَشْفَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْأَرْفَقِ لَا عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى ، وَالْأَرْفَقِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً شَقَّ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُمْ لَهُ فِي الْفِعْلِ ، فَقَالَ { : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي ، وَقَلَّدْت هَدْيِي ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ } ؛ مُعْتَذِرًا إلَيْهِمْ مُبَيِّنًا عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ ، لَمَّا رَأَى مَنْ شَفَقَتِهِمْ وَلِمَا رَجَاهُ مِنْ امْتِثَالِهِمْ وَاقْتِدَائِهِمْ ، وَسَلِّ سَخِيمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنْ أَهْوَائِهِمْ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ } .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إضَافَةُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَلَا يَصْلُحُ هَذَا اللَّفْظُ لِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا فِي الْآيَةِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَالْآيَةُ بَعْدُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقِرَانِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إمَّا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَصَدَّهُمْ الْعَدُوُّ فَحَلُّوا ؛ وَذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الَّتِي مَنْ اعْتَمَرَ فِيهَا ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الشُّرُوطِ ؛ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُ .
وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنْتُمْ

قَدْ اعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَلَوْ حَجَجْتُمْ فِي هَذَا الْعَامِ لَكُنْتُمْ مُتَمَتِّعِينَ ، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ صُدِدْتُمْ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَكُمْ مَعَ حِلِّكُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْبَيْتِ عُمْرَةٌ صَحِيحَةٌ كَامِلَةٌ تَكُونُ إضَافَةُ الْحَجِّ إلَيْهَا مُتْعَةً .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَلْزَمُ الْمَكِّيَّ دَمُ مُتْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّهْ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَلَدُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَمَتَّعُ وَلَا يَقْرِنُ مَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } : الْمَعْنَى : أَنَّ جَمْعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّمَ لَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
[ وَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَشْرُوعٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ] .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْهَدْيُ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ حِينَئِذٍ يَتِمُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ وَصْفُ التَّمَتُّعِ ، وَمَا لَمْ يُتِمَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَخْلُصُ بِهِ أَوْ يَقْطَعُ دُونَهُ قَاطِعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِضَمِّ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَوَّلُ الْحَجِّ كَآخِرِهِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فَسَادَهَا ، وَلَوْ ذَبَحَهُ قَبْلَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِيهِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } .
وَلَوْ كَانَ ذَبْحُ الْهَدْيِ جَائِزًا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَذَبَحَهُ وَجَعَلَهَا حِينَئِذٍ عُمْرَةً .
وَقَالَ : { إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَذَلِكَ بِأَنْ يَصُومَ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ ، هَذِهِ حَقِيقَتُهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُهُ فِي إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ إحْرَامَيْ الْمُتَمَتِّعِ ، فَجَازَ صَوْمُ الْأَيَّامِ فِيهِ كَإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ .
وَدَلِيلُنَا { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } فَإِذَا صَامَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : إذَا ثَبَتَ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَصُومُهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا ، فَذَلِكَ اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ .
وَلَا يَخْلُو الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ أَوْ لَا يَجِدَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَعَلِمَ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ إلَى آخِرِ الْحَجِّ صَامَ مِنْ أَوَّلِهِ ؛ وَإِنْ رَجَاهُ آخِرَهُ إلَى مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ عَرَفَةَ فَيَصُومُهُ حِينَئِذٍ لِتَقَعَ الْأَيَّامُ مُصَوَّمَةً فِي الْحَجِّ ، وَيَخْلُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ الصَّوْمِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عِنْدِي عَلَى أَصْلٍ ؛ وَهُوَ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي الْحَجِّ } فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيَّامَ الْحَجِّ ، وَيَحْتَمِلُ مَوْضِعَ الْحَجِّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ فَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَيَّامِ الْحَجِّ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ أَيَّامِ الْحَجِّ أَيَّامَ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ خَالِصًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْكَانِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعَ الْحَجِّ صَامَهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ ، وَيَقْوَى جِدًّا ، وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ : " كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ، وَكَانَ أَبِي يَصُومُهَا " ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَا : " لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ

إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ " .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ إقَامَتِهِ إلَّا بِمِقْدَارِهَا ؛ يُؤَكِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ لَقَالَ : إذَا أَحْلَلْتُمْ أَوْ فَرَغْتُمْ ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } أَيْ : عَنْ مَوْضِعِ الْحَجِّ بِإِتْمَامِ أَفْعَالِهِ .
وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ الْهَدْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ أَيَّامَ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
قُلْنَا : إنْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَامًّا فَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ بِالتَّخْصِيصِ لِلْمُتَمَتِّعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } : يَعْنِي إلَى بِلَادِكُمْ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ : إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى .
قَالَ الْقَاضِي : وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } إنْ كَانَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الرُّخَصِ وَتَرْكُ الرِّفْقِ فِيهَا إلَى الْعَزِيمَةِ إجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوْقِيتًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْبِلَادَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي الْأَغْلَبِ وَالْأَظْهَرِ فِيهِ أَنَّهُ الْحَجُّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَهْلُ الْحَرَمِ .
الثَّانِي : مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا كَذِي طُوًى .
الثَّالِثُ : أَهْلُ عَرَفَةَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
الرَّابِعُ : مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الْخَامِسُ : مَنْ هُوَ فِي مَسَافَةِ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَلِكُلٍّ وَجْهٌ سَرَدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَعْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : شَوَّالٌ ، وَذُو الْقِعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَتَادَةُ ، وَطَاوُسٌ ، وَمَالِكٌ .
الثَّانِي : وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ : وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ .
الرَّابِعُ : إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا .
فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالتَّعْدِيدُ لِلثَّلَاثَةِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ : إنَّ الطَّوَافَ وَالرَّمْيَ فِي الْعَقَبَةِ رُكْنَانِ يُفْعَلَانِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ .
وَمَنْ قَالَ : عَشْرُ لَيَالٍ قَالَ : إنَّ الْحَجَّ يَكْمُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ .
وَمَنْ قَالَ : آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَأَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ ، وَبَعْضُ الشَّهْرِ يُسَمَّى شَهْرًا لُغَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ مَنْ جَعَلَهُ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا وَتَنْصِيصِهِ عَلَيْهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا كَذَلِكَ فِي مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ إلَى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ ،

فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُغَيِّرُهَا فَتُنْسِئُهَا وَتُقَدِّمُهَا حَتَّى عَادَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى حَدِّهَا .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ الْمُنْتَقَى { : إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } الْحَدِيثَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّمَتُّعَ ، وَهُوَ ضَمُّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَيْسَتْ جَمِيعَ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
أَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ الْحَجُّ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِهَا بِذَلِكَ ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَجَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَصَحِيحُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْعَامِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمَخْصُوصَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسِوَاهُ : تَقْدِيرُهَا الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَرَى أَحَدٌ الْإِحْرَامَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَا .
[ وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ] ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لُغَةً فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَعَيَّنَّاهُ فِقْهًا [ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ ] .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } : الْمَعْنَى الْتَزَمَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا ، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا ، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا ؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ نُطْقٍ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا ، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ مُعْضِلَةٌ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْبَيَانَ فِيهَا ، وَأَوْضَحْنَا لُبَابَهُ فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ ، وَأَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا دَائِرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ الْحَجِّ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِهِ ، وَمُعَوَّلُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَهُنَاكَ تَبَيَّنَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ ، وَظَهَرَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } : الرَّفَثُ : كُلُّ قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ ؛ يُقَالُ : رَفَثَ يَرْفُثُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا .
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا إذَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ ، وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مُفْرِدًا عَنْهُنَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ مُنِعَ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّكَاحِ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَكَيْفَ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْقَوْلِ يُذْكَرُ كُلُّهُ ، وَهَذِهِ بَدِيعَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } : أَرَادَ نَفْيَهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا ، فَإِنَّا نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ .
وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
مَعْنَاهُ شَرْعًا لَا حِسًّا ، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ ، فَعَادَ النَّفْيُ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، لَا إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } إذَا قُلْنَا : إنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ ؛ فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا : إنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَيَتَضَادَّانِ وَصْفًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ أَفْسَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَمْ تُفْسِدْهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى الْجِمَاعِ ، كَمَا حَرَّمَ الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ } ، وَلَوْ وُجِدَ الطِّيبُ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ ، فَكَذَلِكَ بِالْمُبَاشَرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا فُسُوقَ } : فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ ؛ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثٌ : الْأَوَّلُ : جَمِيعُ الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الصَّيْدِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو عَنْ ذَبْحٍ ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا ، فَشَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوَجْهِهِ نُسُكًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ جَمِيعُهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَقَالَ : { الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ } .
فَقَالَ الْفُقَهَاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ، هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهُ بَعْدَهُ .
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ { : مَنْ حَجّ ثُمَّ لَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ } بِقَوْلِهِ : ثُمَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } : أَرَادَ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَعَادَ بِذَلِكَ إلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ .
وَقِيلَ : لَا جِدَالَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَانَ مِنْ الْحُمْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِدَالَ فِي الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْخَلْقِ ، فَلَا يَكُونُ إلَى الْقِيَامَةِ ؛ وَلِهَذَا قَرَأَهُ الْعَامَّةُ وَحْدَهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى التَّبْرِئَةِ دُونَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَةٍ تَنْفُقُ فِي الطَّرِيقِ ، أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَادٍ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ؛ وَالتَّوَكُّلُ لَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا يَخْرُجُ مَنْ قَامَ بِهَا بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ .
[ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ] فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِمَنْ الضَّالِّينَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي : فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ ، خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ أَنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ أَجْرًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } : الْإِفَاضَةُ : السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ } .
وَرُوِيَ { عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِبْضَاعِ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ عَرَفَاتٍ } : مَوْضِعٌ مَعْلُومُ الْحُدُودِ ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ .
رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ } .
وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت : جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي ، وَأَتْعَبْت نَفْسِي ، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا إخْرَاجُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ ، وَسَتَرَوْنَهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ ، وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ .
وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ ، فَقَالَ : هَذَا قُزَحُ ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ ، وَجَمْعٌ ، كُلُّهَا مَوْقِفٌ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ قُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ ، فَرُحِلَتْ لَهُ ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ .
الْحَدِيثَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ

وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ { وَقْتَ الْإِفَاضَةِ ، وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَلِيلًا ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ ، وَغَابَ الْقُرْصُ } .
خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ ؛ فَكَانَ بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ : الْفَرْضُ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : الْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ : لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } : رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ دَفَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى فِيهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ قَوْمٌ : قَوْله تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } : إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ بِهِ دُونَ أَنْ تُفْعَلَ فِي الطَّرِيقِ ؛ فَإِنْ الْوَقْتُ أَخَذَهُ بِعَرَفَةَ وَتَمَادَى عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي الطَّرِيقِ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ ، وَكَذَلِكَ { قَالَ أُسَامَةُ : الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّلَاةُ أَمَامَك حَتَّى نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِيهَا } ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ صَلَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ أَمَامَك } ، فَجَعَلَهُ لَهَا حَدًّا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } ؛ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ الذِّكْرِ .
الثَّانِي : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِعُرْوَةِ بْنِ مُضَرِّسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إجْزَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ كُلُّهُ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفُ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ } .
رَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا ، وَأَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } .

قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا .
.
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ مُخَالَفَةً لِقُرَيْشٍ ؛ قَالَهُ الْجَمَاعَةُ .
الثَّانِي : الْمُرَادُ بِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى مِنًى ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَالْإِفَاضَةُ الَّتِي بَعْدَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هِيَ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةً : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ، التَّقْدِيرُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ .
وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّانِي : أَنْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ : ثُمَّ ذَكَرْنَا لَكُمْ أَفِيضُوا مِنْ

حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فَيَرْجِعُ التَّعْقِيبُ إلَى ذِكْرِ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا إلَى نَفْسِ وُجُودِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } .
الْمَعْنَى : ثُمَّ أَخْبَرْنَاكُمْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ؛ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ فِي الْإِخْبَارِ لَا فِي الْإِيتَاءِ .
الرَّابِعُ : وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ : يَا مَعْشَرَ مَنْ حَلَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ .
وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِطَابَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِيَعُمَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمَنْ لَمْ يَقِفْ حَتَّى يَمْتَثِلَهُ مَعَ مَنْ وَقَفَ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ ، وَخُصُوصًا فِي رِسَالَةِ نُزُولِ الْوَافِدِ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِهَا ، وَهِيَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الذَّبْحُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا شَعَائِرُ الْحَجِّ .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا الرَّمْي أَوْ جَمِيعُ مَعَانِي الْحَجِّ ، { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
وَالْمَعْنَى بِالْآيَةِ كُلِّهَا : إذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى : كَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ ، وَالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّكْبِيرُ .
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَاعْلَمُوا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِالْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينِهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ مَعْلُومَاتٌ ؛ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ؛ وَاَلَّذِي أَصَارَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرَّمْيِ فِيهَا .
وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ .
أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ أَفِيضُوا يَعْنِي : إلَى مِنًى عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوَّلُهُ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَآخِرُهُ لِمِنًى ،

فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِمِنًى لَمْ يُعَدَّ فِيهَا ، وَصَارَتْ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةً سِوَى يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدً الْإِطْلَاقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ قَالَ حِينَئِذٍ عُلَمَاؤُنَا : الْيَوْمُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْدُودٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَلَا مِنْ الَّتِي عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ } ، وَكَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ ؛ فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ مُرَادٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَعْلُومَاتٍ } ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْحَرُ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ ؛ فَصَارَ مَعْدُودًا فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الرَّمْيِ ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ النَّحْرِ فِيهِ .
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ بِالذَّبْحِ ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَكُونُ كَمَا قُلْتُمْ يَوْمُ النَّحْرِ مُرَادًا فِي الْمَعْدُودَاتِ وَتَكُونُ الْمَعْدُودَاتُ أَرْبَعَةً وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةً ؟ وَكَمَا يُعْطِي ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةً كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَرْبَعَةً .
فَالْجَوَابُ : أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى بِمَعْدُودٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ مَعْلُومٌ ، وَكُلَّ مَعْلُومٍ مَعْدُودٌ ، لَكِنْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْمَعْدُودَاتِ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا قَدْ

اسْتَحَقَّ أَوَّلُهُ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَمِنْهُ تَكُونُ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى ؛ فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ ، وَبَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مَعْدُودًا مِنْهَا لَاقْتَضَى مُطْلَقُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ نَفَرَ فِي يَوْمِ ثَانِي النَّحْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ فِيهَا لَا قُرْآنًا وَلَا سُنَّةً ، وَهَذَا مُنْتَهَى بَدِيعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ ؛ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذِّكْرِ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْحَاجُّ ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْحَاجِّ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ أَيْضًا خِطَابٌ لِلْحَاجِّ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ ؟ فَنَقُولُ : أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ؛ فَيُكَبِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ ، كَانَ الْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ .
لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُهُ [ وَالْمُزَنِيُّ ] .
وَالثَّانِي : مِثْلُهُ فِي الْأَوَّلِ ، وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :

يُكَبِّرُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الرَّابِعُ : يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُكَبِّرُ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ ، وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ : يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ ؛ فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : إنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } فَذِكْرُ عَرَفَاتٍ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ قَالَ يُكَبِّرُ مِنْ الْمَغْرِبِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الظُّهْرِ ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَلِّقِ قَوْله تَعَالَى : { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ بِمِنًى .
وَمِنْ قَصَرَهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ظَاهِرٌ ، وَأَنَّ تَعَيُّنَهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا بِالرَّمْيِ ، وَأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْآفَاقِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ فِيهَا ، وَلَوْلَا الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ لَضَعُفَ مُتَابَعَةُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ إلَّا فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ قَوْمٌ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ : وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، وَقَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ وَحُمُرٍ ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ ، وَهُوَ أَقْوَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، وَمَا يَبْدُو مِنْ إيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ الْخَلْقِ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي قَبِيحًا .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَلَّا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَحَدٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَيَخْتَبِرُ بِالْمُخَالَطَةِ أَمْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَه إلَّا اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ } .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْكَفِّ عَنْهُ وَعِصْمَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ فِي حَالَتِهِ ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَأَمَّا فِي [ حَدِيثِ ] حَقِّ ثُبُوتِ الْمَنْزِلَةِ بِإِمْضَاءِ قَوْلِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهُ ، وَيُخْتَبَرُ فِي تَقَلُّبَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ ؛ فَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ النَّاسَ الْفَسَادُ فَلَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } : يَعْنِي : ذَا جِدَالٍ إذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ .
الثَّانِي : فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ ؛ أَرْسَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشًا فَحَاصَرُوا حِصْنًا فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ ، فَقَالَ النَّاسُ : أَلْقَى بِيَدِهِ لِلتَّهْلُكَةِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ : كَذَبُوا ؛ أَوْ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } وَحَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } .
الثَّالِثُ : نَزَلَتْ فِي الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْمَالِ وَالدِّيَارِ لِأَجْلِهَا ؛ رُوِيَ أَنْ صُهَيْبًا أَخَذَهُ أَهْلُهُ وَهُوَ قَاصِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ آخَرُ فَافْتَدَى مِنْهُ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ ، وَغَيْرُهُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاسْتَرْجَعَ ، وَقَالَ : قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ .
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ ، فَأَرْسَلَ إلَى فِتْيَانٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عَنْبَسَةَ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْقَائِلَةُ انْصَرَفُوا .
قَالَ : فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إلَى جَانِبِهِ : اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ .
فَسَمِعَ

عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ قُلْت ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ .
قَالَ : مَاذَا قُلْت ؟ قَالَ : فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : أَرَى هَذَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ مِنْ أَمْرِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ ، فَيَقُولُ هَذَا : وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَيُقَاتِلُهُ ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ .
فَقَالَ عُمَرُ : لِلَّهِ تِلَادُك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ ، لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ ، دَاخِلًا فِي عُمُومِهَا ، إلَّا أَنَّ مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ أَمَّا الْقَوْلُ : إنَّهَا فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا اقْتِحَامُ الْقِتَالِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُهُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا خَافَ مِنْهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَ فَرْضُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اقْتِحَامُ الْغَرَرِ فِيهِ وَتَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْإِذَايَةِ أَوْ الْهَلَكَةِ ؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ [ كَانَتْ ] مَوْضُوعَةً أَوَّلًا فِي الْأَقْرَبِينَ ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ مَصْرِفَهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مَصَارِفَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ دَعْوَى ، وَشُرُوطُهُ مَعْدُومَةٌ هُنَا ؛ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْأَقْرَبِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمْ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ؛ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ .
فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ لِزَوْجِهَا : أَرَاك خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ ، فَإِنْ أَجْزَأَتْ عَنِّي فِيك صَرَفْتهَا إلَيْك .
فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ ، فَقَالَتْ : أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ مِنِّي عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَك أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا : أُمَّكَ وَأَبَاكَ ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ، وَأَدْنَاك أَدْنَاك } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُنُوَّ عَلَى الْقَرَابَةِ أَبْلَغُ ، وَمُرَاعَاةُ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ أَوْقَعُ فِي الْإِخْلَاصِ .
وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ ظَاهِرًا عَلَى مَوْضِعٍ ؛ كَانَ الْقِتَالُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، حَتَّى يَكْشِفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بِهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاشِعٍ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَخِي فَقُلْت : بَايِعْنِي عَلَى الْهِجْرَةِ .
فَقَالَ : مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا .
قُلْت : عَلَامَ تُبَايِعُنَا ؟ قَالَ : عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ إبَاحَةِ الْقِتَالِ وَالْإِذْنِ فِيهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنْ اسْتَطَاعُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَكَانَ عَطَاءٌ يَحْلِفُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ ؛ وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِالْخَاصِّ بِاتِّفَاقٍ .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ ؛ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَهَا { غَزْوُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ } ؛ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ بِمَكَّةَ ، وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبِهِ ، فَبَايَعَ عَلَى دَفْعِهِمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } يَعْنِي أَشْهُرَ التَّسْيِيرِ ، فَلَمْ يَجْعَلْ حُرْمَةً إلَّا لِزَمَانِ التَّسْيِيرِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَعْظَمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ وَالْحِمَايَةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ

أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ } وَهِيَ الْكُفْرُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَعَيَّنَ قِتَالُكُمْ فِيهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ ، هَلْ يُحْبِطُ عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ .
وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ .
وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَمَةِ ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ ، فَكَيْف أَنْتُمْ ؟ لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، حِينَ قَرَأَ : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } ؛ وَاَللَّهِ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا ذَكَرَ

الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً ، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى ، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ مُرْسَلٌ دُونَ ذِكْرِ " عَنْ " وَقَالَ بَدَلَهَا : عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْمَائِدَة : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : انْتَهَيْنَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهُ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَمْرَ شَرَابٌ يُعْتَصَرُ مِنْ الْعِنَبِ خَاصَّةً ، وَمَا اُعْتُصِرَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ لَهُمَا نَبِيذٌ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مَلَذٌّ مُطْرِبٌ ، قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ ؛ وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا خَطْمٌ وَلَا أَزْمَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَنَسًا قَالَ : " حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلٌ ، وَعَامَّةُ خَمْرِهَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ " .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى رِوَايَةٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْرُ عِنَبٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ خَمْرَ النَّبِيذِ ، فَكَسَرُوا دِنَانَهُمْ ، وَبَادَرُوا الِامْتِثَالَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَمْرٌ .
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : الْعِنَبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ " .
وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ اشْتِقَاقًا وَأُصُولًا وَقُرْآنًا وَأَخْبَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَيْسِرُ : مَا كُنَّا نَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ فِعْلَهُ وَجَهِلْنَاهُ حَمِدْنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَشَكَرْنَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ قَالَ الْحَسَنُ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ : حُرِّمَتْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } : وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } فَلَمَّا تَنَاوَلَ التَّحْرِيمُ الْإِثْمَ ، وَكَانَ الْإِثْمُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ وَجَبَ تَحْرِيمُهَا .
وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ كَانَ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ } فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيمٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَا هَذَا الْإِثْمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ مَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ ، وَالْمَنْفَعَةُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ .
الثَّانِي : أَنَّ إثْمَهَا كَانُوا إذَا شَرِبُوا سَكِرُوا فَسَبُّوا وَجَرَحُوا وَقَتَلُوا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إثْمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَتَمَامُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ .
وَالثَّانِي : السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ .
وَالثَّالِثُ : قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ : مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ ، وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ .
وَأَمَّا اللَّذَّةُ : فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ .
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ : فَقَدْ بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ لِي : لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ فِي مَنَافِعِهَا ، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا .
وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ

فِيهَا كَانَتْ بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت ، فَإِنَّ خَالِقَهَا وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ { طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا .
قَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ .
قَالَ : لَيْسَ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ : أَتُتَّخَذُ خَلًّا ؟ قَالَ : لَا .
} وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ مَا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا عِوَضَ مِنْهُ ؟ هَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا ؛ بَلْ لِلْمَرِيضِ عَنْهَا أَلْفُ غِنًى ، وَلِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مِنْهَا عِوَضٌ مِنْ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ .
الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : لَوْ كَانَتْ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا لَامْتَنَعَ تَحْرِيمُهَا ، وَلَا اسْتَحَالَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَارِي تَعَالَى الْخَلْقَ مِنْهَا لِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْمَرَافِقَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا ، وَأَنْ يُبِيحَهَا ، وَقَدْ آلَمَ الْحَيَوَانَ وَأَمْرَضَ الْإِنْسَانَ .
الثَّانِي : أَنَّ التَّطَبُّبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ : { يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ

كَانَ فِيهَا صَلَاحُ بَدَنٍ لَكَانَتْ فِيهَا ضَرَاوَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ ، فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ ، فَغَلَبَ الْمَنْعُ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ؛ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَوْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ أَمْ لَا ؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ شِهَابٍ ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ ، وَتَرَدَّدَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } : وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِثْمَ فِيمَا يَكُونُ عَنْهَا مِنْ فَسَادِ الْعَمَلِ عِنْدَ ذَهَابِ الْعَقْلِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ اللَّذَّةِ وَالرِّبْحِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَزَادَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ تَوَرَّعَ عَنْهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَشَرِبَهَا آخَرُونَ لِلْمَنْفَعَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا لَا لِمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ كَمَا قَدَّمْنَا ، حَتَّى نَزَلَتْ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَإِنْ قِيلَ : كَيْف شُرِبَتْ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَبَعْدَ قَوْلِهِ : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَكَيْف تَعَاطَى مُسْلِمٌ مَا فِيهِ مَأْثَمٌ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ بِالْإِثْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ شُرْبُهَا لَا نَفْسُ شُرْبِهَا .
فَمَنْ فَعَلَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ فَقَدْ أَثِمَ بِمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ لَا بِنَفْسِ الشُّرْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إثْمٌ ؛ فَكَانَ هَذَا مَقْصَدَ الْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ ؛ فَقَبِلَهُ قَوْمٌ فَتَوَرَّعُوا ، وَأَقْدَمَ آخَرُونَ عَلَى الشُّرْبِ حَتَّى حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى التَّحْرِيمَ ، فَامْتَنَعَ الْكُلُّ ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّك التَّحْرِيمَ لَقَالَ لِعُمَرَ أَوَّلًا مَا قَالَ لَهُ آخِرًا حَتَّى قَالَ : انْتَهَيْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا فِيهَا مِنْ الْإِثْمِ الْمُوجِبِ لِلِامْتِنَاعِ وَقَرَنَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِقْدَامِ فَهِمَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْله تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } لَغَلَبَ الْوَرَعُ ؛ فَأَقْدَمَ مَنْ

أَقْدَمَ ، وَتَوَرَّعَ مَنْ تَوَرَّعَ ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّحْرِيمِ الْبَاحِثَةِ الْكَاشِفَةِ لِتَحْقِيقِهِ ، فَفَهِمَهَا النَّاسُ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : انْتَهَيْنَا ، { وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ } .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا فَضَلَ عَنْ الْأَهْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا إسْرَافٍ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : مَا سَمَحَتْ بِهِ النَّفْسُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْخَامِسُ : صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
التَّنْقِيحُ : قَدْ بَيَّنَّا أَقْسَامَ الْعَفْوِ فِي مَوْرِدِ اللُّغَةِ عِنْدَمَا فَسَّرْنَا قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
وَأَسْعَدُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ [ بِالتَّحْقِيقِ ] وَبِالصِّحَّةِ مَا عَضَّدَتْهُ اللُّغَةُ ، وَأَقْوَاهَا عِنْدِي الْفَضْلُ ، لِلْأَثَرِ الْمُتَقَدِّمِ .
[ وَلِلنَّظَرِ ] ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِالْكَثِيرِ نَدِمَ وَاحْتَاجَ ، فَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا ، فَإِعْطَاءُ الْيَسِيرِ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ أَوْقَعُ فِي الدِّينِ وَأَنْفَعُ فِي الْمَالِ ؛ وَقَدْ { جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ كَعْبٌ ، فَقَالَ لَهُمَا : الثُّلُثُ } .

الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الْآيَةَ تَحَرَّجَ النَّاسُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ وَاعْتَزَلُوهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } يَعْنِي : قَصْدُ إصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ اعْتِزَالِهِمْ : فَكَانَ إذْنًا فِي ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْقَصْدِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ رِفْقَ الْيَتِيمِ لَا أَنْ يَقْصِدَ رِفْقَ نَفْسِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْبَحْثِ عَنْ الْيَتِيمِ : هُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُنْفَرِدِ مِنْ أَبِيهِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُنْفَرِدِ مِنْ أُمِّهِ .
وَالْأَوَّلُ : أَظْهَرُ لُغَةً ، وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ ، وَلِأَنَّ الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ عَدِمَ النُّصْرَةَ ، وَاَلَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ عَدِمَ الْحَضَانَةَ ، وَقَدْ تَنْصُرُ الْأُمُّ لَكِنَّ نُصْرَةَ الْأَبِ أَكْثَرُ ، وَقَدْ يَحْضُنُ الْأَبُ لَكِنَّ الْأُمُّ أَرْفَقُ حَضَانَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ لُغَةً ، وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْيُتْمِ فِي عَدَمِ الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ مَعَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ بِالنَّظَرِ لَهُمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْأَيْتَامِ كَمَا يُتَصَرَّفُ لِلْأَبْنَاءِ ، وَفِي الْأَثَرِ : " مَا كُنْت تُؤَدِّبُ مِنْهُ وَلَدَك فَأَدِّبْ مِنْهُ يَتِيمَك " وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ ، وَبِهِ أَقُولُ وَأَحْكُمُ ، فَيَنْفُذُ بِنُفُوذِ فِعْلِهِ لَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا كَفَلَ الرَّجُلُ الْيَتِيمَ وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَرِهِ ، جَازَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ .
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيمٍ مَعَ وُجُودِهِمْ فِي أَزْمِنَتِهِمْ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنِهِمْ عِنْدَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّقِيطِ هُوَ حُرٌّ ، لَك وَلَاؤُهُ ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ " يَعْنِي بِالْوَلَاءِ الْوِلَايَةَ ، لَيْسَ الْمِيرَاثَ ، كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْتُمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ بِوِلَايَةِ الْكَفَالَةِ كَمَا قَدَّمْتُمْ بَيَانَهُ إنْ كَانَ بِتَقْدِيمِ وَالٍ عَلَيْهِ ، فَهَلْ يُنْكِحُ نَفْسَهُ مِنْ يَتِيمَتِهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ يَتِيمَتِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّ مَالِكًا جَعَلَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةُ أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ ، حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَعْوَامِ الْمَجَاعَةِ إلَى الْكَفَلَةِ : إنَّهُمْ يُنْكِحُونَهُمْ إنْكَاحَهُمْ .
فَأَمَّا إنْكَاحُ الْكَافِلِ مِنْ نَفْسِهِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَشْتَرِي فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الْبَيْعِ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَأَمَّا مَا نَزَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ النِّكَاحِ فَلَهُ فِيهَا طُرُقٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا هُنَالِكَ ؛ وَأَمَّا الشِّرَاءُ فَطَرِيقُهُ فِيهَا ضَعِيفٌ جِدًّا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَنَا فِي مُرَاعَاةِ الذَّرَائِعِ وَالتُّهَمِ فَيَنْقُضُ أَصْلَهُ فِي تَرْكِهَا .
فَإِنَّ قِيلَ : فَلِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ ، وَجَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ يَتِيمَتِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا نَقُولُ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ ، وَوَكَّلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَيُمْنَعُ مِنْهُ ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ

مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ ، مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ .
وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأْمُلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمِّلُوهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ بِرَحْمَتِهِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ سِتِّينَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ ؛ قَالَهُ عُمَرُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ أَمَةً .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَطْءُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَدَرَسَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ قَالَ : احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ } ؛ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ ، فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ ، لَا بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنَعِ ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ : الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُخَايَرَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ لُغَةً وَقُرْآنًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } وَلَا خَيْرَ عِنْدَ

أَهْلِ النَّارِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي مُوسَى : " الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ " .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُشْرِكِ لِلْمُؤْمِنَةِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكَةِ ؛ إذْ لَوْ دَلَّ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ لَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا سِيقَتَا فِي الْبَيَانِ مَسَاقًا وَاحِدًا .
الثَّالِثُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَأَمَةٌ } لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّقِيقَ الْمَمْلُوكَ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ : الْآدَمِيَّةُ وَالْآدَمِيَّاتُ ، وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ .
التَّنْقِيحُ : كُلُّ كَافِرٍ بِالْحَقِيقَةِ مُشْرِكٌ ؛ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ، وَقَالَ : أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَقُولُ : عِيسَى هُوَ اللَّهُ أَوْ وَلَدُهُ ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَمْ تَنْسَخْهُ ؛ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ فِيهِ لَفْظُ الْمُشْرِكِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } فَلَفْظُ الْكُفْرِ يَجْمَعُهُمْ ، وَيَخُصُّهُمْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } ؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ .
قُلْنَا : لَا

نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } لَا إلَى النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } : قَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنْ " لَوْ " تَفْتَقِرُ إلَى جَوَابٍ ، وَنَسِيَ أَنَّ " إنْ " أَيْضًا تَفْتَقِرُ إلَى جَزَاءٍ .
وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ : لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ابْتِدَاءً وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حُسْنُهُنَّ ، كَمَا تَقُولُ ، لَا تُكَلِّمَ زَيْدًا وَإِنْ أَعْجَبَك مَنْطِقُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ : النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ ثُمَّ قَرَأَ : وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بِضَمِّ التَّاءِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ السُّؤَالِ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { كَانَتْ الْيَهُودُ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَاكِلُوهُنَّ وَيُشَارِبُوهُنَّ ، وَأَنْ يَكُونُوا فِي الْبَيْتِ مَعَهُنَّ ، وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا النِّكَاحَ .
فَقَالَتْ الْيَهُودُ : مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا نُخَالِفُ الْيَهُودَ فَنَطَأُ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا .
قَالَ : فَقَامَا فَخَرَجَا عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ ا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا ، فَعَلِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا .
} وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ غَضَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا كَرَاهِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَسْئِلَةِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : { ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ } .
وَإِمَّا أَنْ

يَكُونَ كَرِهَ الْأَطْمَاعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّذَائِلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَرِنَةً بِاللَّذَّاتِ ؛ وَالْوَطْءُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ رَذِيلَةٌ يَسْتَدْعِي عُزُوفَ النَّفْسِ .
وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ الِانْكِفَافَ عَنْهُ لَوْ كَانَ مُبَاحًا ، كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِي الدِّينِ عِلْمُهُ ، وَثَبَتَ فِي الْمُرُوءَةِ قَدَمُهُ كَأُسَيْدٍ وَعَبَّادٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : { كَانُوا يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي الْمَحِيضِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } وَهَذَا ضَعِيفٌ يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْمَحِيضِ وَهُوَ مَفْعَلُ ، مِنْ حَاضَ يَحِيضُ إذَا سَالَ حَيْضًا ، تَقُولُ الْعَرَبُ : حَاضَتْ الشَّجَرَةُ وَالسَّمُرَةُ : إذَا سَالَتْ رُطُوبَتُهَا ، وَحَاضَ السَّيْلُ : إذَا سَالَ قَالَ الشَّاعِرُ : أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ الَّذِي يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فَيَفِيضُ ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ : الْأَوَّلُ : حَائِضٌ .
الثَّانِي : عَارِكٌ .
الثَّالِثُ : فَارِكٌ .
الرَّابِعُ : طَامِسٌ .
الْخَامِسُ : دَارِسٌ .
السَّادِسُ : كَابِرٌ .
السَّابِعُ : ضَاحِكٌ .
الثَّامِنُ : طَامِثٌ .
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَضَحِكَتْ } يَعْنِي حَاضَتْ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَهْجُرُهَا يَوْمًا إذَا هِيَ ضَاحِكٌ وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } يَعْنِي حِضْنَ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ : يَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا يَأْتِي النِّسَاءَ إذَا أَكْبَرْنَ إكْبَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمَحِيضُ ، مَفْعَلُ ، مِنْ حَاضَ ، فَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَوْنُ .
عِبَارَةٌ عَنْ الزَّمَانِ أَمْ عَنْ الْمَكَانِ أَمْ عَنْ الْمَصْدَرِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ ؟ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْحَيْضِ وَعَنْ مَكَانِهِ ، وَعَنْ الْحَيْضِ نَفْسِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَ مَشْيَخَةِ الصَّنْعَةِ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ الْمَبْنِيَّ مِنْ فَعَلَ يَفْعِلُ لِلْمَوْضِعِ مَفْعَلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَالْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ ، وَالِاسْمُ الْمَبْنِيُّ مِنْهُ عَلَى مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ كَالْمَضْرَبِ ، تَقُولُ : إنَّ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمَضْرَبًا ، أَيْ ضَرْبًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } أَيْ عَيْشًا .
وَقَدْ يَأْتِي الْمَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِلزَّمَانِ ، كَقَوْلِنَا : مَضْرِبُ النَّاقَةِ أَيْ زَمَانُ ضِرَابِهَا .
وَقَدْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ مَا تَقَدَّمَ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } أَيْ رُجُوعُكُمْ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ

عَنْ الْمَحِيضِ } أَيْ عَنْ الْحَيْضِ .
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ، فَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَعَلِّقٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنْ بِنَاءٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَصْدًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا ، وَهِيَ سَبْعَةٌ : الْفَاعِلُ ، وَالْمَفْعُولُ ، وَالزَّمَانُ ، وَالْمَكَانُ ، وَأَحْوَالُ الْفِعْلِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مَاضٍ ، وَمُسْتَقْبَلٍ ، وَحَالٍ ، وَيَتَدَاخَلَانِ ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ إلَى عَشَرَةٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهَا بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْمُتَعَلِّقَاتِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ يَتَمَيَّزُ بِخُصُصِيَّتِهِ اللَّفْظِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تُمَيِّزُهُ بِمَعْنَاهُ ، وَقَدْ يَتَمَيَّزُ بِبِنَائِهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ ، كَقَوْلِك : مَعَهُ ، وَلَهُ ، وَبِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِذَا وَضَعَ الْعَرَبِيُّ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ جَازَ ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْمُنْصِفِ اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنْ كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْت مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } زَمَانِ الْحَيْضِ صَحَّ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ السُّؤَالُ بِسَبَبِهِ ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ .
وَإِنْ قُلْت : إنَّ مَعْنَاهُ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَانَ مَجَازًا فِي مَجَازٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفَيْنِ تَقْدِيرُهُ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } أَيْ : عَنْ الْوَطْءِ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ حَالَةَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ اسْمِ الْمَوْضِعِ يَبْقَى عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَ بِهِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ ، لِظُهُورِ الْمَجَازِ فِيهِ .
وَإِنْ قُلْت مَعْنَاهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْحَيْضِ ، كَانَ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَاحِدٍ ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ مَنْعِ الْحَيْضِ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَصَوَّرٌ مُتَقَرِّرٌ

عَلَى رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَثَابِتِ بْنِ الدَّحْدَاحَةِ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ مُتَقَدِّرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا تَقْدِيرًا صَحِيحًا ؛ فَيَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّنْزِيلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهِ بِتَطْوِيلٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي اعْتِبَارِهِ شَرْعًا الدِّمَاءُ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ دَمُ عَادَةٍ ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ ، وَدَمُ عِلَّةٍ يُعْتَبَرُ غَالِبًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَفِيهِ خِلَافٌ ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ ؛ وَالْأَرْحَامُ الَّتِي تُرْخِيهَا ثِنْتَانِ : حَامِلٌ ، وَحَائِلٌ [ وَالْحَائِلُ ] تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةٍ : مُبْتَدَأَةٌ ، وَمُعْتَادَةٌ ، وَمُخْتَلِطَةٌ ، وَمُسْتَحَاضَةٌ ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ بِالْأَحْوَالِ وَالزَّمَانِ إلَى ثَلَاثِينَ قِسْمًا ، بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا حُكْمٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَذِرٌ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .
الثَّانِي : دَمٌ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِث : نَجِسٌ .
الرَّابِعُ : مَكْرُوهٌ يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ هَذَا الرَّابِعُ ، بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَعُمُّهَا .
الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ } وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَتَقْدِيرُهُ : يَسْأَلُونَك عَنْ مَوْضِعِ الْحَيْضِ ، قُلْ : هُوَ أَذًى ؛ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمَحِيضِ مَجَازًا ، وَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى مَجَازِهِ حَقِيقَةً ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّقْدِيرِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي دَمِ الْحَيْضِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ ، رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } وَهَذَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى الْآخَرِ بِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنٍ .
وَذَلِكَ الْأَوَّلُ هُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالٍ ، وَحَالُ الْمُعَيَّنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ فُنُونِ التَّرْجِيحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : جُمْلَةُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ الطَّهَارَةُ .
الثَّانِي : دُخُولُ الْمَسْجِدِ .
الثَّالِثُ : الصَّوْمُ .
الرَّابِعُ : الْوَطْءُ .
الْخَامِسُ : إيقَاعُ الطَّلَاقِ .
وَيَنْتَهِي بِالتَّفْصِيلِ إلَى سِتَّةَ عَشْرَ حُكْمًا تَفْسِيرُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } : مَعْنَاهُ افْعَلُوا الْعَزْلَ أَيْ اكْتَسَبُوهُ ، وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ عَارِضًا لَا أَصْلًا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَوْرِدِ الْعَزْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : جَمِيعُ بَدَنِهَا .
فَلَا يُبَاشِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ فِي قَوْلٍ ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ .
الثَّالِثُ : الْفَرْجُ ؛ قَالَتْهُ حَفْصَةُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْبَغُ .
الرَّابِعُ : الدُّبُرُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَعْنَاهُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَمِيعُ بَدَنِهَا فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } ؛ وَهَذَا عَامُّ فِيهِنَّ فِي جَمِيعِ أَبْدَانِهِنَّ ، وَالْمَرْوِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ مَعِي وَأَنَا حَائِضٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ } .
وَقَالَتْ أَيْضًا : { كَانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا ، أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرَهَا } .
قَالَتْ : { وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ } ؟ وَهَذَا يَقْتَضِي خُصُوصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { بَدْرَةَ مَوْلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ : بَعَثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ إلَى امْرَأَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ .
فَوَجَدَتْ فِرَاشَهُ مُعْتَزِلًا فِرَاشَهَا ، فَظَنَنْت أَنَّ ذَلِكَ عَنْ الْهُجْرَانِ ، فَسَأَلْتهَا فَقَالَتْ : إذَا طَمَثْت اعْتَزَلَ فِرَاشِي ؛ فَرَجَعْت فَأَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ فَرَدَّتْنِي إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَتْ : تَقُولُ لَك أُمُّك : أَرَغِبْت عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ وَإِنَّهَا حَائِضٌ ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلَّا ثَوْبٌ مَا يُجَاوِزُ الرُّكْبَتَيْنِ } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الرَّاحَةِ مِنْ مُضَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ فَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَدَلِيلُهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ .
فَقَالَ : لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْفَرْجُ خَاصَّةً فَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ : { افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ } .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى حِمَايَةِ الذَّرَائِعِ ، وَخَصَّ الْحُكْمَ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِمَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْفَرْجُ ؛ لِيَكُونَ الْحُكْمُ طِبْقًا لِلْعِلَّةِ يَتَقَرَّرُ بِتَقَرُّرِ الْعِلَّةِ إذَا أَوْجَبَتْهُ خَاصَّةً ، فَإِذَا أَثَارَتْ الْعِلَّةُ نُطْقًا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالنُّطْقِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّعْيِ مِنْ قَبْلُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ الرَّمَلُ فِيهِ لِعِلَّةِ إظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ ؛ ثُمَّ زَالَتْ ، وَلَكِنْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِبًا يَثْبُتُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُسْتَمِرًّا ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ فِي الْفُرُوعِ وَأَدِلَّةٌ فِي الْأُصُولِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الدُّبُرُ ، فَرَوَى الْمُقَصِّرُونَ الْغَافِلُونَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ حَرُمَ حِجْرُهَا " ، وَهَذَا بَاطِلٌ ذَكَرْنَاهُ لِنُبَيِّن حَاله .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : { افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ } ، فَمَعْنَاهُ الْإِذْنُ فِي الْجِمَاعِ ؛ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحِلَّهُ ، وَقَوْلُهُ : { شَأْنُك بِأَعْلَاهَا } ، بَيَانٌ لِمَحِلِّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } : فَذَكَرَهُنَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَإِنَّ حَمَلْتهَا عَلَى الْعَهْدِ صَحَّ ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ مَعْهُودٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، فَعَادَ الْجَوَابُ عَلَيْهِ طِبْقًا ، وَإِنْ حَمَلْتهَا عَلَى الْجِنْسِ جَازَ وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَعَمُّ مِنْ السُّؤَالِ ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } عَامًّا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ زَوْجًا أَوْ غَيْرَ زَوْجٍ ، خَاصًّا فِي حَالِ الْحَيْضِ ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً فِي حَالِ الْحَيْضِ بِالْحَيْضِ ، وَتَكُونُ الْأَجْنَبِيَّاتُ مُحَرَّمَاتٍ فِي حَالِ الْحَيْضِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَبِالْحَيْضِ جَمِيعًا ، وَيَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالْعِلَّتَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَّتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { فِي الْمَحِيضِ } : وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، فَاعْتَبِرْهُ بِمَا فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } : سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ : إذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسَ بِالْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ .
وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَهُوَ مَوْرِدُ { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، لَكِنْ بِإِضْمَارٍ بَعْدَ إضْمَارٍ ، كَقَوْلِك مَثَلًا : فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ، أَيْ فِي مَكَانِ الْحَيْضِ ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ فِيهِ ، وَرَكَّبُوا عَلَيْهَا بَاقِيَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } : حَتَّى بِمَعْنَى الْغَايَةِ ، وَهُوَ انْتِهَاءُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَاطِعِ لِلشَّيْءِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَثِيرٌ ، مِثَالُهُ أَنَّ اللَّيْلَ يَنْتَهِي بِإِقْبَالِهِ الصَّوْمُ ، وَبِالسَّلَامِ تَنْتَهِي الصَّلَاةُ ، وَبِوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَنْتَهِي تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَتَحْقِيقُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي حُكْمِ الْغَايَةِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا ، وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا ، وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } : وَالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } : وَهُمَا مُلْتَزِمَتَانِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا نُطِيلُ النَّفَسَ فِيهِ قَلِيلًا ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } ؛ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ قَالَ : إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ حِينَئِذٍ تَحِلُّ ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ تَحِلَّ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ .
الثَّانِي : لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ .
الثَّالِثُ : تَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ .
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُنْقَضُ قَوْلُهُ بِمَا نَاقَضَ فِيهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِأَنَّ الدَّمَ إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ يُؤْمَنْ عَوْدَتُهُ .
قُلْنَا : وَلَا تُؤْمَنُ عَوْدَتُهُ إذَا مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ ، فَبَطَلَ مَا قُلْته .
وَالتَّعَلُّقُ بِالْآيَةِ يُدْفَعُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } مُخَفَّفًا .
وَقُرِئَ " حَتَّى يَطَّهَّرْنَّ " مُشَدَّدًا .
وَالتَّخْفِيفُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ وَغَايَةً لِلتَّحْرِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الدَّمُ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ التَّشْدِيدُ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ ، فَيُقَالُ : تَطَهَّرَ بِمَعْنَى طَهُرَ ، كَمَا يُقَالُ : قَطَعَ وَقَطَّعَ ، وَيَكُونُ هَذَا أَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ ، وَمَذْهَبُكُمْ يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارِ قَوْلِك بِالْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا يُقَالُ اطَّهَرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى

انْقَطَعَ دَمُهَا ، وَلَا يُقَالُ قَطَّعَ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى قَطَعَ مُخَفَّفًا ، وَإِنَّمَا التَّشْدِيدُ [ بِمَعْنَى ] تَكْثِيرُ التَّخْفِيفِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ ، فَقَالَ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ قَبْلَهَا ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } مُخَفَّفًا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " يَطَّهَّرْنَ " مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْآيَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَقَالَ الْكُمَيْتُ : وَمَا كَانَتْ الْأَبْصَارُ فِيهَا أَذِلَّةً وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إذَا النَّاسُ غُيَّبُ وَقِيلَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا إعَادَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : حَتَّى يَطْهُرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ خَاصَّةً ، فَلَمَّا زَادَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ آخَرَ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛ فَإِنَّ الْمَعَادَ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ ، بِدَلِيلِ ذِكْرِهِ بِالْفَاءِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لِذِكْرِهِ بِالْوَاوِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَلَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَا تُعْطِ هَذَا الثَّوْبَ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ الثَّوْبَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ ، لَكَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَقَالَ : لَا تُعْطِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ وَجَلَسَ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا ؛ هَذَا طَرِيقُ النَّظْمِ فِي اللِّسَانِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : إنَّا لَا نَفْتَقِرُ فِي تَأْوِيلِنَا إلَى إضْمَارٍ ؛ وَأَنْتُمْ تَفْتَقِرُونَ إلَى إضْمَارٍ .
قُلْنَا : لَا يَقَعُ بِمِثْلِ هَذَا تَرْجِيحٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ مِنْ ضَرُورَةِ الْكَلَامِ ، فَهَذَا كَالْمَنْطُوقِ بِهِ .
جَوَابٌ

ثَالِثٌ : وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي مِنْ الْآيَةِ : إنَّا نَقُولُ : نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ ، لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ، مَعْنَاهُ فَإِذَا اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْقِطَاعُ الدَّمِ .
الثَّانِي : الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ .
فَوَقَفَ الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الْوَطْءِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ ، وَصَارَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فَعَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بُلُوغُ النِّكَاحِ ، وَالثَّانِي : إينَاسُ الرُّشْدِ .
فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ بِأَحَدِهِمَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ ؛ فَوَقَفَ التَّحْلِيلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُمَا انْعِقَادُ النِّكَاحِ ، وَوُقُوعُ الْوَطْءِ ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ الْجُوَيْنِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ مَدَّ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ ، وَهِيَ انْقِطَاعُ الدَّمِ ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الْجَوَازُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِسَبَبِ حُكْمِ الْغَايَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَايَةِ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً ، فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا شَرْطٌ آخَرُ فَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } ؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَكَمَا بَيَّنَّاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا تَجْدِيدَ شَرْطٍ زَائِدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إعَادَةٌ لِلْكَلَامِ ، كَمَا تَقُولُ : لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ ؛ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ

وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْفَظُ حُكْمَ الْغَايَةِ وَيُقِرُّهَا عَلَى أَصْلِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ لَفْظِ الشَّرْطِ أَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا نَقُولُ : رَوَى عَطِيَّةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ " ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ .
الثَّانِي : أَنَّ تَطَهَّرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ ، فَأَمَّا انْقِطَاعُ الدَّمِ فَلَيْسَ بِمُكْتَسَبٍ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ يُسْتَعْمَلُ تَفَعَّلَ فِي غَيْرِ الِاكْتِسَابِ ، كَمَا يُقَالُ : تُقَطَّعَ الْحَبْلُ ، وَكَمَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : تَجَبُّرٌ وَتَكَبُّرٌ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اكْتِسَابٌ وَلَا تَكَلُّفٌ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللُّغَةِ مَا قُلْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ : تَقَطَّعَ الْحَبْلُ نَادِرٌ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حُكْمٌ .
جَوَابٌ آخَرُ : هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ ، فَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسْتَعْمَلُ ، فَلَا يُقَالُ تَطَهَّرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى انْقَطَعَ دَمُهَا .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَقَعْ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهَا ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْمَجَازِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ .
وَأَمَّا مَجَازٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقًا إلَى تَأْوِيلِ اللَّفْظِ فِيمَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ ؛ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا تُوصَفُ بِالِاكْتِسَابِ لِلْأَفْعَالِ وَتَكَلُّفِهَا ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَفْعَالِهِ التَّكَلُّفُ ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَهَذَا جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : قَالَ

تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فَمَدَحَهُنَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِنَّ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ انْقِطَاعَ الدَّمِ مَا كَانَ فِيهِ مَدْحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِنَّ ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ ذَمَّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَقَالَ : { وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ ، وَلَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى مَا تَقَدَّمَ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } ؛ وَلَمْ يَجْرِ لِلتَّوْبَةِ ذِكْرٌ .
قُلْنَا : سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
جَوَابٌ رَابِعٌ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ : وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّمَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا كَمَا قَدْ حَفِظْنَا مُوجِبَ الْغَايَةِ وَمُقْتَضَاهَا ، فَهَذَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْغَايَةِ ، فَأَمَّا إذَا قُرِنَ بِهَا الشَّرْطُ فَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
جَوَابٌ خَامِسٌ : وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : إنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا مُوجَبَ الْغَايَةِ فَقَدْ حَمَلْتُمْ أَنْتُمْ اللَّفْظَ عَلَى التَّكْرَارِ ، فَتَرَكْتُمْ فَائِدَةَ عَوْدِهِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّكْرَارِ فِي كَلَامِ النَّاسِ ، فَكَيْف كَلَامُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ ؟ جَوَابٌ سَادِسٌ : لَيْسَ حَمْلُكُمْ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } عَلَى قَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ ؛ هَذَا جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ .
جَوَابٌ سَابِعٌ : وَذَلِكَ أَنَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ كُنَّا قَدْ حَفِظْنَا الْآيَةَ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ التَّنَاقُضِ ؛ وَإِذَا حَمَلْنَا { تَطَهَّرْنَ } عَلَى انْقِطَاعِ الدَّمِ كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْآيَةَ وَتَحَكَّمْنَا عَلَى مَعْنَى لَفْظِهَا بِمَا لَا يَقْتَضِيه وَلَا يَشْهَدُ لَهُ فَرْقٌ فِيهِ ، وَتَنَاقَضْنَا فِي الْأَدِلَّةِ ؛ وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى .
هَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ

.
وَجَوَابٌ ثَامِنٌ : وَهُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ ؛ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُنَا جَوَابُ الطُّوسِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُهَا ؛ وَقَدْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُ ضَعِيفَةً عِنْدَ لِقَائِنَا لَهُ ، وَقَدْ حَصَّلْنَا فِيهَا الْقُوَّةَ وَالنُّصْرَةَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ إمَامٍ وَفِي كُلِّ طَرِيقٍ .
جَوَابٌ تَاسِعٌ : قَوْلُهُمْ : إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللَّفْظِ الْمَعَادِ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَادًا بِلَفْظِ الْأَوَّلِ ؛ أَمَّا إذَا كَانَ مَعَادًا بِغَيْرِ لَفْظِهِ فَلَا ، وَهُوَ قَدْ قَالَ هَاهُنَا : حَتَّى " يَطْهُرْنَ " مُخَفَّفًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " مُشَدَّدًا ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَانَ كَلَامُنَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ آخِرُ أَسْئِلَةِ الْقَوْمِ ، وَأَعْمَدُهَا : الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى فَتُحْمَلُ الْمُشَدَّدَةُ عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَقَلِّ ، فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُ وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ ، وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَكْثَرِ ، فَنُجَوِّزُ وَطْأَهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ .
قُلْنَا : قَدْ جَعَلْنَا الْقِرَاءَتَيْنِ حُجَّةً لَنَا ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ تَقْتَضِي التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ أَيْضًا مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ .
جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَوْجَبَتْ انْقِطَاعَ الدَّمِ ، وَالْأُخْرَى أَوْجَبَتْ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى تَحْلِيلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ ، وَاقْتَضَتْ السُّنَّةُ التَّحْلِيلَ بِالْوَطْءِ ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اعْتَبَرْتُمْ الْقِرَاءَتَيْنِ هَكَذَا كُنْتُمْ قَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ ،

وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا نَحْنُ كَمَا قُلْنَا حَمَلْنَاهَا عَلَى فَائِدَتَيْنِ مُتَجَدِّدَتَيْنِ ، وَهِيَ اعْتِبَارُ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي قَوْله تَعَالَى : { تَطَهَّرْنَ } فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَاعْتِبَارُ قَوْلِهِ : يَطْهُرُ فِي الْأَقَلِّ .
قُلْنَا : نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا قَدْ حَمَلْنَاهُمَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَدْ وَجَدْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَحَفِظْنَا نُطْقَ الْآيَةِ وَلَمْ نَخُصَّهُ ، وَحَفِظْنَا الْأَدِلَّةَ فَلَمْ نَنْقُضْهَا ؛ فَكَانَ تَأْوِيلُنَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلٍ آخَرَ يَخْرُجُ عَنْهَا .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْجَمْعِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِلْأَكْثَرِ ، وَمَا قُلْنَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ ؛ وَإِذَا تَعَارَضَ بَاعِثُ الْحَظْرِ وَبَاعِثُ الْإِبَاحَةِ غَلَبَ بَاعِثُ الْحَظْرِ ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ : " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } ثُمَّ قَالَ : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } وَهُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ ، وَمَتَى انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَالزَّمَانُ بَاقٍ ، فَبَقِيَ النَّهْيُ ، وَهَذَا اعْتِرَاضُ أَبِي الْحَسَنِ الْقُدُورِيِّ .
أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ : [ الْمَحِيضُ ] هُوَ الْحَيْضُ بِعَيْنِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ : حَاضَتْ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ .
وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنْ قَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " الْمَحِيضِ " نَفْسَ الْحَيْضِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } فَإِنْ قِيلَ : بِهَذَا نَحْتَجُّ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الدَّمُ زَالَ الْأَذَى ؛ فَجَازَ الْوَطْءُ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا .
قُلْنَا : هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ ؛ فَإِنْ زَالَتْ الْعِلَّةُ

وَلَمْ يَزُلْ الْحُكْمُ ؛ وَذَلِكَ لِفِقْهٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ وُجُودُ الْأَذَى ، ثُمَّ لَمْ يَرْبِطْ زَوَالَ الْحُكْمِ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ حَتَّى ضَمَّ إلَيْهِ شَرْطًا آخَرَ ، وَهُوَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ .
وَأَمَّا طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ فَالْكَلَامُ مَعَهُمَا سَهْلٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُمَا تَفْسِيرُ الطُّهْرِ بِالِانْقِطَاعِ أَوْ الِاغْتِسَالِ ؛ وَلِذَلِكَ حَمَلْنَا قَوْله تَعَالَى : { فَاطَّهَّرُوا } عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَوْ الْمَسْأَلَتَيْنِ ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنْ نَقُولَ : الْحَيْضُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّوْمَ ؛ فَكَانَ الطُّهْرُ الْوَارِدُ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ أَصْلُهُ الْجَنَابَةُ .
وَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّا لَمْ نُرَاعِ خِلَافَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيُضَلِّلُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ الْقِيَاسَ كَفَّرْنَاهُ ؛ فَإِنْ رَاعِينَا إشْكَالَ سُؤَالِهِ ، قُلْنَا : هَذَا الْكَلَامُ هُوَ عَكْسُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَهَذَا ضَمِيرُ النِّسَاءِ ؛ فَكَيْف يَصِحُّ أَنْ يَسْمَعَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } فَيَقُولُ : إنَّ وَطْأَهَا جَائِزٌ ، مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ؛ فَيُبِيحُ الْوَطْءَ قَبْلَ وُجُودِ غَايَتِهِ الَّتِي عَلَّقَ جَوَازَ الْوَطْءِ عَلَيْهَا .
وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِعِطْفٍ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } ؛ عَلَى قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } تَجِدُهُ صَحِيحًا ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اعْتَزِلُوا جُمْلَةَ الْمَرْأَةِ كَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } عَامًّا فِيهَا ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } رَاجِعًا إلَى جُمْلَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا } أَسْفَلَهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : حَتَّى يَطْهُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ كُلُّهُ ؛ وَلَا يَصِحُّ لَهُ ؛ ----------ج44444444444444444---------------------------


كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } فَكَرَّرَ قَوْلَهُ : " إحْدَاهُمَا " وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ الْأُخْرَى ، لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى لَكَانَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَذْكِرَةِ الذَّاكِرَةِ النَّاسِيَةِ ، فَلَمَّا كَرَّرَ إحْدَاهُمَا أَفَادَ تَذْكِرَةَ الذَّاكِرَةِ لِلْغَافِلَةِ وَتَذْكِرَةَ الْغَافِلَةِ لِلذَّاكِرَةِ أَيْضًا لَوْ انْقَلَبَتْ الْحَالُ فِيهِمَا بِأَنْ تَذْكُرَ الْغَافِلَةُ وَتَغْفُلَ الذَّاكِرَةُ ؛ وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا تَحَمَّلُوا .
الثَّانِي : لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ الْأَدَاءِ .
الثَّالِثُ : لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ التَّحَمُّلِ إذَا حُمِّلُوا وَلَا يَأْبَوْا عَنْ الْأَدَاءِ إذَا تَحَمَّلُوا .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النَّهْيِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ نَدْبٌ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا حَالَةُ التَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْأَدَاءِ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَإِذَا كَانَتْ حَالَةُ التَّحَمُّلِ فَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكَافِيَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّ إبَايَةَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَنْهَا إضَاعَةٌ لِلْحُقُوقِ ، وَإِجَابَةُ جَمِيعِهِمْ إلَيْهَا تَضْيِيعٌ لِلْأَشْغَالِ ؛ فَصَارَتْ كَذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَهَا أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ وِلَايَةً فَيُقِيمُونَ لِلنَّاسِ شُهُودًا يُعَيِّنُهُمْ الْخَلِيفَةُ وَنَائِبُهُ ، وَيُقِيمُهُمْ لِلنَّاسِ وَيُبْرِزُهُمْ لَهُمْ ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شُغْلٌ إلَّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا ، وَإِحْيَاؤُهَا لَهُمْ أَدَاءً .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِالْأُجْرَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ خَالِصَةٌ مِنْ قَوْمٍ اسْتَوْفَوْا حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يَمْشِي إلَى الْحَاكِمِ ، وَهَذَا أَمْرٌ انْبَنَى عَلَيْهِ الشَّرْعُ ، وَعُمِلَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ ، وَفَهِمَتْهُ كُلُّ أُمَّةٍ ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ : " فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ " .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : كَيْفَمَا تَرَدَّدَتْ الْحَالُ بِالْأَقْوَالِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَأْبَى ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ بِنَفْسِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِإِذْنِ غَيْرِهِ ، فَانْحَطَّ عَنْ مَنْصِبِ الشَّهَادَةِ كَمَا انْحَطَّ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ ، نَعَمْ وَكَمَا انْحَطَّ عَنْهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مُسْتَحِقُّهَا الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَقَالَ قَوْمٌ : أَدَاؤُهَا نَدْبٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْأَدَاءَ عِنْدَ الدُّعَاءِ ، وَإِذَا لَمْ يُدْعَ كَانَ نَدْبًا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا } .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَدَاءَهَا فَرْضٌ ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا } .
فَقَدْ تَعَيَّنَ نَصْرُهُ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ ؛ إحْيَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ الْإِنْكَارُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } هَذَا تَأْكِيدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِشْهَادِ بِالدَّيْنِ ، تَنْبِيهًا لِمَنْ كَسِلَ ، فَقَالَ : هَذَا قَلِيلٌ لَا أَحْتَاجُ إلَى كَتْبِهِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالتَّخْصِيصَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إلَّا مَا كَانَ مِنْ قِيرَاطٍ وَنَحْوِهِ لِنَزَارَتِهِ وَعَدَمِ تَشَوُّفِ النُّفُوسِ إلَيْهِ إقْرَارًا أَوْ إنْكَارًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } يُرِيدُ أَعْدَلَ يَعْنِي أَنْ يُكْتَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ عُمُومُ ذَلِكَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } يَعْنِي أَدْعَى إلَى ثُبُوتِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا نَسِيَ الشَّاهِدُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا } بِالشَّاهِدِ إذَا نَسِيَ أَوْ قَالَ خِلَافَ مَا عِنْدَ الْمُتَدَايِنَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا رَأَى الْكِتَابَ فَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ لَا يُؤَدِّيهَا ؛ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّيبَةِ فِيهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَّا مَا يَعْلَمُ ، لَكِنَّهُ يَقُولُ خُذَا خَطِّي ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ مَا كَتَبْت فِيهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " : يُؤَدِّيهَا وَلَا يَنْفَعُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ وَالطَّلَاقِ .
الثَّانِي : قَالَ فِي " كِتَابِ مُحَمَّدٍ " : لَا يُؤَدِّيهَا .
الثَّالِثُ : قَالَ مُطَرِّفٌ : يُؤَدِّيهَا وَيَنْفَعُ إذَا لَمْ يَشُكَّ فِي كِتَابٍ ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةِ .
وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، وَبَيَّنَّا تَعَلُّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ خَطَّهُ فَرْعٌ عَنْ عِلْمِهِ ، فَإِذَا ذَهَبَ عِلْمُهُ ذَهَبَ نَفْعُ خَطِّهِ ، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ خَطَّهُ بَدَلُ الذِّكْرَى ، فَإِنْ حَصَلَتْ وَإِلَّا قَامَ مَقَامَهَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } قَالَ الشَّعْبِيُّ : الْبُيُوعُ ثَلَاثَةٌ : بَيْعٌ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ ، وَبَيْعٌ بِرِهَانٍ ، وَبَيْعٌ بِأَمَانَةٍ ؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ ، وَكَانَ كَأَبِيهِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقْتَدِيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : ظَنَّ مَنْ رَأَى الْإِشْهَادَ فِي الدَّيْنِ وَاجِبًا أَنَّ سُقُوطَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ رَفْعٌ لِلْمَشَقَّةِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ .
وَالظَّاهِرُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ وَاجِبًا ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ بِهِ أَمْرُ إرْشَادٍ لِلتَّوَثُّقِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ؛ لِكَوْنِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَاقِيَةً ؛ تَوَثُّقًا لِمَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْقُلُوبِ ، فَأَمَّا إذَا تَفَاصَلَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَقَابَضَا ، وَبَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقِلُّ فِي الْعَادَةِ خَوْفُ التَّنَازُعِ إلَّا بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ ، وَنَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ فِي حَالَتَيْ النَّسِيئَةِ وَالنَّقْدِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا } يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْإِشْهَادِ فِي النَّقْدِ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } أَمْرُ إرْشَادٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ جُنَاحًا فِي تَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي الدَّيْنِ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالْجُنَاحُ هَاهُنَا لَيْسَ الْإِثْمَ ، إنَّمَا هُوَ الضَّرَرُ الطَّارِئُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مِنْ التَّنَازُعِ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ ( أَفْعِلْ ) فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَرْضٌ ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَدْبٌ ؛ قَالَهُ الْكَافَّةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لِأَدَاءٍ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ } .
وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكْتُبَ الْكَاتِبُ مَا لَمْ يُمْلِ عَلَيْهِ ، وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ .
الثَّانِي : يَمْتَنِعُ الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَالشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ وَهُمَا مَشْغُولَانِ مَعْذُورَانِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُضَارَّ تَفَاعُلٌ مِنْ الضَّرَرِ .
قَوْله تَعَالَى " يُضَارَّ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تُفَاعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِهَا ، فَإِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ فَاعِلَانِ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ نَهْيَهُمَا عَنْ الضَّرَرِ بِمَا يَكْتُبَانِ بِهِ أَوْ بِمَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ مَفْعُولٌ بِهِمَا ، فَيَرْجِعُ النَّهْيُ إلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ أَلَّا يَضُرَّا بِكَاتِبٍ وَلَا شَهِيدٍ فِي دُعَائِهِ فِي وَقْتِ شُغْلٍ وَلَا بِأَدَائِهِ وَكِتَابَتِهِ مَا سَمِعَ ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتَّابِ الشُّهَدَاءِ يَفْسُقُونَ بِتَحْوِيلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ كَتْمِهَا ، وَإِمَّا مُتَعَامِلٌ يَطْلُبُ مِنْ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَدَعَ شُغْلَهُ لِحَاجَتِهِ أَوْ يُبَدِّلَ لَهُ كِتَابَتَهُ أَوْ شَهَادَتَهُ ؛ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَمْ يُجَوِّزْ الرَّهْنَ إلَّا فِي السَّفَرِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَكَافَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ؛ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبُ الْأَحْوَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فِي الْحَضَرِ وَرَهَنَ وَلَمْ يَكْتُبْ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إنَّمَا يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ غَالِبًا ، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِحَالٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُحْكَمُ لَهُ فِي الْوَثِيقَةِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَلَوْ رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فِعْلًا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَهُ حُكْمًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ الْحُكْمَ إلَّا لِرَهْنٍ مَوْصُوفٍ بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا عُدِمَتْ الصِّفَةُ وَجَبَ أَنْ يُعْدَمَ الْحُكْمُ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا ، لَكِنْ عِنْدَنَا إذَا رَهَنَهُ قَوْلًا وَأَبَى عَنْ الْإِقْبَاضِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ أَنَّ الرَّهْنَ إذَا خَرَجَ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ صَحِيحٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَخْتَصُّ بِمَا ارْتَهَنَ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ : لَا يَكُونُ مَقْبُوضًا إلَّا إنْ كَانَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِذَا صَارَ عِنْدَ الْعَدْلِ فَهُوَ مَقْبُوضٌ لُغَةً مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْعِدْلَ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ جَوَازَ رَهْنِ الْمُشَاعِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ افْتِقَارَ الرَّهْنِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا قَبَضَ الرَّهْنَ لَمْ يَجُزْ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : كَمَا يَجُوزُ رَهْنُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ يَجُوزُ رَهْنُ الدَّيْنِ ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا تَعَامَلَ رَجُلَانِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ فَرَهَنَهُ دَيْنَهُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ قَبَضَهُ قَبْضًا .
وَقَالَ غَيْرُنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ : لَا يَكُونُ قَبْضًا ، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ كَالِئَهَا لِزَوْجِهَا جَازَ ، وَيَكُونُ قَبُولُهُ قَبْضًا ، وَخَالَفَنَا فِيهِ أَيْضًا غَيْرُنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ آكَدُ قَبْضًا مِنْ الْمُعَيَّنِ ؛ وَهَذَا لَا يَخْفَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ قَائِمًا مَقَامَ الشَّاهِدِ ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ ، وَخَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَمَا قُلْنَاهُ يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَعَادَةُ النَّاسِ فِي ارْتِهَانِهِمْ مَا يَكُونُ قَدْرَ الدَّيْنِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ ، فَإِذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ : دَيْنِي مِائَةٌ ، وَقَالَ الرَّاهِنُ : خَمْسُونَ ، صَارَ الرَّهْنُ شَاهِدًا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَهُ كَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ : دَيْنِي مِائَةٌ وَخَمْسُونَ صَارَ مُدَّعِيًا فِي الْخَمْسِينَ .

وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ، وَظَنُّوا بِنَا أَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّمَا نَسْتَوْفِي بِهِ إذَا هَلَكَ ، وَكَانَ مِمَّا يُعَابُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } مَعْنَاهُ إنْ أَسْقَطَ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ ، وَعَوَّلَ عَلَى أَمَانَةِ الْمُعَامِلِ ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ الْأَمَانَةَ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا جَازَ إسْقَاطُهُ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَنَا فِي النِّكَاحِ ، وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : هُوَ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ ، وَتَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ ؛ وَلَا مُنَازَعَةَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ ، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَذْهَبِ ، وَلَا نُبَالِي مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّلِيلِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِشْهَادَ حَزْمٌ ، وَالِائْتِمَانَ وَثِيقَةٌ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُدَايِنِ ، وَمُرُوءَةٌ مِنْ الْمَدِينِ ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدْهُمْ ، فَقَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا قَالَ : فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ .
قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا .
قَالَ : صَدَقْت .
فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
فَخَرَجَ الرَّجُلُ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْت : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْت : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ

وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ .
وَإِنِّي اسْتَوْدَعَتْكهَا .
فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ .
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا زِلْت جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِك فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ قَالَ : هَلْ كُنْت بَعَثْت إلَيَّ شَيْئًا ؟ قَالَ : أُخْبِرُك أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْت بِهِ .
قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْك الَّذِي بَعَثْت فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا } .
وَقَدْ رُوِيَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ : نَسْخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي مِنْ الْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } بِكَسْرِ الْعَيْنِ ؛ نَهْيُهُ الشَّاهِدَ عَنْ أَنْ يَضُرَّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إثْمٌ بِالْقَلْبِ كَمَا لَوْ حَوَّلَهَا وَبَدَّلَهَا لَكَانَ كَذِبًا ، وَهُوَ إثْمٌ بِاللِّسَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : إذَا كَانَ عَلَى الْحَقِّ شُهُودٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِنْ أَدَّاهَا اثْنَانِ وَاجْتَزَأَ بِهِمَا الْحَاكِمُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَزِئْ بِهِمَا تَعَيَّنَ الْمَشْيُ إلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْإِثْبَاتُ ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِدُعَاءِ صَاحِبِهَا ، فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَحْيِ حَقِّي بِأَدَاءِ مَا عِنْدَك لِي مِنْ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَالِ وَحِفْظِهِ ، وَيُعْتَضَدُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ } .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ تِسْعِينَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّفَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِهَا ، فَلَمْ يُحَمِّلْنَا إصْرًا وَلَا كَلَّفَنَا فِي مَشَقَّةٍ أَمْرًا ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ الْبَوْلُ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إلَى وَظَائِفِ عَلَى الْأُمَمِ حَمَلُوهَا ، وَرَفَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اكْتَسَبَ الْقَتْلَ ؛ وَقَالُوا : إنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } تَعَلَّقَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا لَغْوٌ فِي الْأَحْكَامِ ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَغْوًا فِي الْآثَامِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ ، وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِرَفْعِ الْإِثْمِ الثَّابِتِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِبَادِ وَحُقُوقُ النَّاسِ فَثَابِتَةٌ حَسَبَ مَا يُبَيَّنُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ فِيهَا سِتّ وَعِشْرُونَ آيَة الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِ الْآمِرِ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " الْمُشْكِلَيْنِ " الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآيَاتُهُ وَأَخْبَارُهُ وَشُرُوطُهُ وَفَائِدَتِهِ .
وَسَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ : الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْقَادِرُ يَلْزَمُهُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ ؛ وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ ، وَهِيَ فَائِدَةُ الرِّسَالَةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلَهِيَّةِ لِمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ .
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَقَالَتْ الْمُبْتَدِعَةُ : لَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ إلَّا عَدْلٌ ، وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَلْقِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ .
فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } وقَوْله تَعَالَى { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَنَحْوِهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، فَقِيلَ لَهُ : هُمْ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ ، إنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى إتْيَانِهِمْ } .
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيه أَقْبَحُ مِمَّنْ لَا يَأْتِيه عِنْدَ فَاعِلِهِ فَيَبْعُدُ قَبُولُهُ مِنْهُ .
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ أَصْلٌ ، وَتَكُونُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنْ احْتَاجَ إلَى

النَّهْيِ عَنْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِ الضَّرْبَ أَوْ الْقَتْلَ ، فَإِنْ رَجَا زَوَالَهُ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَالَهُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ ؟ وَاَلَّذِي عِنْدَهُ : أَنَّ النِّيَّةَ إذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا يُبَالِي .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ .
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا ، وَتَمَامُهَا فِي شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّه تَعَالَى مَعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ ؟ قُلْنَا : لَمْ نَرَ لِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نَصًّا .
وَعِنْدِي أَنَّ تَخْلِيصَ الْآدَمِيِّ أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ مُمَهَّدٌ فِي مَوْضِعِهِ .
.

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ارْتِفَاعِ الْمَدْعُوِّ إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُخَالِفًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الزَّجْرُ بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالِفِ وَالْمُخَالَفِ .
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } هَذَا عُمُومٌ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَّخِذُ الْكَافِرَ وَلِيًّا فِي نَصْرِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَلَا فِي أَمَانَةٍ وَلَا بِطَانَةٍ .
مِنْ دُونِكُمْ : يَعْنِي مِنْ غَيْرِكُمْ وَسِوَاكُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا } وَقَدْ نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنْ ذِمِّيٍّ كَانَ اسْتَكْتَبَهُ بِالْيَمَنِ وَأَمَرَهُ بِعَزْلِهِ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : يُقَاتِلُ الْمُشْرِكُ فِي مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ لِعَدُوِّهِمْ ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ .
وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ } .
وَأَقُولُ : إنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ ، فَإِنْ خِفْتُمْ مِنْهُمْ فَسَاعِدُوهُمْ وَوَالُوهُمْ وَقُولُوا مَا يَصْرِفُ عَنْكُمْ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذَاهُمْ بِظَاهِرٍ مِنْكُمْ لَا بِاعْتِقَادٍ ؛ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَصِلُوهَا بِالْعَطِيَّةِ ، كَمَا رُوِيَ { أَنَّ أَسْمَاءَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
صِلِي أُمَّكِ } .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الدِّينِ فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ النَّذْرِ : وَهُوَ الْتِزَامُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مِنْ الْأَعْمَالِ قُرْبَةً .
وَلَا يَلْزَمُ نَذْرُ الْمُبَاحِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَبَا إسْرَائِيلَ قَائِمًا : فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَيَصُومَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مُرُوهُ فَلْيَصُمْ وَلْيَقْعُدْ وَلْيَسْتَظِلَّ } ؛ فَأَخْبَرَهُ بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ .
وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَهِيَ سَاقِطَةٌ إجْمَاعًا ؛ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِالْحَمْلِ : اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْحَمْلَ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِوُجُودِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ فِي الْبَطْنِ لِعِلَّةٍ وَحَرَكَةُ خَلْطٍ يَضْطَرِبُ ، وَرِيحٌ يَنْبَعِثُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَلَدٍ ؛ وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْبَطْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالَةٍ ، وَقَدْ يَشْكُلُ الْحَالُ ؛ فَإِنْ فَرَضْنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي كَوْنِهِ حَمْلًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .
وَالثَّانِي : عَقْدٌ مُطْلَقٌ لَا عِوَضِيَّةَ فِيهِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّهُ سَاقِطٌ فِيهِ إجْمَاعًا ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ } .
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا تَضَمَّنَ الْعِوَضَ وَجَبَ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِي حُصُولِ الْفَائِدَةِ الَّتِي بَذَلَ الْمَرْءُ فِيهَا مَالَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ حُصُولُ تِلْكَ الْفَائِدَةِ كَانَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ مِنْ الْعِوَضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهِ مُنْتَفٍ إذْ هُوَ تَبَرُّعٌ مُجَرَّدٌ ؛ فَإِنْ اتَّفَقَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ يَسْتَضِرَّ أَحَدٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ لِعِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ ابْنَتَانِ : إحْدَاهُمَا حِنَّةُ وَالْأُخْرَى يملشقع وَبَنُو مَاثَانَ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ نَسْلِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُحَرَّرُ إلَّا الْغِلْمَانُ ، فَلَمَّا نَذَرَتْ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا عِمْرَانُ : أَرَأَيْتُكِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ أُنْثَى كَيْفَ نَفْعَلُ ؟ فَاهْتَمَّتْ لِذَلِكَ فَقَالَتْ : إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا وَلَدَ لَهَا ، فَلَمَّا حَمَلَتْ نَذَرَتْ إنْ اللَّهُ أَكْمَلَ لَهَا الْحَمْلَ وَوَضَعَتْهُ فَإِنَّهُ حَبْسٌ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : جَعَلَتْهُ نَذْرًا تَفِي بِهِ .
قَالُوا : فَلَمَّا وَضَعَتْهَا رَبَّتْهَا حَتَّى تَرَعْرَعَتْ ، وَحِينَئِذٍ أَرْسَلَتْهَا .
وَقِيلَ : لَفَّتْهَا فِي خِرَقِهَا وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ، وَقَدْ سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، وَأَرْسَلَتْهَا إلَى الْمَسْجِدِ وَفَاءً بِنَذْرِهَا ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ ، وَتَبَرِّيًا مِنْهَا حِينَ حَرَّرَتْهَا لِلَّهِ ، أَيْ خَلَصَتْهَا .
وَالْمُحَرَّرُ وَالْحُرُّ : هُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ امْرَأَةَ عِمْرَانَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى حَمْلِهَا نَذْرٌ لِكَوْنِهَا حُرَّةً ، فَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَمَةً فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَصِحُّ لَهُ نَذْرُ وَلَدِهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ حَالُهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ النَّاذِرُ عَبْدًا لَمْ يَتَقَرَّرْ لَهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ النَّاذِرُ حُرًّا فَوَلَدُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ ؛ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مِثْلُهُ ؛ وَأَيُّ وَجْهٍ لِلنَّذْرِ فِيهِ ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْءَ إنَّمَا يُرِيدُ وَلَدَهُ لِلْأُنْسِ بِهِ وَالِاسْتِبْصَارِ وَالتَّسَلِّي وَالْمُؤَازَرَةِ ؛

فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ أُنْسًا بِهِ وَسُكُونًا إلَيْهِ ، فَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِهِ نَذَرَتْ أَنَّ حَظَّهَا مِنْ الْأُنْسِ بِهِ مَتْرُوكٌ فِيهِ ؛ وَهُوَ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفٌ .
وَهَذَا نَذْرُ الْأَحْرَارِ مِنْ الْأَبْرَارِ ، وَأَرَادَتْ بِهِ مُحَرَّرًا مِنْ جِهَتِي ، مُحَرَّرًا مِنْ رِقِّ الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا .
فَتَقَبَّلْهُ مِنِّي .
وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ لِأُمِّهِ : يَا أُمَّاهُ ؛ ذَرِينِي لِلَّهِ أَتَعَبَّدْ لَهُ وَأَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ .
فَقَالَتْ : نَعَمْ ، فَسَارَ حَتَّى تَبَصَّرَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فَدَقَّ الْبَابَ ، فَقَالَتْ : مَنْ ؟ قَالَ : ابْنُكِ فُلَانٌ .
قَالَتْ : قَدْ تَرَكْنَاكَ لِلَّهِ وَلَا نَعُودُ فِيك .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : ( { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } ) يُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِهِ فِي كَوْنِهَا تَحِيضُ وَلَا تَصْلُحُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لِلْمَسْجِدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِهَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ فَلَا تَصْلُحُ لِمُخَالَطَةِ الرِّجَالِ ؛ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ تَبَرَّأَتْ مِنْهَا ، وَلَعَلَّ الْحِجَابَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَمَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ : { أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمَّ الْمَسْجِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَفِيهِ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ التَّعَلُّقُ بِشَرَائِعِ الْمَاضِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : لَوْ صَحَّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْهَا فِي خِرَقِهَا إلَى الْمَسْجِدِ فَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا لَكَانَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلْأُمِّ أَصْلًا .
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ رِوَايَةُ عُلَمَائِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا حَقٌّ لِلْأُمِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا حَقٌّ لِلْوَلَدِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْقَوْلُ وَالتَّأْوِيلُ فَإِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ فِي الْحَمْلِ ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِوَضٌ بِدَلِيلِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ ، وَالنَّذْرُ مِثْلُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُطَاوَعَةَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَطْءِ لَا تُسَاوِيهِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَعَجَبًا لِغَفْلَتِهِ وَغَفْلَةِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْهُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَاجَّهُ فِيهِ ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ؛ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا ، فَاسْكُتْ وَاصْمُتْ .
ثُمَّ نَقُولُ لِأَنْفُسِنَا : نَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَهِيَ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ ، وَاَلَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَهِيَ عَلَى قَصْدِ الْخُصُوصِ .
وَهَذِهِ الصَّالِحَةُ إنَّمَا قَصَدَتْ بِكَلَامِهَا مَا تَشْهَدُ لَهُ بَيِّنَةُ حَالِهَا وَمَقْطَعُ كَلَامِهَا فَإِنَّهَا نَذَرَتْ خِدْمَةَ الْمَسْجِدِ فِي وَلَدِهَا ، وَرَأَتْهُ أُنْثَى لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوْرَةٌ ؛ فَاعْتَذَرَتْ إلَى رَبِّهَا مِنْ وُجُودِهَا لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَصَدَتْهُ فِيهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الْعُمُومَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْعُمُومَ وَغَيْرَهُ ، وَسَاعَدَنَا عَلَيْهِ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ ، وَحَقَّقْنَاهُ ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَتْ : إنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، فَكَانَتْ الْمُعَاذَةُ هِيَ وَابْنُهَا عِيسَى ، فَبِهِمَا وَقَعَ الْقَبُولُ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْوَلَدِ خَاصَّةً ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَقِب مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَصُورَ هُوَ الْعِنِّينُ وَهُمْ الْأَكْثَرُ ، وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الَّذِي يَكُفُّ عَنْ النِّسَاءِ وَلَا يَأْتِيهِنَّ مَعَ الْقُدْرَةِ ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ ، وَالْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْفَضْلِ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْجِبِلَّةِ فِي الْغَالِبِ .
الثَّانِي : أَنَّ حَصُورًا فَعُولًا ؛ وَبِنَاءُ فَعُولٍ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ الْفَاعِلِينَ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْحَصُورُ : الْبَخِيلُ ، وَالْهَيُوبُ الَّذِي يُحْجِمُ عَنْ الشَّيْءِ ؛ وَالْكَاتِمُ السِّرَّ ؛ وَهَذَا بِنَاءُ فَاعِلٍ .
وَالْحَصُورُ عِنْدَهُمْ : النَّاقَةُ الَّتِي لَا يَخْرُجُ لَبَنُهَا مِنْ ضِيقِ إحْلِيلِهَا .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَدْ جَاءَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ ، تَقُولُ : رَسُولٌ بِمَعْنَى مُرْسَلٍ ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مَا تَقَدَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَحْيَى كَانَ كَافًّا عَنْ النِّسَاءِ عَنْ قُدْرَةٍ فِي شَرْعِهِ ، فَأَمَّا شَرْعُنَا فَالنِّكَاحُ .
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ عَنْ التَّبَتُّلِ قَالَ الرَّاوِي : وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } ، وَلِهَذَا بَالَغَ قَوْمٌ فَقَالُوا : النِّكَاحُ وَاجِبٌ ، وَقَصَرَ آخَرُونَ فَقَالُوا مُبَاحٌ ، وَتَوَسَّطَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : مَنْدُوبٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ النَّاكِحِ وَالزَّمَانِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَسَتَرَوْنَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي كَيْفِيَّةِ فِعْلِهِمْ : وَاخْتَلَفَ فِيهِ نَقْلُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : الْأُولَى : رُوِيَ أَنَّ زَكَرِيَّا قَالَ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ، خَالَتُهَا عِنْدِي .
وَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا ، بِنْتُ عَالِمِنَا ، فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا بِالْأَقْلَامِ ، وَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَلَمِهِ ، وَاتَّفَقُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْأَقْلَامَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي ، فَمَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجْرِ فِي الْمَاءِ فَهُوَ صَاحِبُهَا .
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَجَرَتْ الْأَقْلَامُ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّا } كَانَتْ آيَةً ؛ لِأَنَّهُ نَبِيٌّ تَجْرِي الْآيَاتُ عَلَى يَدِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ يَكْفُلُهَا حَتَّى كَانَ عَامُ مَجَاعَةٍ فَعَجَزَ وَأَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتَرِعُوا ، فَاقْتَرَعُوا ، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنَّهَا لَمَّا نَذَرَتْهَا لِلَّهِ تَخَلَّتْ عَنْهَا حِينَ بَلَغَتْ السَّعْيَ ، وَاسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ قَيِّمٍ ، إذْ لَا يُمْكِنُ انْفِرَادُهَا بِنَفْسِهَا ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَكَانَ مَا كَانَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقُرْعَةُ أَصْلٌ فِي شَرِيعَتِنَا ؛ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا } ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَرَهُ مَالِكٌ شَرْعًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دِينٌ وَمِنْهَاجٌ لَا يَتَعَدَّى ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ سِتَّةً فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَأَقْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً } .
وَهَذَا مِمَّا رَآهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقُرْعَةَ فِي شَأْنِ زَكَرِيَّا وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مِمَّا لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ دُونَ قُرْعَةٍ لَجَازَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْبُدِ فَلَا يَصِحُّ التَّرَاضِي فِي الْحُرِّيَّةِ وَلَا الرِّضَا ؛ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ وَالرِّقَّ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْحُكْمِ دُونَ قُرْعَةٍ فَجَازَتْ ، وَلَا طَرِيقَ لِلتَّرَاضِي فِيهَا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا فَائِدَتُهَا اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ الْخَفِيِّ عِنْدَ التَّشَاحِّ فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ التَّرَاضِي فِيهِ فَبَابٌ آخَرُ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْقُرْعَةَ تَجْرِي فِي مَوْضِعِ التَّرَاضِي ، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا مَعَ التَّرَاضِي فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَ التَّرَاضِي ؟ ثُمَّ يُقَالُ : إنَّهَا لَا تَجْرِي إلَّا عَلَى حُكْمِهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا فِي مَحِلِّهِ ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ بِنْتَ أُخْتِ زَوْجِ زَكَرِيَّا ، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ ، وَقِيلَ مِنْ قَرَابَتِهِ ؛ فَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَمَقْطُوعٌ بِهَا ، وَتَعْيِينُهَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ .
وَهَذَا جَرَى فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي قَبْلَنَا ، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي شَرِيعَتِنَا فَالْخَالَةُ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ بَعْدَ الْجَدَّةِ مِنْ سَائِرِ الْقَرَابَةِ وَالنَّاسِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى بِهَا لِلْخَالَةِ ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد قَالَ : { خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى مَكَّةَ فَقَدِمَ بِابْنَةِ حَمْزَةَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَاسْمُهَا أَمَةُ اللَّهِ ، وَأُمُّهَا سَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ أُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَقَالَ جَعْفَرٌ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ؛ ابْنَةُ عَمِّي ، وَعِنْدِي خَالَتُهَا ، وَإِنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ .
وَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَعِنْدِي ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا .
وَقَالَ زَيْدٌ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ، خَرَجْت إلَيْهَا وَسَافَرْت وَقَدِمْت بِهَا ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ شَيْئًا ، وَقَالَ : أَمَّا الْجَارِيَةُ فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُونُ مَعَ خَالَتِهَا ، وَإِنَّمَا الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذَا إذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أَيِّمًا ، فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَتْ ، وَكَانَ زَوْجُهَا أَجْنَبِيًّا فَلَا حَضَانَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا بِالزَّوْجِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَكَيْفَ بِأُخْتِهَا وَبِأُمِّهَا وَالْبَدَلِ عَنْهَا .
فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا كَمَا لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَةُ زَوْجِ جَعْفَرٍ ؛ لِكَوْنِ جَعْفَرٍ وَلِيًّا لِابْنَةِ حَمْزَةَ وَهِيَ بُنُوَّةُ الْعَمِّ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ كَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ فَتَكُونُ الْخَالَةُ عَلَى هَذَا أَحَقَّ مِنْ الْوَصِيِّ ، وَيَكُونُ ابْنُ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا غَيْرَ قَاطِعٍ لِلْخَالَةِ فِي الْحَضَانَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا

.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ اسْمَ الْكُلِّ وَوَصْفَ قَرَابَتِهِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاظَرَ أَهْلَ نَجْرَانَ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ ، فَأَبَوْا الِانْقِيَادَ وَالْإِسْلَامَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ ، فَدَعَا حِينَئِذٍ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ، ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى إلَى الْمُبَاهَلَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَاهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
فَتَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ : إنَّ الِابْنَ مِنْ الْبِنْتِ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْحَبْسِ ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَلَيْسَ فِيهَا حُجَّةٌ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : إنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ مَجَازٌ ، وَبَيَانُهُ هُنَالِكَ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ تَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا قَالَ لَهُمْ الْيَهُودُ : تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ ، فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدَنَا حَقٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الدِّينَارُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا ، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ ، وَالْقِنْطَارُ أَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا ، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ حَبَّةً مِنْ شَعِيرٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَشْرُوحًا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَائِدَتُهَا النَّهْيُ عَنْ ائْتِمَانِهِمْ عَلَى مَالِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ : فَائِدَتُهَا أَلَّا يُؤْتَمَنُوا عَلَى دِينٍ ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ } فَأَرَادَ أَلَّا يُؤْتَمَنُوا عَلَى نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا فِي الْمَالِ نَصٌّ ، وَفِي الدِّينِ سُنَّةٌ ؛ فَأَفَادَتْ الْمَعْنَيَيْنِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : { مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ } هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الدِّينَارِ بِالنَّصِّ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ ، وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ ، وَهُنَاكَ تَجِدُونَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِلْمُفْلِسِ ؛ وَأَبَاهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَا حُجَّةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مُلَازَمَةَ الْغَرِيمِ الْمَحْكُومِ بِعَدَمِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا ؛ إذْ لَا يُرْجَى مَا عِنْدَهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ هُنَاكَ .
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّ مَعْنَى { لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أَيْ حَافِظًا بِالشَّهَادَةِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَقْسَامُ هَذِهِ الْحَالِ ثَلَاثَةٌ : قِسْمٌ يُؤَدَّى ، وَقِسْمٌ لَا يُؤَدَّى إلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا ، وَقِسْمٌ لَا يُؤَدَّى وَإِنْ دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ ، وَالثَّالِثُ نَادِرٌ ؛ فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } الْمَعْنَى فَعَلُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ ، تَقْدِيرُ كَلَامِهِمْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ظُلْمِ الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ إثْمٌ .
وَقَوْلُهُمْ هَذَا كَذِبٌ صَادِرٌ عَنْ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ مُرَكَّبٍ عَلَى كُفْرٍ ، فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ التَّوْرَاةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الْأَمَانَةُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ فِي الدِّينِ ، وَمِنْ عَظِيمِ قَدْرِهَا أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْجَوَازِ إلَّا مَنْ حَفِظَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ؛ فَتُقَابِلَ مَعْصِيَةً فِيكَ بِمَعْصِيَةٍ فِيهِ ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَكَ أَنْ تَغْدِرَ بِمَنْ غَدَرَ بِكَ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : " بَابُ إثْمِ الْغَادِرِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ " .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ حَلَّ بِكَ فَاحْلُلْ بِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : يَعْنِي أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنْ مَنْ عَرَضَ لَكَ فَاقْتُلْهُ وَحُلَّ أَنْتَ بِهِ أَيْضًا ، مَنْ خَانَكَ فَخُنْهُ .
قُلْنَا : تَحْرِيمُ الْمُحْرِمِ كَانَ بِشَرْطِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَالْأَمَانَةُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ وَنَقُولُ : لَيْسَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا بَأْسٌ .
فَقَالَ لَهُ : هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ : لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ؛ إنَّهُمْ إذَا أَدَّوْا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِهِ ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَمِنْ هَذَا يَخْرُجُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالِاسْتِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَسْت أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَهُ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ قَوْمٌ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ ؛ كَتَبُوا كِتَابًا وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِتُنَفَّقَ سِلْعَتُهُ فِي الْبَيْعِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } الْآيَةَ .
قَالَ : فَجَاءَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ : فِي نَزَلَتْ ، كَانَ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي .
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ } .
فَقُلْت : إذًا يَحْلِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ وَمَا رُوِيَ عَنْ الْيَهُودِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْمَالَ فِي الْبَاطِنِ بِقَضَاءِ الظَّاهِرِ ، إذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ بُطْلَانَهُ .
وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَأَنْتُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَلَا ، فَقَالَ : إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ يُحِلُّ الْفَرْجَ لِمَنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي بُطْلَانُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ ، وَلَكِنْ مُزِجَ مَعَهُمْ الْيَهُودُ ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنْ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ مِثْلَ فِعْلِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : { رَبَّانِيِّينَ } وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفَاصِيلَ مَعْنَى اسْمِ الرَّبِّ فِي " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " ، وَهُوَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مِقْدَارِ بَدَنِهِ مِنْ غِذَاءٍ وَبَلَاءٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } الْمَعْنَى : وَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِالْكِتَابِ ، وَدَرْسَهُمْ لَهُ يُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي شُرِحَتْ فِيهِ لَهُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } الْمَعْنَى : وَلَا آمُرُ الْخَلْقَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا يَعْبُدُونَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ فِعْلًا ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا ، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ وَلَا تُصُوِّرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ أَمْرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوا النَّاسَ عِبَادًا يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ ، وَلَكِنْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ طَاعَتَهُمْ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي ، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ : { اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } وَقَالَ : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ } فَتَعَارَضَتْ .
فَلَوْ تَحَقَّقْنَا التَّارِيخَ لَكَانَ الْآخَرُ رَافِعًا لِلْأَوَّلِ أَوْ مُبَيِّنًا لَهُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي النَّسْخِ .
وَإِذَا جَهِلْنَا التَّارِيخَ وَجَبَ النَّظَرُ فِي دَلَالَةِ التَّرْجِيحِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا الْكَافِي مِنْهُ الْآنَ لَكُمْ تَرْجِيحُ الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ لِتَخْلِيصِ الِاعْتِقَادِ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ لِغَيْرِ اللَّهِ عُبُودِيَّةً أَوْ فِي سِوَاهُ رُبُوبِيَّةً ، فَلَمَّا حَصَلَتْ الْعَقَائِدُ كَانَ الْجَوَازُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِضَمِّ التَّاءِ ، وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَتَّخِذُوهُمْ عِبَادًا بِحَقِّ تَعْلِيمِكُمْ ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْكُمْ أَوْ إشْرَاكٌ فِي نِيَّتِكُمْ ، أَوْ اسْتِعْجَالٌ لِأَجْرِكُمْ ، أَوْ تَبْدِيلٌ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ التَّاءِ .
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ : كَذَلِكَ يَقْتَضِي صِفَةَ الْعِلْمِ وَقِرَاءَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إنَّمَا هُوَ لِلتَّعْلِيمِ لِتَحْرِيمِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَحْرِيرِهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ } مَعْنَاهُ تُصِيبُوا ، يُقَالُ : نَالَنِي خَيْرٌ يَنُولُنِي ، وَأَنَالَنِي خَيْرًا ؛ وَيُقَالُ : نِلْتُهُ أَنُولُهُ مَعْرُوفًا وَنَوَّلْتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } أَيْ لَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِتَقْدِيسِهِ عَنْ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { الْبِرَّ } وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَشَفَيْنَا النَّفْسَ مِنْ إشْكَالِهِ .
قِيلَ : إنَّهُ ثَوَابُ اللَّهِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ الْجَنَّةُ ؛ وَذَلِكَ يَصِلُ الْبِرُّ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { حَتَّى تُنْفِقُوا } الْمَعْنَى حَتَّى تُهْلِكُوا ، يُقَالُ : نَفِقَ إذَا هَلَكَ .
الْمَعْنَى حَتَّى تُقَدِّمُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُلُوبُكُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النَّفَقَةِ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ .
وَقِيلَ : هِيَ سُبُلُ الْخَيْرِ كُلُّهَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاك اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَخٍ ، بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ .
ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، وَقَدْ سَمِعْت مَا قُلْت فِيهَا ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ } فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ : أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ جَاءَ بِفَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ سَبَلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تَصَدَّقْ بِهَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدْ قَبِلْت صَدَقَتَكَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّمَا تَصَدَّقَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَرَابَةِ الْمُصَّدِّقِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْقَرَابَةِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ نَفْسَ الْمُتَصَدِّقِ تَكُونُ بِذَلِكَ أَطْيَبَ وَأَسْلَمَ عَنْ تَطَرُّقِ النَّدَمِ إلَيْهَا .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ نُزُولِهَا ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْلِيلَ لُحُومِ الْإِبِلِ ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِتَحْلِيلِهَا لَهُمْ حَتَّى حَرَّمَهَا إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ .
الْمَعْنَى : إنِّي لَمْ أُحَرِّمْهَا عَلَيْكُمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ إسْرَائِيلُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ عِصَابَةً مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ ؛ أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ؟ فَقَالَ : { أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ سَقَمُهُ فِيهِ فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ إلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا ؟ } فَقَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ : قَالَ : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ فِيهَا } .
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا ، فَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي رَجْمِ الْيَهُودِ فَيَأْبَاهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، وَأَمَّا سَائِرُهَا فَمُحْتَمَلٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ إسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ فَقِيلَ : كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ : كَانَ بِاجْتِهَادٍ ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْيَهُودِ ذَلِكَ .
فَقِيلَ : إنَّ إسْرَائِيلَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِمْ .
وَقِيلَ : اقْتَدَوْا بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَغْيَهُمْ ، وَنَزَلَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ ؛ وَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ كَانَ دِينًا يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ لِتَقْرِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَمَا يُوحَى إلَيْهِ وَيَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ ، كَذَلِكَ يُؤْذَنُ لَهُ وَيَجْتَهِدُ ، وَيَتَعَيَّنُ مُوجِبُ اجْتِهَادِهِ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ .
وَالظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ لَهُ فِي تَحْرِيمِ مَا شَاءَ ، وَلَوْلَا تَقَدَّمَ الْإِذْنُ لَهُ مَا تَسَوَّرَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَتَقَدَّمَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فَحَرَّمَهُ مُجْتَهِدًا فَأَقَرَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَلَ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَوْ جَارِيَتَهُ مَارِيَةُ فَلَمْ يُقِرَّ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ ، وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتِهَادًا أَوْ بِأَمْرٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ الْمَنْعُ ؛ فَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ شَيْءٍ مَعَ اعْتِقَادِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ فَقَدْ حَرَّمَهُ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ ؛ إمَّا بِنَذْرٍ كَمَا فَعَلَ يَعْقُوبُ فِي تَحْرِيمِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا ؛ وَإِمَّا بِيَمِينٍ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ ، أَوْ فِي جَارِيَتِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ بِنَذْرٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي شَرْعِنَا .
وَلَسْنَا نَتَحَقَّقُ كَيْفِيَّةَ تَحْرِيمِ يَعْقُوبَ ؛ هَلْ كَانَ بِنَذْرٍ أَوْ بِيَمِينٍ ؛ فَإِنْ كَانَ بِيَمِينٍ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْيَمِينَ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ رُخْصَةً مِنْهُ لَنَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ .
فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ : حَرَّمْت الْخُبْزَ عَلَى نَفْسِي أَوْ اللَّحْمَ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينًا ؛ فَإِنْ قَالَ : حَرَّمْت أَهْلِي فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَحْرِيمُ الْأَهْلِ إذَا ابْتَدَأَ بِتَحْرِيمِهَا كَمَا يُحَرِّمُهَا بِالطَّلَاقِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَحْرِيمُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا } .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوْ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ؟ قَالَ : { الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ } .
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا ؛ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : كَانَ فِي الْأَرْضِ بَيْتٌ قَبْلَهُ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي بَرَكَتِهِ : قِيلَ : ثَوَابُ الْأَعْمَالِ .
وَقِيلَ : ثَوَابُ الْقَاصِدِ إلَيْهِ .
وَقِيلَ : أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ .
وَقِيلَ : عُزُوفُ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ بِجَمِيعِهِ مَوْجُودٌ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَأَمَّا قَوْلُهُ : { بِبَكَّةِ } فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : بَكَّةُ : مَكَّةُ .
الثَّانِي : بَكَّةُ : الْمَسْجِدُ ، وَمَكَّةُ سَائِرُ الْحَرَمِ .
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ ، أَيْ تَقْطَعُهَا .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَتَادَةُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَكَّ بِهَا النَّاسَ ؛ فَتُصَلِّي النِّسَاءُ بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ ، وَلَا يَكُونُ فِي بَلَدٍ غَيْرِهَا ، وَصُورَةُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِيرُونَ بِالْبَيْتِ فَيَكُونُ وُجُوهُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِقْبَالِ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ صَلَّوْا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْحَجَرُ الْمَعْهُودُ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ آيَةً لِلنَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَادٌ صَلْدٌ وَقَفَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً بَاقِيَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ قَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَنَادَى بِالْحَجِّ عِبَادَ اللَّهِ ، فَجَمَعَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى قَصْدِهِ ، وَكَانَتْ شِرْعَةً مِنْ عَهْدِهِ ، وَحَجَّةً عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ بَعْدِهِ .
وَفِيهِ مِنْ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ خَائِفًا عَادَ آمِنًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنْ الْقَصْدِ إلَى مُعَارَضَتِهِ ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إذَايَتِهِ ، وَجَمَعَهَا عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَتِهِ .
وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ ، وَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ ، وَتَقْرِيرُ نِعَمٍ مُتَعَدِّدَاتٍ ، مَقْصُودُهَا وَفَائِدَتُهَا وَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَرَى مَا فِيهَا مِنْ شَرَفِ الْمُقَدِّمَاتِ لِحُرْمَةِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ بِهِ حَدًّا ، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ عَصَمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } ) فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْنَ لِمَنْ دَخَلَهُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ .
وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا إثْبَاتُ حُكْمٍ مُسْتَقْبَلٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْنَ قَدْ ذَهَبَ ، وَأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا ، وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْقَاضِي .
هَذَا وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَلُ وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يَخْرُجَ ، فَاضْطِرَارُهُ إلَى الْخُرُوجِ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَهُ أَمْنٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَقَعُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فِي الْحَرَمِ ، وَلَا أَمْنَ أَيْضًا مَعَ هَذَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ النَّارِ ؛ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ ، وَلَكِنَّهُ { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ، { وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ } .
قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْمَقْصُودِ ، وَبَيَانًا لِخُصُوصِ الْعُمُومِ ، إنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ صَحِيحًا .
هَذَا ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَعْدِيدَ النِّعَم عَلَى مَنْ كَانَ بِهَا جَاهِلًا وَلَهَا مُنْكِرًا مِنْ الْعَرَبِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا مِنْ أَوْكَدِ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فَقَدْ وَكَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغَ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ ؛ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ ، وَتَقْوِيَةً لِفَرْضِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ مَشْرُوعًا لَدَيْهِمْ ، فَخُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا مَا عَرَفُوا ، وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ ؛ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ شَرْعِ إبْرَاهِيمَ مَا غَيَّرُوا حَيْثُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ وَنَحْنُ الْحُمْسُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْحَجِّ الْقَصْدُ إلَى الْبَيْتِ .
وَلِلْحَجِّ رُكْنَانِ : أَحَدُهُمَا : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ .
وَالثَّانِي : الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ : لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَكُلُّ مَا وَرَاءَهُ نَازِلٌ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَيْنَ الْإِحْرَامُ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؟ قُلْنَا : هُوَ النِّيَّةُ الَّتِي تَلْزَمُ كُلَّ عِبَادَةٍ ، وَتَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ ، وَكُلُّ عَمَلٍ خِلَافُهَا لَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِدَادٌ ؛ فَهِيَ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ ، هَلْ يَكْفِي فِيهِ فِعْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ دَلِيلًا وَمَذْهَبًا .
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لَا ، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ } .
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ ؛ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قَالُوا : { يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَوَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا وَلَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ } .
فَقَالَ مُحْصِنٌ الْأَسَدِيُّ : أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : { أَمَا إنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، ثُمَّ لَوْ تُرِكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ ؟ اُسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ ، إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِامْتِثَالِ الْخِطَابِ إلَّا فَعْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ هِيَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ هِيَ مُسْتَرْسِلَةٌ عَلَى الزَّمَانِ إلَى خَوْفِ الْفَوْتِ ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إلَى حَمْلِهَا عَلَى الْفَوْرِ .
وَيَضْعُفُ عِنْدِي .
وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي مُطْلَقَاتِ ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِفَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ كَمَا تَرَاهُ ؛ وَهُوَ الْحَقُّ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَلَى النَّاسِ } عَامٌّ فِي جَمِيعِهِمْ ، مُسْتَرْسَلٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ الْعُمُومَاتِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ ، خَلَا الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ : إنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ فِيهِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ مُطْلَقِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي تَمَامِ الْآيَةِ : { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْنَعُهُ بِشُغْلِهِ بِحُقُوقِهِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ ؛ وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى حَقِّهِ رِفْقًا بِالْعِبَادِ وَمَصْلَحَةً لَهُمْ .
وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ، وَلَا نَهْرِفُ بِمَا لَا نَعْرِفُ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلَّا الْإِجْمَاعُ .

تَوْجِيهٌ وَتَعْلِيمٌ تَسَاهَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ : إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَجُّ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ ، وَلَمْ يَكُنْ حَجُّ الْكَافِرِ مُعْتَدًّا بِهِ ، فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ضَرْبًا مُؤَبَّدًا لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَاعْلَمُوهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَنَا مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْحَابِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ تَلْزَمُهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ مَعَ كَوْنِهِ رَقِيقًا ، وَلَوْ فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِثْلَهُ ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقَدُّمِ حُقُوقِ السَّيِّدِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ : السَّبِيلُ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ، وَرَفَعُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَهُوَ أَيْضًا يَبْعُدُ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : الِاسْتِطَالَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَكَانَ أَوْلَى فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الطَّرِيقُ ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مَا يَكْسِبُ سُلُوكَهَا ، وَهِيَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَوُجُودُ الْقُوتِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَالرُّكُوبُ زِيَادَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودِ الْقُوتِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : " النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاقَتِهِمْ وَيُسْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ " .
قَالَ أَشْهَبُ : أَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا قَدْرُ طَاقَةِ النَّاسِ ، وَقَدْ يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ ، وَآخَرُ يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى رِجْلَيْهِ ، وَلَا صِفَةَ فِي ذَلِكَ أَبَيْنُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي الْبَيَانِ مِنْهُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَوْ صَحَّ حَدِيثُ الْخُوزِيِّ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ ، وَالْغَالِبُ مِنْهُمْ فِي الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ ، وَخُرُوجُ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ تَوَجَّهَ فَرْضُ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ آفَةٌ ، وَالْآفَاتُ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْغَرِيمُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ ، أَوْ مَنْ كَانَ لَهَا مِنْ النِّسَاءِ زَوْجٌ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ .
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ كَاخْتِلَافِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ فِي الزَّوْجِ أَنَّهُ يَمْنَعُهَا لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا : إنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ ، وَأَمَّا الْأَبَوَانِ فَإِنْ كَانَا مَنَعَاهُ لِأَجْلِ الشَّوْقِ وَالْوَحْشَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ خَوْفَ الضَّيْعَةِ وَعَدَمِ الْعِوَضِ فِي التَّلَطُّفِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْحَجِّ ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَغْصُوبًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ إلَى الْحَجِّ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ إنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ إجْمَاعًا ؛ وَالْمَرِيضُ وَالْمَغْصُوبُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمَا ؛ فَإِنْ رَوَوْا أَنَّ الصَّحِيحَ قَدْ تَضَمَّنَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، حُجِّي عَنْهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى } .
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَأَبَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ ، وَهُمْ فِيهِ أَعْدَلُ قَضِيَّةً ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ دِينًا وَدُنْيَا ، وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمَا جِبِلَّةً وَشَرْعًا فَإِنَّهُ رَأَى مِنْ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا بَيِّنًا ، وَطَوَاعِيَةً ظَاهِرَةً ، وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّ أَبِيهَا ، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ ، وَيَكُونَ عَنْ ثَوَابِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِمَعْزِلٍ ، وَطَاعَتْ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ ؛ فَأَذِنَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ .
وَكَأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنْ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ ، وَالْبَدَنُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَإِنَّ الْمَالَ يَحْتَمِلُهَا فُرُوعِي فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ جِهَةُ الْمَالِ ، وَجَازَتْ فِيهِ النِّيَابَةُ .
وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهَا دَيْنُ عَبْدٍ لَسَعَتْ فِي قَضَائِهِ ،

فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ، إنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهَا تَخْلِيصُهُ مِنْ مَأْثَمِ الدَّيْنِ وَعَارِ الِاقْتِضَاءِ ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْوَى مَا فِي الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا ، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الشَّخْصَ الْمَخْصُوصَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ دَيْنَ اللَّهِ إذَا وَجَبَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ، وَالتَّطَوُّعُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِابْتِدَاءِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِهَا : " إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ " وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ ، وَلَا يَجُوزُ مَا انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا .
يُحَقِّقُهُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِإِجْمَاعٍ ؛ فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ ، وَبِهِ يُبْدَأُ إجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّه تَعَالَى ، فَيَتَعَيَّنُ الْغَرَضُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ ، وَهُوَ تَأْكِيدُ مَا ثَبَتَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْبِرِّ حَيَاةً وَمَوْتًا وَقُدْرَةً وَعَجْزًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ قُوتٌ يَتَزَوَّدُهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إجْمَاعًا ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إجْمَاعًا ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَهَبَ أَبَاهُ مَالًا قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يُجَازِي الْوَالِدَ عَنْ نِعَمِهِ لَا يَبْتَدِئُهُ بِعَطِيَّةٍ .
قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْوَلَدِ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَقُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا ، ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مِنَّةٌ فَفِيهِ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ وَحَقِّ الْأُبُوَّةِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ قَدْ جَزَاهُ وَقَدْ وَفَاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ عَنْ الْأَعْمَى لِإِمْكَانِ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ مَحْمُولًا ؛ فَيَحْصُلُ لَهُ وَصْفُ الِاسْتِطَاعَةِ ، كَمَا يَحْصُلُ لَهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ بِوُجُودِ قَائِدٍ إلَيْهَا ، وَيَلْزَمُ السَّعْيُ لِقَضَائِهَا .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْحَبْلُ : لَفْظٌ لُغَوِيٌّ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ؛ أَعْظَمُهَا السَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ .
وَهُوَ هَاهُنَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ عَهْدُ اللَّهِ ، وَقِيلَ : كِتَابُهُ ، وَقِيلَ : دِينُهُ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ رُؤْيَا الظُّلَّةِ الَّتِي تَنْطِفُ عَسَلًا وَسَمْنًا ، وَفِيهِ قَالَ : { وَرَأَيْت شَيْئًا وَاصِلًا مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ ، وَعَبَّرَ الصِّدِّيقُ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ مَلَكِ الرُّؤْيَا مَثَلًا لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ بِالْحَبْلِ الْوَاصِلِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يُنِيرَانِ بِمِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَهْدَهُ وَدِينَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : التَّفَرُّقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : التَّفَرُّقُ فِي الْعَقَائِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } الثَّانِي : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } ، وَيَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا } الثَّالِثُ : تَرْكُ التَّخْطِئَةِ فِي الْفُرُوعِ وَالتَّبَرِّي فِيهَا ، وَلْيَمْضِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اجْتِهَادِهِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ بِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمٌ ، وَبِدَلِيلِهِ عَامِلٌ ؛ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ } ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ فَأَخَّرَهَا حَتَّى بَلَغَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَمْ يُرِدْ هَذَا مِنَّا يَعْنِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِعْجَالَ فَلَمْ يُعَنِّفْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَشْتِيتِ الْجَمَاعَةِ ؛ فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ فَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ لَهُ إنْ أَصَابَ عَشَرَةَ أُجُورٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : قَوْلُهُ { وَلَا تَفَرَّقُوا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُمْ قَدْ تَفَرَّقَتْ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُتَعَلَّقًا لَمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ أَيْضًا قَدْ تَفَرَّقَتْ ؛ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْزَعَ الْآيَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ لَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ هَذَا الْعَالِمِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : أُمَّةٌ كَلِمَةٌ ذَكَرَ لَهَا عُلَمَاءُ اللِّسَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى ، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ بَلَغَهَا إلَى أَرْبَعِينَ ، مِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الدَّاعِي إلَى الْحَقِّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَمِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ نُصْرَةُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إذَا عَرَفَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ صَلَاحِيَّةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْجِدَالِ ، أَوْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ، خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْعَدَالَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ شُرُوطَ الطَّاعَاتِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ ، وَكُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُطِيعَ ، وَعَلَيْهِ فَرْضٌ فِي دِينِهِ أَنْ يُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ ، وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَبْلَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَرِيبِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ فِي الْبَيَانِ بِالْأَخِيرِ فِي الْفِعْلِ ، وَهُوَ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِاللِّسَانِ وَالْبَيَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْيَدِ .
يَعْنِي أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ مُتَعَاطِيهِ بِنَزْعِهِ وَبِجَذْبِهِ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا بِمُقَاتَلَةٍ وَسِلَاحٍ فَلْيَتْرُكْهُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إلَى السُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ مَخْرَجًا إلَى الْفِتْنَةِ ، وَآيِلًا إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، إلَّا أَنْ يَقْوَى الْمُنْكَرُ ؛ مِثْلُ أَنْ يَرَى عَدُوًّا يَقْتُلُ عَدُوًّا فَيَنْزِعُهُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا يَدْفَعَهُ ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ قَتَلَهُ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُسَلِّمُهُ بِحَالٍ ، وَلْيُخْرِجْ السِّلَاحَ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ فِي التَّغْيِيرِ دَرَجَةٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ؛ وَهِيَ إذَا رَأَى مُسْلِمٌ فَحْلًا يَصُولُ عَلَى مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاتِلِهِ حِينَئِذٍ ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ لَهُ هُوَ الَّذِي صَالَ عَلَيْهِ الْفَحْلُ ، أَوْ مُعِينًا لَهُ مِنْ الْخَلْقِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَدْ قَامَ بِفَرْضٍ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَنَابَ عَنْهُمْ فِيهِ ؛ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَالِكُ الْفَحْلِ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي قَتْلِ الصَّائِلِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ ؟ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وَإِشَارَةٌ لِتَقْدِيمِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ .
وَفِي الْأَثَرِ يُنْمَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا } .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أَوْرَدَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ الْمُنَافِقُونَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُرْتَدُّونَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَهْلُ الْكِتَابِ ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْكُفَّارِ ؛ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ فِي صُلْبِ آدَمَ ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
الْخَامِسُ : رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَأَيُّ كَلَامٍ أَبَيْنُ مِنْ هَذَا ؟ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُمْكِنٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ ؛ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَةَ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ كُفَّارٌ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَرْتِيبُهُمْ ، فَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَنَسْتَقْرِئُ فِيهِمْ الْأَدِلَّةَ ، وَنَحْكُمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَفِيهِمْ نَظَرٌ طَوِيلٌ ؛ .

وَإِذَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِمْ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلَّى عَلَى مَوْتَاهُمْ ، وَلَا تُعَادُ مَرَضَاهُمْ .
قَالَ سَحْنُونٌ : أَدَبًا لَهُمْ .
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : وَهَذِهِ إشَارَةٌ مِنْ سَحْنُونٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَجِبُ قَتْلُهُ ؛ فَإِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ قَتْلَهُ وَجَبَ عَلَيْكَ هِجْرَتُهُ ، فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَلَا تَعُدْهُ فِي مَرَضِهِ ، وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ حَتَّى تُلْجِئَهُ إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ ، وَيَتَأَدَّبَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْخَلْقِ ؛ فَكَأَنَّ سَحْنُونٌ قَالَ : إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ فَأَدِّبْهُ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ : هَلْ تُزَوَّجُ الْقَدَرِيَّةُ ؟ فَقَالَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : يَعْنِي : قَائِمَةً بِالْحَقِّ ، يُرِيدُ قَوْلًا وَفِعْلًا ؛ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ } .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ؛ وَمُفْتَتَحُ الْكَلَامِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .

وَقَوْلُهُ : { لَيْسُوا سَوَاءً } تَمَامُ كَلَامٍ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ بِوَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ ؛ وَهَذِهِ الْخِصَالُ هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، لَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ وَخَاصَّةً فِي اللَّيْلِ وَقْتَ الرَّاحَةِ .
وَقِيلَ : إنَّهَا الصَّلَاةُ مُطْلَقًا .
وَقِيلَ : إنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ .
وَمِنَّا الْمُصَلِّي ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ } .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ } .
وَهَذِهِ فِي الْعَتَمَةِ تَأْكِيدٌ لِلتَّخْصِيصِ وَتَبْيِينٌ لِلتَّفْضِيلِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، حَتَّى نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .
قَالَ أَنَسٌ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا } .
فَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ حَتَّى جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ : لَا تَسْتَضِيئُوا : لَا تُشَاوِرُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ .
وَمَعْنَى لَا تَنْقُشُوا عَرَبِيًّا : لَا تَنْقُشُوا : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ الْحَسَنُ : وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } الْآيَةَ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَسَنَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لَا تَجُوزُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَالِاعْتِرَاضَاتُ وَالِانْفِصَالَاتُ قَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قِيلَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقِيلَ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَالصَّحِيحُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَوَّلُ أَمْرِ الصُّوفِ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ } ، وَكَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ ، فَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى صِفَتِهِ ؛ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ ، وَقَدْ طَرَحُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ مُسَوِّمِينَ بِالصُّوفِ ؛ فَأَمَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَسَوَّمُوا أَنْفُسَهُمْ وَخَيْلَهُمْ بِالصُّوفِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ مَجْزُوزَةً أَذْنَابُ خَيْلِهِمْ وَنَوَاصِيهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الِاشْتِهَارُ بِالْعَلَامَةِ فِي الْحَرْبِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ ، وَهِيَ هَيْئَةٌ بَاهِيَةٌ قُصِدَ بِهَا الْهَيْبَةُ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَالْإِغْلَاظُ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَالتَّحْرِيضُ لِلْمُؤْمِنِينَ .
وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .
وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجَلِيَّاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى لِبَاسِ الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ وَحُسْنِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ لَبِسَ نَعْلًا أَصْفَرَ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ .
وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدِي فَانْظُرْ فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ قَضَى حَاجَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى بَقَرَةٍ صَفْرَاءَ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي جَزِّ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ فَضَعِيفٌ لَمْ يَصِحَّ ؛ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ : { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ تَعْضُدُهُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ لِيَسْتَشِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ وَيَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : شُرْت الدَّابَّةَ أَشُورهَا إذَا رُضْتهَا لِتَسْتَخْرِجَ أَخْلَافَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَاذَا تَقَعُ الْإِشَارَةُ ؟ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِشَارَةُ فِي الْحَرْبِ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَأْيٌ بِقَوْلٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِوَحْيٍ مُطْلَقٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ حِينَ خَطَبَ : { أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي ، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا } يَعْنِي بِقَوْلِهِ " أَبَنُوهُمْ " عَيَّرُوهُمْ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالًا لَهُمْ عَنْ الْوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّعَصُّبِ لَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ إلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ ؛ { فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، مِنْ الْأَوْسِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فِيهِ بِأَمْرِكَ .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ، فَقَالَ لِذَلِكَ الْأَوْسِيِّ : كَذَبْت ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ .
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْأَوْسِيِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوَّلًا ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ : كَذَبْت ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ؛ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا } .
وَكَانَتْ هَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُ لِيَسْتَنَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُشَاوَرَةِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو

عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِيءَ بِالْأَسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى ؟ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً طَوِيلَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَمَا رَأَيْتنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ يَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ .
قَالَ : وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } } قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ عَلَى النَّحْوِ الْأَوَّلِ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ فِي قَرَابَتِهِمْ وَحَالِ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُ بِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ؛ وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَالَ : الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ .
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَأَحَقُّ بِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَقَصْرُهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَى .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : { أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ .
فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ ؟ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ .
قَالَ : فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ ؛ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ } إلَى آخِرِهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهَا ثَلَاثُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ اتَّهَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَغَانِمِ ، وَرُوِيَ أَنَّ قَطِيفَةً حَمْرَاءَ فُقِدَتْ ، فَقَالَ قَوْمٌ : لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا ، وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْمًا غَلُّوا مِنْ الْمَغْنَمِ أَوْ هَمُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيمَا هَمُّوا وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
الثَّالِثُ : نَهَى اللَّهُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْغُلُولِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنْ غَلَّ يَنْصَرِفُ فِي اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : خِيَانَةٌ مُطْلَقَةٌ .
الثَّانِي : فِي الْحِقْدِ ، يُقَالُ فِي الْأَوَّلِ تَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ ، وَفِي الثَّانِي يَغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ خِيَانَةُ الْغَنِيمَةِ ؛ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى خَفَاءٍ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : كَانَ أَصْلُهُ مَنْ خَانَ فِيهِ إذَا أَدْخَلَهُ فِي مَتَاعِهِ فَسَتَرَهُ فِيهِ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ } .
وَفِيهِ تَفْسِيرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِغْلَالَ خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ ، وَالْإِسْلَالِ : السَّرِقَةُ مُطْلَقَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِغْلَالَ وَالْإِسْلَالَ السَّرِقَةُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْإِغْلَالَ خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ وَالْإِسْلَالَ سَرِقَةُ الْخَطْفِ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ ، كَمَا يَفْعَلُ سُودَانُ مَكَّةَ الْيَوْمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْقِرَاءَاتِ : قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ يَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ ، وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ ، وَهُمَا صَحِيحَتَانِ قِرَاءَةً وَمَعْنًى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ : فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّ الْغَيْنِ فَمَعْنَاهُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ فِي مَغْنَمٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ .
وَلَا فِي وَحْيٍ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِظَنِينٍ وَلَا ضَنِينٍ ، أَيْ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ عَلَيْهِ وَلَا بِخَيْلٍ فِيهِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ أَمِينًا حَرِيصًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَخُونُ وَهُوَ يَأْخُذُ مَا أَحَبَّ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ سَهْمُ الصَّفِيِّ ؛ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا أَرَادَ ، ثُمَّ يَأْخُذَ الْخُمُسَ وَتَكُونَ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ كَرَامَةَ أَخْلَاقٍ وَطَهَارَةَ أَعْرَاقٍ ، فَكَيْفَ مَعَ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَعِصْمَةِ الرِّسَالَةِ .
وَمَنْ قَرَأَ يُغَلَّ بِنَصْبِ الْغَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : يُوجَدُ غَالًّا ، كَمَا تَقُولُ : أَحْمَدْتُ فُلَانًا .
الثَّانِي : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا تُلِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَفَسَّرَ بِهَذَا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ .
فَقَالَ : نَعَمْ وَيَقْتُلُ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا ؛ فَإِنْ بَاعَهُ فِي الْعِلْمِ وَالتَّفْسِيرِ لَا يَبُوعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ ، أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ وُجُودًا ، إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ شَرْعًا ، نَعَمْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِمْ فُجُورًا وَتَعَدِّيًا ، وَخَصَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ ، وَلَكِنْ هُوَ أَعْظَمُ حُرْمَةً .
الثَّالِثُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُتَّهَمَ فَإِنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ وَجَاءَهُ فِي صُورَةِ مَلَكٍ ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ ، وَخَصَّصْنَاهُ بِرِسَالَةٍ سَمَّيْنَاهَا بِكِتَابِ " تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ

عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ " وَسَنَذْكُرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ ، وَلَا يُعْلَمُ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا خَانَهُ أَحَدٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى ثَقَلِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : هُوَ فِي النَّارِ } فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غَلَّ عَبَاءَةً .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ : { إنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودٍ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَذَكَرَ الْغُلُولَ وَعَظَّمَهُ ، وَقَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي .
فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْت } الْحَدِيثَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا غَلَّ الرَّجُلُ فِي الْمَغْنَمِ فَوَجَدْنَاهُ أَخَذْنَاهُ مِنْهُ وَأَدَّبْنَاهُ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَلِلْحُسَيْنِ مِنْ التَّابِعِينَ ، حَيْثُ قَالُوا : يُحْرَقُ رَحْلُهُ إلَّا الْحَيَوَانَ وَالسِّلَاحَ .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إلَّا السَّرْجَ ، وَالْإِكَافَ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَ : { إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ .
وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالدَّارَقُطْنِيّ نَحْوَهُ .
قَالَ ابْنُ الْجَارُودِ عَنْ الذُّهْلِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ الْقَطَّانِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَهُ .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَرْكَرَةَ الْمُتَقَدِّمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْرَقَ مَتَاعَهُ .
وَهَذَا أَصَحُّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ إنَّمَا لَمْ يُحْرِقْ رَحْلَ كَرْكَرَةَ ؛ لِأَنَّ كَرْكَرَةَ قَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ ؛ وَالتَّحْرِيقُ إنَّمَا هُوَ زَجْرٌ وَرَدْعٌ ، وَلَا يُرْدَعُ مَنْ مَاتَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُرْدَعُ بِهِ مَنْ بَقِيَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ تُرِكَ ، وَيَعْضُدُهُ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ بِجِنَايَتِهِ لِخِيَانَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَحْرِيمُ الْغُلُولِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمُ الصَّفِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَغْنَمِ مَا شَاءَ ، وَهَذَا رُكْنٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ ، بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الثَّالِثُ : فِي الصَّحِيحِ ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : { أَصَبْت جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ ، وَقُلْت : وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ هَذَا ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَبَسُّمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى حَقًّا مِنْ أَخْذِ الْجِرَابِ وَحَقًّا مِنْ الِاسْتِبْدَادِ بِهِ دُونَ النَّاسِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَمْ يَتَبَسَّمْ مِنْهُ وَلَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إجْمَاعًا كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأُصُولِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَمَنْ غَصَبَ مِنْهَا شَيْئًا أُدِّبَ ، فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَرَأَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا وَكَانَ سَهْمُهُ كَالْمُشْتَرَكِ الْمُعَيَّنِ .
قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ ظَاهِرٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَالِ ، وَقَدْ مَنَعَ بَيْتُ الْمَالِ ، وَقَالَ : لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ يُقْطَعُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ : إنَّ حَظَّهُ فِي الْمَغْنَمِ يُورَثُ عَنْهُ وَحَظَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُورَثُ عَنْهُ ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي الْإِنْصَافِ .

الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ مَانِعُو الزَّكَاةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، بَخِلُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ ؛ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَالْإِيثَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَسُمِّيَ مَنْعُهُ شُحًّا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِرِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتُعَفِّيَ أَثَرَهُ ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ تَقَلَّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا ، فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا تُوَسَّعُ } .
وَهَذَا مِنْ الْأَمْثَالِ الْبَدِيعَةِ ، بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُخْتَارِ الصَّحِيحِ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِمَانِعِهَا ، وَالْوَعِيدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ ؛ وَهَذَا الْوَعِيدُ بِالْعِقَابِ مُفَسَّرٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدَّى زَكَاتُهُ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَأْخُذُهُ بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ : أَنَا مَالُكَ ، أَنَا كَنْزُكَ } ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } إلَى آخِرِهَا .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
أَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ وَاجِبًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ فَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَمَنْعُهُ وَقَطْعُهُ لِمُوجَبِ الشَّرِيعَةِ وَمُبَلِّغِهَا ، وَشَارِحِهَا أَوْلَى بِوُجُوبِ الْعِقَابِ وَتَضْعِيفِهِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ { : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَمُضْطَجِعِينَ عَلَى جُنُوبِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ .
الرَّابِعُ : قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ : الْمَعْنَى قِيَامًا بِحَقِّ الذِّكْرِ وَقُعُودًا عَنْ الدَّعْوَى فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْأَحَادِيثِ الْمُنَاسِبَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ : فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَيَقْرَأُ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْعَشْرَ الْآيَاتِ } .
الثَّانِي : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ { عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ بِهِ بَاسُورٌ ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } .
الثَّالِثُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ .
} الرَّابِعُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةُ } .
الْخَامِسُ : رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذِكْرٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ قَدَرَ صَلَّى قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا ،

فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى جَالِسًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى نَائِمًا عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَرُوِيَ عَلَى ظَهْرِهِ .
وَالصَّحِيحُ الْجَنْبُ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ ، وَمَا وَافَقَ الْحَدِيثَ فِيهِ أَوْلَى ، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْمَسَائِلِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرْحِ أَلْفَاظِهَا : الصَّبْرُ : عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا ، وَالْمُصَابَرَةُ : إدَامَةُ مُخَالَفَتِهَا فِي ذَلِكَ ؛ فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِعُ .
وَالْمُرَابَطَةُ : الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَبْخَلَ فَيَعُودَ إلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْأَقْوَالِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ ، وَصَابِرُوا وَعْدِي لَكُمْ ، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ .
الثَّانِي : اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ ، وَرَابِطُوا الْخَيْلَ .
الثَّالِثُ : مِثْلُهُ إلَّا قَوْلَهُ : رَابِطُوا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ رَابِطُوا الصَّلَوَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ الصَّبْرَ : حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مَكْرُوهِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَالْمُصَابَرَةُ : حَمْلُ مَكْرُوهٍ يَكُونُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا ؛ الْأَوَّلُ كَالْمَرَضِ ، وَالثَّانِي كَالْجِهَادِ .
وَالرِّبَاطُ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَارْتِبَاطُ النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ .
وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ : إسْبَاغُ

الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا } .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوْلَاهُ وَأَفْضَلَهُ فِي نَوْعَيْ الطَّاعَةِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَنْفَعَةِ إلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ ، وَإِلْزَامُ الْمُخْتَصِّ بِالْفَاعِلِ وَهُوَ دُونَهُ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ الْعَقَائِدُ وَالْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفِيضُ مِنْهُ .

سُورَةُ النِّسَاءِ فِيهَا إحْدَى وَسِتُّونَ آيَة الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } الْمَعْنَى : اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَعْصُوهُ ، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا .
وَمَنْ قَرَأَ وَالْأَرْحَامِ فَقَدْ أَكَّدَهَا حَتَّى قَرَنَهَا بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْمِلَّةُ أَنَّ صِلَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَثَبَتَ { أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، صِلِي أُمَّكِ } .
فَلِتَأْكِيدِهَا دَخَلَ الْفَضْلُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ الْكَافِرَةِ ، فَانْتَهَى الْحَالُ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلَى أَنْ يَقُولُوا : إنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَتَوَارَثُونَ ، وَيَعْتِقُونَ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهُمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ ، لِحُرْمَةِ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدًا لِلْبَعْضِيَّةِ ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَمَا بَيْنَهُمْ مِنْ تَعَصُّبَةٍ وَمَا يَجِبُ لِلرَّحِمِ عَلَيْهِمْ مِنْ صِلَةٍ مَعْلُومٌ عَقْلًا مُؤَكَّدٌ شَرْعًا ، لَكِنَّ قَضَاءَ الْمِيرَاثِ قَدْ أَحْكَمْتُهُ السُّنَّةُ وَالشَّرِيعَةُ ، وَبَيَّنَتْ أَعْيَانَ الْوَارِثِينَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ حَظٌّ لَفُصِلَ لَهُمْ ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالْعِتْقِ فَقَدْ نَقَضُوهُ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُعَلِّقُوهُ بِالرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ حَسْبَمَا قَضَى ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا أَنَاطُوهُ بِرَحِمِ الْمَحْرَمِيَّةِ ؛ وَذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّقٌ بِإِشَارَةِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نَكَتَتْهُ أَنَّهُ عُمُومٌ خَصَّصْنَاهُ فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، بِدَلِيلِ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ هُنَالِكَ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ إنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا } مَعْنَاهُ وَأَعْطُوا ، أَيْ مَكِّنُوهُمْ مِنْهَا ، وَاجْعَلُوهَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إجْرَاءُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إلَّا ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ الْكُلِّيَّ وَالِاسْتِبْدَادَ .
الثَّانِي رَفْعُ الْيَدِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ وَالْإِرْشَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ الْيَتَامَى : وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ ، فَإِذَا بَلَغَهُ خَرَجَ عَنْ هَذَا الِاسْمِ ، وَصَارَ فِي جُمْلَةِ الرِّجَالِ .
وَحَقِيقَةُ الْيُتْمِ الِانْفِرَادُ ؛ فَإِنْ رَشَدَ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّظَرِ لَهَا ، وَالْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا ، وَالنَّظَرِ بِوُجُودِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ مِنْهَا زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ وَمَعْنَاهُ مِنْ الْحَجْرِ ، وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي غِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ مُتَمَادٍ عَلَى جَهَالَتِهِ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَجْرِ ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ الِاسْمُ مَجَازًا لِبَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِعَدَمِ الدِّينِ لَا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَدِّلُونَهَا بِأَمْوَالِهِمْ ، وَيَقُولُونَ : اسْمٌ بِاسْمٍ وَرَأْسٌ بِرَأْسٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ مِائَةُ شَاةٍ جِيَادٍ فَيُبَدِّلُونَهَا بِمِائَةِ شَاةٍ هَزْلَى لَهُمْ ، وَيَقُولُونَ : مِائَةٌ بِمِائَةٍ ؛ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى تَأْكُلُوا

تَجْمَعُوا وَتَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ .
وَالْمَعْنَى الَّذِي يَسْلَمُ مَعَهُ اللَّفْظُ مَا قُلْنَا : نُهُوا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى كَأَمْوَالِهِمْ وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهَا بِالْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ اعْتَزَلَ كُلُّ وَلِيٍّ يَتِيمَهُ ، وَأَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى آلَتْ الْحَالُ أَنْ يُصْنَعَ لِلْيَتِيمِ مَعَاشُهُ فَيَأْكُلَهُ ، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ فَسَدَ وَلَمْ يَقْرَبْهُ أَحَدٌ ، فَعَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ ، فَأَرْخَصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْمُخَالَطَةِ قَصْدًا لِلْإِصْلَاحِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنْ كَانَ الْمَعْنَى بِالْآيَةِ الْإِنْفَاقُ فَذَلِكَ يَكُونُ مَا دَامَتْ الْوِلَايَةُ ، وَيَكُونُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَإِنْ كَانَ الْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْكِينُ وَإِسْلَامُ الْمَالِ إلَيْهِ فَذَلِكَ عِنْدَ الرُّشْدِ ، وَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ يَتِيمًا مَجَازًا ؛ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَتِيمًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً أُعْطِيَ مَالَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ .
وَهَذَا بَاطِل ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ الْمُطَلَّقَةَ مَرْدُودَةٌ إلَى الْمُقَيَّدَةِ عِنْدَنَا .
وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا مُنِعَ الْيَتِيمُ مِنْ مَالِهِ هِيَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَيْهِ بِغِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ ؛ فَمَا دَامَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَمِرَّةٍ لَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ ، وَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ زَالَ الْحُكْمُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَتَحْقِيقُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَسَائِلِ ، وَهَبْكُمْ أَنَّا لَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالْحُكْمُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ

سَنَةً لَا وَجْهَ لَهُ ، لَا سِيَّمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَلَا قَوْلٌ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ الْمَعْنَى .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُرْوَةَ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَتْ : " هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالَهَا ، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَلَا يُقْسِطَ لَهَا فِي صَدَاقِهَا ، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ حَتَّى يُقْسِطُوا لَهُنَّ ، وَيُعْطُوهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ .
قَالَ عُرْوَةُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : { وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } } قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِهِمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إنْ كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ " ، وَهَذَا نَصُّ كِتَابَيْ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَشْوِ رِوَايَاتٌ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا هَاهُنَا ، يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ } قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَاهُ أَيْقَنْتُمْ وَعَلِمْتُمْ ؛ وَالْخَوْفُ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الظَّنِّ الَّذِي يَتَرَجَّحُ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ

وَالْعِلْمِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنْ الظَّنِّ لَا مِنْ الْيَقِينِ ؛ التَّقْدِيرُ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّقْصِيرُ فِي الْقِسْطِ لِلْيَتِيمَةِ فَلْيَعْدِلْ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ : وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَوْلِ بِهِ ؛ فَإِنَّ دَلِيلَ خِطَابِ هَذِهِ الْآيَةِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْسِطُ لِلْيَتِيمَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ سِوَاهَا ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ إذَا خَافَ أَلَّا يُقْسِطَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ { فِي الْيَتَامَى } فِي تَجْوِيزِ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ وَتُسْتَأْمَرَ وَيَصِحَّ إذْنُهَا .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَتِنَا إذَا افْتَقَرَتْ أَوْ عَدِمَتْ الصِّيَانَةَ جَازَ إنْكَاحُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ .
وَالْمُخْتَارُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ يَتِيمَةً قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ هِيَ امْرَأَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا يَتِيمَةٌ .
قُلْنَا : الْمُرَادُ بِهِ يَتِيمَةٌ بَالِغَةٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } وَهُوَ اسْمٌ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْكِبَارِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ : { فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فَرَاعَى لَفْظَ النِّسَاءِ ، وَيُحْمَلُ الْيُتْمُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ لِلِاسْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَرَادَ الْبَالِغَةَ لَمَا نَهَى عَنْ حَطِّهَا عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَارُ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ إجْمَاعًا .
قُلْنَا : إنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَصِيٍّ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى اسْتِظْهَارِ الْوَلِيِّ عَلَيْهَا بِالرُّجُولِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ ، فَيَسْتَضْعِفُهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَيَتَزَوَّجُهَا بِمَا شَاءَ ، وَلَا يُمَكِّنُهَا خِلَافَهُ ؛ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ الْوَافِرِ .
وَقَدْ وَفَرَّنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّلْخِيصِ ، وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْمُوَطَّأِ : { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَلَا إذْنَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ : { زَوَّجَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ، فَجَاءَ الْمُغِيرَةُ إلَى أُمِّهَا فَرَغَّبَهَا فِي الْمَالِ فَرَغِبَتْ ، فَقَالَ قُدَامَةُ : أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا ، زَوَّجْتُهَا مِمَّنْ أَعْرِفُ فَضْلَهُ .
فَتَرَافَعُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهَا يَتِيمَةٌ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا } .
قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : تُحْمَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْبَالِغَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَلَيْسَ لِلصَّغِيرَةِ إذْنٌ .
وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي الْجَوَابِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، أَقْوَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْيُتْمِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَةَ لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهَا .
.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ أَوْ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْهَا مِنْ أَبٍ ؛ فَأَمَّا الْوَصِيُّ فَمَنْ دُونَهُ فَلَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَسُنَّتِهَا .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ غَنِيَّةً مِنْ ابْنِ أَخٍ لَهُ فَقِيرٍ ؛ فَاعْتَرَضَتْ أُمُّهَا ؛ فَقَالَ : إنِّي لَأَرَى لَهَا فِي ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا ، فَسَوَّغَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ حَتَّى يُظْهِرَ هُوَ فِي نَظَرِهِ مَا يُسْقِطُ اعْتِرَاضَ الْأُمِّ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ : مَا أَرَى لَهَا فِي ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا ، بِزِيَادَةِ الْأَلْفِ عَلَى النَّفْيِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا بَلَغَتْ الْيَتِيمَةُ وَأَقْسَطَ الْوَلِيُّ فِي الصَّدَاقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَكُونَ هُوَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ ، فَيَكُونُ نَاكِحًا مُنْكِحًا حَتَّى يُقَدِّمَ الْوَلِيُّ مَنْ يَنْكِحُهَا .
وَمَالَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ تَعْدِيدَ النَّاكِحِ وَالْمُنْكِحِ وَالْوَلِيِّ تَعَبُّدٌ ، فَإِذَا اتَّحَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ حِينَ قَالَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } الْحَدِيثُ .
الْجَوَابُ : إنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ لِلتَّعَبُّدِ مَدْخَلًا فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ ارْتِبَاطَ الْعَقْدِ بِالْوَلِيِّ ، فَأَمَّا التَّعَدُّدُ وَالتَّعَبُّدُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا نَظَرَ لَهُ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ إلَى الْعَقْدِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
التَّقْدِيرُ : انْكِحُوا مَنْ حَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ، وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : انْكِحُوا نِكَاحًا طَيِّبًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } قَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرَّجُلِ تِسْعَ نِسْوَةٍ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَثْنَى عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَثُلَاثَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ مَرَّتَيْنِ ، وَرُبَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَعٍ مَرَّتَيْنِ ، فَيَخْرُجُ مِنْ ظَاهِرِهِ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ إبَاحَةُ ثَمَانِي عَشْرَةَ امْرَأَةً : لِأَنَّ مَجْمُوعَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ تِسْعَةٌ ، وَعَضَّدُوا جَهَالَتَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ تَحْتَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ ، وَقَدْ كَانَ تَحْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعٍ ، وَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ تِسْعٍ ، وَلَهُ فِي النِّكَاحِ وَفِي غَيْرِهِ خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ ، بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ .
وَلَوْ قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا لَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ نِكَاحِ التِّسْعِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ وَنِظَامِ الْمَعْنَى فِيهِ : فَلَكُمْ نِكَاحُ أَرْبَعٍ ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَثَلَاثَةً ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَاثْنَتَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ؛ فَنَقْلُ الْعَاجِزِ عَنْ هَذِهِ الرُّتَبِ إلَى مُنْتَهَى قُدْرَتِهِ ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحِلِّ ، وَهِيَ الْأَرْبَعُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تِسْعَ نِسْوَةٍ لَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَانْكِحُوا تِسْعَ نِسْوَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ، وَهَذَا مِنْ رَكِيكِ الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَلِيقُ

بِالْقُرْآنِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرِهِمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِغَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ حِينَ أَسْلَمَ ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ : اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : مِنْ الْبَيِّنِ عَلَى مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي نِكَاحِ أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّهَا خِطَابٌ لِمَنْ وَلِيَ وَمَلَكَ وَتَوَلَّى وَتَوَصَّى ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ الْأَحْرَارِ الْمَالِكِينَ الَّذِينَ يَلُونَ الْأَيْتَامَ تَحْتَ نَظَرِهِمْ ؛ يَنْكِحُ إذَا رَأَى ، وَيَتَوَقَّفُ إذَا أَرَادَ .
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْكِحُ إلَّا اثْنَتَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَفِي مَشْهُورِ قَوْلَيْهِ إنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ فَرْضٌ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمِدُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ ، إذَا فَعَلَ الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَوَجَدَ قَلْبَهُ الْكَرِيمَ السَّلِيمَ يَمِيلُ إلَى عَائِشَةَ : { اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ } يَعْنِي قَلْبَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا صَرْفَ قَلْبِهِ عَنْ ذَلِكَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ ، وَرُبَّمَا فَاتَ الْقُدْرَةَ ؛ وَأَخَذَ الْخَلْقَ بِاعْتِدَادِ الظَّاهِرِ لِتَيَسُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلِ ، فَإِذَا قَدَرَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ وَمِنْ بِنْيَتِهِ عَلَى نِكَاحِ أَرْبَعٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلُ مَالُهُ وَلَا بِنْيَتُهُ فِي الْبَاءَةِ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ إنْ نَالَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ قَعَدَ عَنْهَا هَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ أُخْرَى فَإِنَّهُ إذَا أَمْسَكَ عَنْهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّهُ يَتَوَفَّرُ لِلْأُخْرَى ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ وَتَذْهَبُ الْأُلْفَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا حَقَّ لِلْوَطْءِ فِيهِ وَلَا لِلْقَسْمِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْقَسْمِ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِمِلْكِهِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ .
أَوْ فِي الْقَسْمِ ، وَحَقُّ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْعَدْلِ قَائِمٌ بِوُجُوبِ حَسَنِ الْمِلْكِيَّةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّقِيقِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَلَّا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : أَلَّا تَضِلُّوا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَلَّا تَمِيلُوا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّاسُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي رِسَالَةِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " بِشَيْءٍ لَمْ نَرَ أَنْ نَخْتَصِرَهُ هَاهُنَا : قُلْنَا : أُعْجِبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِكَلَامِهِ هَذَا ، وَقَالُوا : هُوَ حُجَّةٌ لِمَنْزِلَةِ الشَّافِعِيِّ فِي اللُّغَةِ ، وَشُهْرَتِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْفَصَاحَةِ حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ : هُوَ أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ ، مَعَ غَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ ؛ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : فَانْكِحُوا وَاحِدَةً إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ ، فَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْكُمْ كَثْرَةُ الْعِيَالِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ .
وَقَالَ أَصْحَابُهُ : لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَوْلِ هَاهُنَا الْمَيْلَ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ وَقِلَّتِهِنَّ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ إذَا كَثُرْنَ تَكَاثَرَتْ الْحُقُوقُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : كُلُّ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَوْ قِيلَ عَنْهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ فَهُوَ كُلُّهُ جُزْءٌ مِنْ مَالِكٍ ، وَنَغْبَةٌ مِنْ بَحْرِهِ ؛ وَمَالِكٌ أَوْعَى سَمْعًا ، وَأَثْقَبُ فَهْمًا ، وَأَفْصَحَ لِسَانًا ، وَأَبْرَعُ بَيَانًا ، وَأَبْدَعُ وَصْفًا ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مُقَابَلَةُ قَوْلٍ بِقَوْلٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَفَصْلٍ .
وَاَلَّذِي يَكْشِفُ لَكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَحْثُ عَنْ مَعَانِي قَوْلِكَ " عَالَ " لُغَةً حَتَّى إذَا عَرَفْتَهُ رَكَّبْتَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ ، وَحَكَمْتَ بِمَا يَصِحُّ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ سَبْعَةَ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ :

الْمَيْلُ ؛ قَالَ يَعْقُوبُ : عَالَ الرَّجُلُ إذَا مَالَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } وَفِي الْعَيْنِ : الْعَوْلُ : الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ إلَى الْجَوْرِ ، وَعَالَ السَّهْمُ عَنْ الْهَدَفِ : مَالَ عَنْهُ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : إنَّهُ لِعَائِلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَيَنْشُدُ لِأَبِي طَالِبٍ : بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ الثَّانِي : عَالَ : زَادَ .
الثَّالِثُ عَالَ : جَارَ فِي الْحُكْمِ .
قَالَتْ الْخَنْسَاءُ : وَلَيْسَ بِأَوْلَى وَلَكِنَّهُ وَيَكْفِي الْعَشِيرَةَ مَا عَالَهَا الرَّابِعُ : عَالَ : افْتَقَرَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } الْخَامِسُ : عَالَ : أَثْقَلَ ؛ قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى بَيْتِ الْخَنْسَاءِ ، وَكَانَ بِهِ أَقْعُدُ .
السَّادِسُ : قَامَ بِمَؤُونَةِ الْعَائِلِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } " .
السَّابِعُ : عَالَ : غَلَبَ ، وَمِنْهُ عِيلَ صَبْرُهُ ، أَيْ غَلَبَ .
هَذِهِ مَعَانِيهِ السَّبْعَةُ لَيْسَ لَهَا ثَامِنٌ ، وَيُقَالُ : أَعَالَ الرَّجُلُ كَثُرَ عِيَالُهُ ، وَبِنَاءُ " عَالَ " يَتَعَدَّى وَيَلْزَمُ ، وَيَدْخُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُفَصَّلًا بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ شَهِدَ لَكَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى بِمَا قَالَهُ مَالِكٌ ؛ أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { تَعُولُوا } فِعْلٌ ثُلَاثِيٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَيْلِ الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ مَعَانِي " عَوَّلَ " كُلُّهَا ، وَالْفِعْلُ فِي كَثْرَةِ الْعِيَالِ رُبَاعِيٌّ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْآيَةِ ، فَقَدْ ذَهَبَتْ الْفَصَاحَةُ وَلَمْ تَنْفَعْ الضَّادُ الْمَنْطُوقُ بِهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ذَلِكَ أَدْنَى ، أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَنْتَفِيَ الْعَوْلَ يَعْنِي الْمَيْلَ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً عُدِمَ الْمَيْلُ ، وَإِذَا كَانَتْ

ثَلَاثًا فَالْمَيْلُ أَقَلُّ ، وَهَكَذَا فِي اثْنَتَيْنِ ؛ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْخَلْقَ إذَا خَافُوا عَدَمَ الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَيْلِ مَعَ الْيَتَامَى أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْأَجَانِبِ أَرْبَعًا إلَى وَاحِدَةٍ ؛ فَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَقِلَّ الْمَيْلَ فِي الْيَتَامَى وَفِي الْأَعْدَادِ الْمَأْذُونِ فِيهَا ، أَوْ يَنْتَفِيَ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ ، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَلَّا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَنْ الْمُخَاطَبُ بِالْإِيتَاءِ ؟ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ ؛ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ .
وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ وَاحِدَةٌ ؛ إذْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِجُمْلَتِهِ الْأَزْوَاج ؛ فَهُمْ الْمُرَادُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ } فَوَجَبَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْآخِرُ فِيهَا أَوْ مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { نِحْلَةً } وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَطِيَّةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْعِوَضِ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَعْنَاهُ : طِيبُوا نَفْسًا بِالصَّدَاقِ ، كَمَا تَطِيبُونَ بِسَائِرِ النِّحَلِ وَالْهِبَاتِ .
الثَّانِي : مَعْنَاهُ " نِحْلَةً " مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ ؛ فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ وَنَحَلَهَا النِّسَاءَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ " عَطِيَّةً " مِنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَنَاكَحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالشِّغَارِ وَيُخْلُونَ النِّكَاحَ مِنْ الصَّدَاقِ ؛ فَفَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ وَنَحَلَهُ إيَّاهُنَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ انْعَقَدَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ

صَاحِبِهِ ، وَمَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ ، وَالصَّدَاقُ زِيَادَةٌ فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الزَّوَاجِ لِمَا جَعَلَ لَهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ الدَّرَجَةِ ، وَلِأَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ رَسْمِ الْعِوَضِيَّةِ جَازَ إخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنْهُ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِهِ ، ثُمَّ يُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ ، أَوْ يَجِبُ بِالْوَطْءِ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا : لَوْ فَسَدَ الصَّدَاقُ لَمَا تَعَدَّى فَسَادُهُ إلَى النِّكَاحِ ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِفَسْخِهِ لَمَّا كَانَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى عَقْدِهِ وَصِلَةً فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ طَابَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسًا بَعْدَ وُجُوبِهِ بِهِبَتِهِ لِلزَّوْجِ وَحَطَّهُ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ ، وَإِنْ أَبَتْ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا فِيهِ ، كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الصَّدَاقَ عِوَضًا ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى سَائِرَ أَعْوَاضِ الْمُعَامَلَاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } فَسَمَّاهُ أَجْرًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النِّحَلِ إلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ .
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَتَمَتَّعُ بِصَاحِبِهِ وَيُقَابِلُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَأَنَّ الصَّدَاقَ زِيَادَةٌ فِيهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ وَجَبَ الصَّدَاقُ عَلَى الزَّوْجِ لِيَمْلِكَ بِهِ السَّلْطَنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَيَنْزِلَ مَعَهَا مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ مَعَ الْمَمْلُوكِ فِيمَا بَذَلَ مِنْ الْعِوَضِ فِيهِ ، فَتَكُونَ مَنْفَعَتُهَا بِذَلِكَ لَهُ فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تَحُجُّ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تُفَارِقُ مَنْزِلَهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِمَالِهَا كُلِّهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهَا مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ ، فَمَا ظَنُّكَ بِبَدَنِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : يَفْسُدُ النِّكَاحُ لِفَسَادِهِ ، فَيُفْسَخُ قَبْلَ وَبَعْدَ .
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ ،

لِمَا فَاتَ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَمَضَى مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ .
وَأَمَّا طِيبُ نَفْسِ الْمَرْأَةِ بِهِ إنْ كَانَتْ مَالِكَةً فَصَحِيحٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ .
وَأَمَّا الْبِكْرُ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا لَهَا ، كَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ الصَّغِيرَةُ عِنْدَهُمْ وَالْمَجْنُونَةُ وَالْأَمَةُ .
وَإِنْ كُنَّ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، وَلَكِنْ رَاعَى قِيَامَ الرُّشْدِ ، وَدَلِيلُ التَّمَلُّكِ لِلْمَالِ دُونَ ظَاهِرِ الْعُمُومِ فِي الزَّوْجَاتِ ، كَذَلِكَ فَعَلْنَا نَحْنُ فِي الْبِكْرِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ قُصُورِهَا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهَا فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ ، وَفِي الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ النُّكَتِ كِفَايَةٌ لِلَبِيبِ الْمُنْصِفِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَالِكَةَ لِأَمْرِ نَفْسِهَا إذَا وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا نَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِيهِ ، إلَّا أَنَّ شُرَيْحًا رَأَى الرُّجُوعَ لَهَا فِيهِ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا } وَإِذَا قَامَتْ طَالِبَةً لَهُ لَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَابَتْ وَقَدْ أَكَلَ ، فَلَا كَلَامَ لَهَا ؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ صُورَةَ الْأَكْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِحْلَالِ وَالِاسْتِحْلَالِ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي السَّفَهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الصَّغِيرَةُ وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُجَرَّبْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ السَّفَهَ صِفَةُ ذَمٍّ ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقَّانِ ذَمًّا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِنُقْصَانِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ مَوْصُوفٌ بِالْغِرَارَةِ وَالنَّقْصِ ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمَا ، لَكِنَّهُمَا لَا يُلَامَانِ عَلَى ذَلِكَ ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ إيتَاءِ الْمَالِ إلَيْهِمْ ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْهُ ، وَجَعْلِهِ فِي أَيْدِيهِمْ ؛ وَيَجُوزُ هِبَةُ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَيَكُونُ لِلسُّفَهَاءِ مِلْكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَلَيْهِ يَدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَمْوَالَكُمْ } اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الرَّجُلِ أَوْ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤْتِيَ مَالَهُ سُفَهَاءَ أَوْلَادِهِ ؛ فَيُضَيِّعُونَهُ وَيَرْجِعُونَ عِيَالًا عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ إيتَاءِ السُّفَهَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِضَافَتِهَا إلَى الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ ، تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ ، وَتَخْرُجُ عَنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } مَعْنَاهُ : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ؛ فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ فَيَكُونُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أُعْطِيَ الْمَالُ سَفِيهًا فَأَفْسَدَهُ رَجَعَ النُّقْصَانُ إلَى الْكُلِّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمِيعُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ ؛ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالتَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ اشْتَرَاك الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ الْآبَاءَ ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } الْمَعْنَى : لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الْحِرْمَانِ وَجَفَاءِ الْقَوْلِ لَهُمْ ، وَلَكِنْ حَسِّنُوا لَهُمْ الْكَلَامَ ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِوَلِيِّهِ : أَنَا أَنْظُرُ إلَيْكَ ، وَهَذَا الِاحْتِيَاطُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَيْكَ .
وَيَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ : مَالِي إلَيْكَ مَصِيرُهُ ، وَأَنْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَاحِبُهُ إذَا مَلَكْتُمْ رُشْدَكُمْ وَعَرَفْتُمْ تَصَرُّفَكُمْ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا } فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الِابْتِلَاءُ هُنَا الِاخْتِبَارُ ، لِتَحْصُلَ مَعْرِفَةُ مَا غَابَ مِنْ عِلْمِ الْعَاقِبَةِ أَوْ الْبَاطِنِ عَنْ الطَّالِبِ لِذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْيَتَامَى } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْيَتَامَى : وَهُوَ أَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَمَصْلَحَتِهِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبٌ يَحُوطُهُ ، أَوْ لَا أَبَ لَهُ ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ فَمَا عِنْدَهُ مِنْ غَلَبَةِ الْحُنُوِّ وَعَظِيمِ الشَّفَقَةِ يُغْنِي عَنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ وَالِاهْتِبَالِ بِأَمْرِهِ .
فَأَمَّا الَّذِي لَا أَبَ لَهُ فَخُصَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ ، وَإِلَّا فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْأَبُ بِوَلَدِهِ الصِّغَارِ أَوْ الضُّعَفَاءِ فَإِنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ وَيَخْتَبِرُ أَحْوَالَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الِابْتِلَاءِ : وَهُوَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَأَمَّلُ أَخْلَاقَ يَتِيمِهِ ، وَيَسْتَمِعُ إلَى أَغْرَاضِهِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِنَجَابَتِهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ ، وَضَبْطِ مَالِهِ ، أَوْ الْإِهْمَالُ لِذَلِكَ ؛ فَإِذَا تَوَسَّمَ الْخَيْرَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَهُوَ الثَّانِي ، وَيَكُونُ يَسِيرًا ، وَيُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ؛ فَإِنْ نَمَّاهُ وَأَحْسَنَ النَّظَرَ فِيهِ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ ، فَلْيُسْلِمْ إلَيْهِ مَالَهُ جَمِيعَهُ ، وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إمْسَاكُ مَالِهِ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {

حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } يَعْنِي : الْقُدْرَةَ عَلَى الْوَطْءِ ، وَذَلِكَ فِي الذُّكُورِ بِالِاحْتِلَامِ ، فَإِنْ عَدِمَ فَالسِّنُّ ، وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي رِوَايَةٍ ، وَثَمَانِي عَشْرَةَ فِي أُخْرَى .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَ عُمَرَ فِي أُحُدٍ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَجَوَّزَهُ فِي الْخَنْدَقِ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً } ، وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى إطَاقَةِ الْقِتَالِ لَا إلَى الِاحْتِلَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا فَكُلُّ عَدَدٍ مِنْ السِّنِينَ يُذْكَرُ فَإِنَّهُ دَعْوَى ، وَالسِّنُّ الَّتِي اعْتَبَرَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى مِنْ سِنٍّ لَمْ يَعْتَبِرْهَا ، وَلَا قَامَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْبَاتَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ فَمَنْ عَذِيرِي مِمَّنْ يَتْرُكُ أَمْرَيْنِ اعْتَبَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَأَوَّلُهُ وَيَعْتَبِرُ مَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا ، وَلَا جَعَلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ نَظَرًا .
وَأَمَّا الْإِنَاثُ فَلَا بُدَّ فِي شَرْطِ اخْتِيَارِهِنَّ مِنْ وُجُودِ نَفْسِ الْوَطْءِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ الِابْتِلَاءُ فِي الرُّشْدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : وَجْهُ اخْتِيَارِ الرُّشْدِ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْبُلُوغُ إلَى الْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَسْبَمَا رَآهُ مَالِكٌ قَدْ قَرَّرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ نُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّكَرَ بِتَصَرُّفِهِ وَمُلَاقَاتِهِ لِلنَّاسِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إلَى بُلُوغِهِ يَحْصُلُ بِهِ الِاخْتِبَارُ ، وَيَكْمُلُ عَقْلُهُ بِالْبُلُوغِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْغَرَضُ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَبِكَوْنِهَا مَحْجُوبَةً لَا تُعَانِي الْأُمُورَ ، وَلَا تُخَالِطَ ، وَلَا تَبْرُزُ لِأَجْلِ حَيَاءِ الْبَكَارَةِ وُقِفَ

فِيهَا عَلَى وُجُودِ النِّكَاحِ ، فَبِهِ تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ كُلُّهَا .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ فَيَقْتَصِرَ حَتَّى يُؤْمَنَ أَمْرُهُ ، وَلِأَبِيهِ تَجْدِيدُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ إنْ رَأَى خَلَلًا مِنْهُ .
وَأَمَّا الْأُنْثَى فَلَا بُدَّ بَعْدَ دُخُولِ زَوْجِهَا مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ عَلَيْهَا تُمَارِسُ فِيهَا الْأَحْوَالَ ، وَلَيْسَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ .
وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا فِي تَحْدِيدِهِ أَقْوَالًا عَدِيدَةً ؛ مِنْهَا الْخَمْسَةُ الْأَعْوَامِ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ فِي ذَاتِ الْأَبِ ، وَجَعَلُوهُ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا وَلَا وَصِيَّ عَلَيْهَا عَامًا وَاحِدًا بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَجَعَلُوهُ فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهَا مُؤَبَّدًا حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهَا .
وَتَحْدِيدُ الْأَعْوَامِ فِي ذَاتِ الْأَبِ عَسِيرٌ ، وَأَعْسَرُ مِنْهُ تَحْدِيدُ الْعَامِ فِي الْيَتِيمَةِ ، وَأَمَّا تَمَادِي الْحَجْرِ فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ رُشْدُهَا فَيُخْرِجَهَا الْوَصِيُّ مِنْهُ أَوْ يُخْرِجَهَا الْحُكْمُ مِنْهُ فَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا سُكُوتُ الْأَبِ عَنْ ابْنَتِهِ فَدَلِيلٌ عَلَى إمْضَائِهِ لِفِعْلِهَا ، فَتَخْرُجُ دُونَ حُكْمٍ بِمُرُورِ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ يَحْصُلُ فِيهِ الِاخْتِبَارُ ؛ وَتَقْدِيرُهُ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْوَلِيِّ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ ، وَاخْتِلَافٌ كَثِيرٌ مَوْضِعُهُ كُتُبُ الْمَسَائِلِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ إينَاسِ الرُّشْدِ ؛ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ إينَاسُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الرَّاشِدِ فَاعْرِفْهُ ، وَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ ، وَاجْتَنِبْ التَّحَكُّمَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَادْفَعُوا } دَفْعُ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إينَاسُ الرُّشْدِ .
وَالثَّانِي : بُلُوغُ الْحُلُمِ .
فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَيْهِ ، كَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ ؛ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامَ أَوْ حَاضَتْ الْجَارِيَةُ وَلَمْ يُؤْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيهِ بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ وَلَا هِبَةٌ وَلَا عِتْقٌ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : حَقِيقَةُ الرُّشْدِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ ، وَضَبْطُ الْمَالِ ؛ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : إصْلَاحُ الدُّنْيَا وَالْمَعْرِفَةُ بِوُجُوهِ أَخْذِ الْمَالِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْحِفْظِ لَهُ عَنْ التَّبْذِيرِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّالِثُ : بُلُوغُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَعَوَّلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوثَقُ عَلَى دِينِهِ فَكَيْف يُؤْتَمَنُ عَلَى مَالِهِ ، كَمَا أَنَّ الْفَاسِقَ لَمَّا لَمْ يُوثَقْ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ .
قُلْنَا لَهُ : الْعِيَانُ يَرُدُّ هَذَا ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ الْمُتَهَتِّكَ فِي الْمَعَاصِي حَافِظًا لِمَالِهِ ، فَإِنَّ غَرَضَ الْحِفْظَيْنِ مُخْتَلِفٌ ؛ أَمَّا غَرَضُ الدِّينِ فَخَوْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَأَمَّا غَرَضُ الدُّنْيَا فَخَوْفُ فَوَاتِ الْحَوَائِجِ وَالْمَقَاصِدِ وَحِرْمَانِ اللَّذَّاتِ الَّتِي تَنَالُ بِهِ ؛ وَيُخَالِفُ هَذَا الْفَاسِقُ ؛ فَإِنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَةٌ وَالْفَاسِقُ مَحْطُوطُ الْمَنْزِلَةِ شَرْعًا .
وَعَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً صَلُحَ أَنْ يَكُونَ جَدًّا فَيَقْبُحُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ .
قُلْنَا : هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جَدًّا وَلَمْ يَكُنْ ذَا جَدٍّ فَمَاذَا يَنْفَعُهُ جَدُّ النَّسَبِ وَجَدُّ الْبَخْتِ فَائِتٌ ؟ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ الرَّجُلَ لِيَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَنْبُتَ لِحْيَتُهُ لِيَشِيبَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْإِعْطَاءِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَأَيْت جَدَّةً لَهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الرِّجَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا سَلَّمَ الْمَالَ إلَيْهِ بِوَجْهِ الرُّشْدِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ بِظُهُورِ تَبْذِيرٍ وَقِلَّةِ تَدْبِيرٍ عَادَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَعُودُ ؛ لِأَنَّهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ بِدَلِيلِ جَوَازِ إقْرَارِهِ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله

تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } وَقَالَ : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا سَفِيهًا أَوْ يَطْرَأَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ اشْتَرَى ضَيْعَةً بِسِتِّينَ أَلْفًا ، فَقَالَ عُثْمَانُ : مَا يَسُرّنِي أَنَّهَا لِي بِنَعْلِي ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَلَا تَأْخُذُ عَلَى ابْنِ أَخِيكَ وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ فِعْلَ كَذَا .
فَجَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا شَرِيكُهُ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : كَيْف أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
فَهَذَانِ خَلِيفَتَانِ قَدْ نَظَرَا فِي هَذَا وَعَزَمَا عَلَى فِعْلِهِ لَوْلَا ظُهُورُ السَّدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } إسْرَافًا : يَعْنِي مُجَاوَزَةً مِنْ أَمْوَالِكُمْ الَّتِي تَنْبَغِي لَكُمْ إلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ .
وَالْإِسْرَافُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ إلَى الْمَحْظُورِ .
وَبِدَارًا : يَعْنِي مُبَادَرَةً أَنْ يَكْبَرُوا ، وَاسْتِبَاقًا لِمَعْرِفَتِهِمْ لِمَصَالِحِهِمْ ، وَاسْتِئْثَارًا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقُبِضَتْ عَنْهَا أَيْدِيهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا قَوْلٌ ، وَلَا نَفَذَ لَهُمْ فِيهَا عَقْدٌ وَلَا عَهْدٌ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُهُمْ وَلَا نَذْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا قُبِضَتْ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا الصِّيَانَةُ لَهَا عَنْ تَبْذِيرِهِمْ وَالْحِفْظُ لَهَا إلَى وَقْتِ مَعْرِفَتِهِمْ وَتَبَصُّرِهِمْ ؛ فَلَوْ جَازَ لَهُمْ فِيهَا بَيْعٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ عَهْدٌ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْمَنْعِ لَهُمْ عَنْهَا ، وَسَقَطَ مَقْصُودُ حِفْظِهَا عَلَيْهِمْ .
فَأَمَّا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ تَمَكَّنُوا مِنْهُمَا فَكَلَامُهُمْ نَافِذٌ فِيهِمَا ، وَيَنْفُذُ طَلَاقُ الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فِعْلًا فَيَنْفُذُ الْقَوْلُ فِيهِمَا شَرْعًا .
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ فِي الْحُجَّةِ لِإِنْفَاذِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا كَانَ الِاخْتِبَارُ إلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ ، وَقُلْنَا : إنَّهُ فِي ذَاتِ الْأَبِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ، وَفِي الْيَتِيمَةِ سِتَّةٌ فَمَا عَمِلْنَا فِي أَثْنَاءِ السِّتَّةِ أَوْ السَّبْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّدِّ وَمَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : مَا عَمِلْتَ فِي السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّدِّ ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّدَادُ ، وَمَا عَمِلْتَ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِمْضَاءِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّفَهُ .
وَلَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ

فِي زَمَانِنَا فِي مَحْجُورَةٍ أَرَادَتْ نِحْلَةَ ابْنَتَهَا بِمَالٍ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمَحْجُورِ ، وَقُلْنَا نَحْنُ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذَا ؛ وَمَنْ نَظَرَ لِوَلَدِهِ وَاهْتَبَلَ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالرُّشْدِ لَهُ وَلِنَفْسِهِ ، فَوَفَّقَ اللَّهُ مُتَوَلِّي الْحُكْمِ يَوْمَئِذٍ وَأَمْضَى النِّحْلَةَ عَلَى مَا أَفْتَيْنَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا بِحَالٍ ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } وَاخْتَارَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَاحْتَجَّ بِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ بِقَدْرِ فَقْرِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ غِنَاهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ فِيهِ شَيْءٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيُّ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَفَّ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمَعْرُوفَ شُرْبُهُ اللَّبَنَ وَرُكُوبُهُ الظَّهْرَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي حَلْبٍ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَهُوَ بَعِيدٌ ، لَا أَرْضَاهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } وَهُوَ الْجَائِزُ الْحَسَنُ ؛ وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } فَكَيْف يَنْسَخُ الظُّلْمُ الْمَعْرُوفَ ؟ بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ فِي التَّجْوِيزِ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ مُغَايِرٌ لَهُ ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُبَاحُ غَيْرَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَصِحَّ دَعْوَى نَسْخٍ فِيهِ ؛ وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ فَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إنْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا إنَّمَا يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ فَسَقَطَ هَذَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَلِيَّ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَفَّ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ فَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ ؛ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا أَنَا فِي بَيْتِ الْمَالِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت تَرَكْت ، وَإِنْ احْتَجْت أَكَلْت ؛ وَبِهِ أَقُولُ .
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ اللَّبَنِ ، وَمِثْلُهُ التَّمْرُ ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : اشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ لِلْحَلْبِ ؛ وَلِأَنَّ شُرْبَ اللَّبَنِ مِنْ الضَّرْعِ ؛ وَأَكْلَ التَّمْرِ مِنْ الْجُذُوعِ أَمْرٌ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ الْخَلْقِ مُتَسَامَحٌ فِيهِ .
فَإِنْ أَكَلَ هَلْ يَقْضِي ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ أَكَلْت قَضَيْت .
وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
فَأَمَّا مَنْ نَفَى الْقَضَاءَ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْأَكْلَ لَهُ ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ عَلَيْهِ ؛ فَجَرَى مَجْرَى الْأُجْرَةَ .
وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } فَمَنَعَ مِنْهُ ، فَإِنْ فَعَلَ قَضَى .
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، أَيْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَيَقْضِي كَمَا يَقْضِي الْمُضْطَرُّ إلَى الْمَالِ فِي الْمَخْمَصَةِ .
قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ .
الْمَعْنَى : فَإِذَا رَدَدْتُمْ مَا أَكَلْتُمْ فَأَشْهِدُوا إذَا غَرِمْتُمْ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ ؛ فَيَتَعَيَّنُ بِهِ الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ حَقُّ النَّظَرِ ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو

حَنِيفَةَ : يُقَارِضُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَيَأْكُلُ حَظَّهُ مِنْ الرِّبْحِ ، فَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْ صَمِيمِ الْمَالِ بِمِقْدَارِ النَّظَرِ ؛ هَذَا إذَا كَانَ فَقِيرًا ؛ أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالْعِفَّةِ وَالْكَفِّ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُ عُمَرَ : " أَنَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت تَرَكْت " أَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؟ كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ إنْ كَانَ غَنِيًّا الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ : " أَنَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَالْوَصِيِّ ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بِوَرَعِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْوَصِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْخُلَفَاءُ وَالْوُلَاةُ وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِنَازِلِهِمْ وَمُنْتَابِهِمْ ؛ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَفْعَلُونَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ ، فَكَيْف تَجِبُ الْأُجْرَةُ لَهُمْ ؛ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ ، وَالْفَرْضِيَّةُ تَنْفِي الْأُجْرَةَ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ عَمَلًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالسُّعَاةِ وَالْمُعَلِّمِينَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : مَنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا كُلِّهِ ؟ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ الْأَيْتَامُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ : [ الْأَوَّلُ ] : يَتِيمٌ مَعْهُودٌ بِهِ ، كَقَوْلِ سَعْدٍ : هُوَ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إلَيَّ فِيهِ .
الثَّانِي : مَكْفُولٌ بِقَرَابَةٍ أَوْ جِوَارٍ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكَافِلَ لَهُ نَاظِرٌ كَمَا لَوْ وَصَّى إلَيْهِ الْأَبُ ، إلَّا أَنَّ الْكَافِلَ نَاظِرٌ فِي حِفْظِ الْمَوْجُودِ ، وَالْمَعْهُودُ إلَيْهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ عَرِيًّا عَنْ كَافِلٍ وَوَصِيٍّ فَالْمُخَاطَبُ وَلِيُّ الْأَوْلِيَاءِ ، وَهُوَ السُّلْطَانُ ؛ فَهُوَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ، وَهُوَ وَلِيٌّ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ

: يَا مَنْ إلَيْهِ يَتِيمٌ بِكَفَالَةٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ ، افْعَلْ كَذَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ وَالْكَافِلِ أَنْ يَحْفَظَ الصَّبِيَّ فِي بَدَنِهِ وَمَالِهِ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِابْتِلَاءُ إلَّا بِذَلِكَ ، فَالْمَالُ يَحْفَظُهُ بِضَبْطِهِ وَالْبَدَنُ يَحْفَظُهُ بِأَدَبِهِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ فِي حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَالِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَأَضْرِبُهُ ؟ قَالَ : مَا كُنْت ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ } .
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُسْنَدًا فَلَيْسَ يَجِدُ عَنْهُ أَحَدٌ مُلْتَحَدًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِصْلَاحُ ، وَإِصْلَاحُ الْبَدَنِ أَوْكَدُ مِنْ إصْلَاحِ الْمَالِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُ الصَّلَاةَ ، وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا ، وَيَكْفِهِ عَنْ الْحَرَامِ بِالْكَهْرِ وَالْقَهْرِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ تَنْبِيهًا عَلَى التَّحْصِينِ وَإِرْشَادًا إلَى نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ ؛ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَالٍ قُبِضَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِإِشْهَادٍ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى دَفْعِهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وَهُوَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ ، فَلَوْ ضَاعَ قَبْلَ قَوْلِهِ ، فَإِذَا قَالَ دَفَعْت لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِالْإِشْهَادِ ؛ لِأَنَّ الضَّيَاعَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ ضَيَاعِهِ ، فَلَا يُكَلَّفُ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ وَالْبَيِّنَةُ يَقْدِرُ أَنْ يُقِيمَهَا حَالَ الدَّفْعِ فَتَفْرِيطُهُ فِيهَا مُوجِبٌ عَلَيْهِ الضَّمَانَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْوَدِيعَةِ مِثْلَهُ ، وَهِيَ عِنْدَنَا مَحْمُولَةٌ وَنَظِيرَةٌ لَهُ .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَا : إنَّهَا أَمَانَةٌ ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
قُلْنَا : لَوْ رَضِيَ أَمَانَتَهُ بِالرَّدِّ مَا كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالْعَقْدِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ قَتَادَةُ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ الْمِيرَاثَ وَيَخُصُّونَ بِهِ الرِّجَالَ ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا وَقَرَابَةً كِبَارًا اسْتَبَدَّ بِالْمَالِ الْقَرَابَةُ الْكِبَارُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَاتَ وَتَرَكَ وَلَدًا أَصَاغِرَ وَأَخًا كَبِيرًا ، فَاسْتَبَدَّ بِمَالِهِ ، فَرَفَعَ أَمَرَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ الْعَمُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الْوَلَدَ صَغِيرٌ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَكْسِبُ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
وَكَانَ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ تَصَرُّفًا بِجَهْلٍ عَظِيمٍ ؛ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ الصِّغَارَ الضِّعَافَ كَانُوا أَحَقَّ بِالْمَالِ مِنْ الْقَوِيِّ ؛ فَعَكَسُوا الْحُكْمَ وَأَبْطَلُوا الْحِكْمَةَ ؛ فَضَلُّوا بِأَهْوَائِهِمْ وَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ : إحْدَاهَا : بَيَانُ عِلَّةِ الْمِيرَاثِ ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ .
الثَّانِي : عُمُومُ الْقَرَابَةِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ .
الثَّالِثُ : إجْمَالُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ خُصُوصَ الْقَرَابَةِ وَمِقْدَارَ النَّصِيبِ ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْطِئَةً لِلْحُكْمِ وَإِبْطَالًا لِذَلِكَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ ، حَتَّى وَقَعَ الْبَيَانُ الشَّافِي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سِيرَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي إبْطَالِ آرَائِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } كَانَ أَشْيَاخُنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا كَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَنْ حَالِهِ كَالْحَمَّامِ وَبَدْءِ الزَّيْتُونِ وَالدَّارِ الَّتِي تَبْطُلُ مَنَافِعُهَا بِإِبْرَازِ أَقَلِّ السِّهَامِ مِنْهَا ؛ فَكَانَ ابْنُ كِنَانَةَ يَرَى ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَرْوِي عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُضَارَّةِ ؛ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُضَارَّةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { غَيْرَ مُضَارٍّ } وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِلْقِسْمَةِ ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ فِي التَّرِكَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا ؛ فَأَمَّا إبْرَازُ ذَلِكَ النَّصِيبِ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُولُ : قَدْ وَجَبَ لِي نَصِيبٌ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَمَكِّنُونِي مِنْهُ .
فَيَقُولُ لَهُ شَرِيكُهُ : أَمَّا تَمْكِينُكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَلَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ بَيْنِي وَبَيْنِكَ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ وَتَنْقِيصِ الْقِيمَةِ ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ .
وَالْأَظْهَرُ سُقُوطُ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُبْطِلُ الْمَنْفَعَةَ وَيَنْقُصُ الْقِيمَةَ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ؛ قَالَهُ سَعِيدٌ وَقَتَادَةُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ، وَالْمَعْنَى فِيهَا الْإِرْضَاخُ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إذَا كَانَ الْمَالُ وَافِرًا ، وَالِاعْتِذَارُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا ، وَيَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ بَيَانًا لِتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } وَأَنَّهُ فِي بَعْضِ الْوَرَثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ؛ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ .
وَهَذَا تَرْتِيبٌ بَدِيعٌ ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ ثُمَّ تَخْصِيصٌ ثُمَّ تَعْيِينٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ ، يُوصِي الْمَيِّتُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي نَقْلِ الْوَصِيَّةِ لَا مَعْنًى لَهَا .
وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَضْغَاثٌ وَآثَارٌ ضِعَافٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْوَرَثَةِ لِنَصِيبِهِمْ ، وَاسْتِحْبَابَ الْمُشَارَكَةِ لِمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُسْهِمَ لَهُمْ مِنْ التَّرِكَةِ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يُؤْنِسُهُمْ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا فِي التَّرِكَةِ وَمُشَارَكَةً فِي الْمِيرَاثِ لِأَحَدِ الْجِهَتَيْنِ مَعْلُومٌ وَلِلْآخَرِ مَجْهُولٌ ؛ وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ وَإِفْسَادٌ لِوَجْهِ التَّكْلِيفِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الصِّلَةُ ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّونَهُ لَتَنَازَعُوا مُنَازَعَةَ الْقَطِيعَةِ

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ التَّرْغِيبِ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْإِسْرَافِ الْمُضِرِّ بِالْوَرَثَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْمَيِّتِ عَنْ الْإِعْطَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْمَسَاكِينٍ وَالضُّعَفَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَيِّتِ عَنْ تَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْآيَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ ، فَذُكِّرُوا بِالنَّظَرِ فِي مَصْلَحَتِهِمْ وَالْعَمَلِ بِمَا كَانَ يُرْضِيهِمْ أَنْ يُعْمَلَ مَعَ ذُرِّيَّاتِهِمْ الضُّعَفَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ضَرَرٍ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ عَلَى ذُرِّيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ ، فَلَا يَقُولُ إلَّا مَا يُرِيدُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَلَهُ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الْأَحْكَامِ ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ : فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعِلْمُ ثَلَاثٌ : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ } .
وَكَانَ جُلَّ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعُظْمَ مُنَاظَرَتِهِمْ ، وَلَكِنَّ الْخُلُقَ ضَيَّعُوهُ ، وَانْتَقِلُوا مِنْهُ إلَى الْإِجَارَاتِ وَالسَّلَمِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّدْلِيسِ ، إمَّا لِدِينٍ نَاقِصٍ ، أَوْ عِلْمٍ قَاصِرٍ ، أَوْ غَرَضٍ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ظَاهِرٍ { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ الْفَرَائِضِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا تَبْهَت مُنْكَرِي الْقِيَاسِ وَتُخْزِي مُبْطِلِي النَّظَرِ فِي إلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ ، فَإِنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِهَا إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ إذْ النُّصُوصُ لَمْ تُسْتَوْفَ فِيهَا ، وَلَا أَحَاطَتْ بِنَوَازِلِهَا ، وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ الْفَرَائِضَ وَالْحَجَّ وَالطَّلَاقَ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ؟ وَقَالَ وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ : كُنْت أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ : مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ

غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا .
قَالَ مَالِكٌ : وَصَدَقَ .
وَقَدْ أَطَلْنَا فِيهَا النَّفَسَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّا نُشِيرُ إلَى نُكَتٍ تَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ ، وَفِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا ، وَعَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ ؟ : وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَوْتَى الْمَوْرُوثِينَ ، وَالْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ ، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْمَوْتَى فَلْيَعْلَمُوا الْمُسْتَحَقِّينَ لِمِيرَاثِهِمْ بَعْدَهُمْ فَلَا يُخَالِفُوهُ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ ؛ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : حَدِيثُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ : { عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي مَرَضٍ اشْتَدَّ بِي ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي ؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : فَالثُّلُثَانِ ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : فَالشَّطْرُ ؟ قَالَ : لَا .
الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ؛ إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
الثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا } .
الثَّالِثُ : مَا رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : " إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ ، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ لَكَانَ لَكِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ " .
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَرْءَ أَحَقُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ

أَحَدُ سَبَبَيْ زَوَالِهِ وَهُوَ الْمَرَضُ قَبْلَ وُجُودِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْمَوْتُ مُنِعَ مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ تَفْوِيتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ بِهِ ، فَعَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ إلَيْهِ ، وَوَصَّى بِهِ لِيُعَلِّمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ ؛ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى سَبَبَيْنِ بِأَحَدِ سَبَبَيْهِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فِي الْفِقْهِ ؛ لِجَوَازِ إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ صَحَّ سُقُوطُ الشُّفْعَةِ بِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَالِ قَبْلَ الْبَيْعِ .
وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِلْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ فَلْيَقْضُوا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ .
وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَكُونُوا بِهِ عَالِمِينَ ، وَلِمَنْ جَهِلَهُ مُبَيِّنِينَ ، وَعَلَى مَنْ خَالَفَهُ مُنْكِرِينَ ، وَهَذَا فَرْضٌ يَعُمُّ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ ، وَهُوَ فَنٌّ غَرِيبٌ مِنْ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمُخَاطَبِينَ ، فَافْهَمُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَاحْفَظُوهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الضُّعَفَاءَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَلَا الْجَوَارِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ وَرَدَّ قَوْلَهُمْ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدِينَ وَالْأَقْرِبَاءِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَ الْمَوَارِيثَ ، رَوَاهُ فِي الصَّحِيحِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، وَهُوَ مُقَارَبُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ ، رَوَى عَنْ { جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جِئْنَا امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَهِيَ جَدَّةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَزُرْنَاهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَعَرَّشَتْ لَنَا صَوْرًا فَقَعَدْنَا تَحْتَهُ ، وَذَبَحَتْ لَنَا شَاةً

وَعَلَّقَتْ لَنَا قِرْبَةً ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَتَحَدَّثُ إذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَحَدَّثْنَا ، ثُمَّ قَالَ لَنَا : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَتَحَدَّثْنَا ، فَقَالَ : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
قَالَ : فَرَأَيْتُهُ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ مِنْ سَعَفِ الصُّورِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّ شِئْتَ جَعَلْته عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا ، فَهَنِيئًا لَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ ، فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِطَعَامِهَا فَتَغَدَّيْنَا ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ ، فَقُمْنَا مَعَهُ مَا تَوَضَّأَ وَلَا أَحَدٌ مِنَّا ، غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِكَفِّهِ جَرْعًا مِنْ الْمَاءِ فَتَمَضْمَضَ بِهِنَّ مِنْ غَمَرِ الطَّعَامِ ؛ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِابْنَتَيْنِ لَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَاتَانِ بِنْتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَدْ اسْتَفَاءَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا وَمِيرَاثَهُمَا كُلَّهُ ، فَلَمْ يَدْعُ لَهُمَا مَالًا إلَّا أَخَذَهُ ؛ فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ لَا تَنْكِحَانِ أَبَدًا إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } الْآيَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُدْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا : أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ ، وَلَك الْبَاقِي } .
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ مَقْبُولٌ لِهَذَا الْإِسْنَادِ .
الثَّالِثُ : مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ { قُلْت : يَا

رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا تَرَى أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي ؟ فَنَزَلَتْ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } } رَدٌّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَإِبْطَالٌ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ فَائِدَةً ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مَسْكُوتًا عَنْهُ ؛ مُقَرًّا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا مُقَرًّا عَلَيْهِ لَمَا حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عَمِّ الصَّبِيَّتَيْنِ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إذَا مَضَتْ وَجَاءَ النَّسْخُ بَعْدَهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَلَا يُنْقَضُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ ظُلَامَةٌ وَقَعَتْ ، أَمَّا أَنَّ الَّذِي وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَأُخْرِجَتْ عَنْهَا أَهْلُ الْمَوَارِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فِي أَوْلَادِكُمْ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ أَدَم } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ كَانَ لِصُلْبِ الْمَيْتِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا .
وَيُقَالُ بَنُو تَمِيمٍ ؛ فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ ؛ فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : ذَلِكَ حَقِيقَةً فِي الْأَدْنَيْنَ مَجَازٌ فِي الْأَبْعَدَيْنِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَلُّدِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ فَقَدْ غَلَبَ مَجَازُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْأَدْنَيْنَ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبُعَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ ؛ فَيُقَالُ لَيْسَ بِوَلَدٍ ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمَا سَاغَ نَفْيَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدًا ، وَلَا يُسَمِّي بِهِ وَلَدَ الْأَعْيَانِ ، وَكَيْفَمَا

دَارَتْ الْحَالُ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمِيعِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : لَوْ حَبَسَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ لَانْتَقَلَ إلَى أَبْنَائِهِمْ ، وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً فَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا ؛ هَلْ تُنْقَلُ إلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَهُ حَفَدَةَ لَمْ يَحْنَثْ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي عُمُومِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْبَارِي ؟ فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ بِحَالٍ ، وَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ يَرْتَبِطُ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَبْسِ التَّعْقِيبِ ، فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الصَّدَقَةِ التَّمْلِيكُ ؛ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَدْنَى خَاصَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } فَدَخَلَ فِيهِ آبَاءُ الْآبَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } هَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ أَنَّ الذَّكَرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأُنْثَى أَخَذَ مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى ، وَأَخَذَتْ هِيَ نِصْفَ مَا يَأْخُذُ الذَّكَرُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا بِنَصٍّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُمْ يُحِيطُونَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا لَمَا كَانَ بَيَانًا لِسَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَاقْتَضَى الِاضْطِرَارُ إلَى بَيَانِ سِهَامِهِمْ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا ؛ فَإِذَا انْضَافَ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فَأَخَذَ سَهْمَهُ كَانَ الْبَاقِي أَيْضًا مَعْلُومًا ؛ فَيَتَعَيَّنُ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ ، وَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْعُمُومِ ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْأَبَوَيْنِ بِالسُّدُسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالزَّوْجَيْنِ بِالرُّبْعِ وَالثُّمُنِ لَهُمَا عَلَى تَفْصِيلِهِمَا ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ وَالْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فِي أَوْلَادِكُمْ } عَامٌّ فِي الْأَعْلَى مِنْهُمْ وَالْأَسْفَلِ ؛ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الرُّتْبَةِ أَخَذُوهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ حَجَبَ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى يَقُولُ : أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ ، وَالْأَسْفَلَ يَقُولُ : أَنَا ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا اسْتَفَلَّتْ دَرَجَتُهُ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ يُقْطَعُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى ذَكَرًا سَقَطَ الْأَسْفَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى أُنْثَى أَخَذَتْ الْأُنْثَى حَقَّهَا ، وَبَقِيَ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أُنْثَى أُعْطِيت الْعُلْيَا النِّصْفَ ، وَأُعْطِيَتْ السُّفْلَى السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّا نُقَدِّرُهُمَا بِنْتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ ، فَاشْتَرَكَتَا فِي الثُّلُثِ بِحُكْمِ الْبِنْتِيَّةِ ، وَتَفَاوَتَتَا فِي الْقِسْمَةِ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَة ؛

وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةُ جَاءَتْ السُّنَّةُ .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الثُّلُثَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَسْفَلُ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا ذَكَرٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مَعَهُ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إنْ كَانَ الذَّكَرُ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ بِإِزَائِهَا رَدَّ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا " ، مُرَاعِيًا فِي ذَلِكَ .
ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ شَيْئًا إلَّا الثُّلُثَيْنِ ؛ وَهَذَا سَاقِطٌ ، فَإِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي قَضَيْنَا فِيهِ بِاشْتِرَاكِ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا وَاشْتِرَاكِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ عَمَّتِهِ لَيْسَ حُكْمًا بِالسَّهْمِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ بِالتَّعْصِيبِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا مَعَهُ إذَا كَانَتَا بِإِزَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، وَهَذَا قَاطِعٌ جِدًّا .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّهُ لَوْ وَازَاهَا مَا رَدَّ عَلَيْهَا ، وَلَا شَارَكَتْهُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الظَّاهِرِ لَقِيلَ لَهُ : لَا حُجَّةَ لَكَ فِي هَذَا الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالسَّهْمِ ، وَهَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالتَّعْصِيبِ ؛ وَمَا يُؤْخَذُ بِالتَّعْصِيبِ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْمِ الْمَفْرُوضِ الْمُعَيَّنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ عَشْرَ بَنَاتٍ وَابْنًا وَاحِدًا ، لَأَخَذَتْ الْبَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الَّذِي يَجِبُ بِالسَّهْمِ ؛ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْفَرَائِضِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } وَهِيَ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ : فَإِنْ كُنَّ اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ لَانْقَطَعَ النِّزَاعُ ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْلُ هَكَذَا مُشْكِلًا وَبَيَّنَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ بِالنِّصْفِ وَحُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ بِالثُّلُثَيْنِ ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الْبِنْتَيْنِ أُشْكِلَتْ الْحَالُ ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : تُعْطَى الْبَنَاتُ النِّصْفَ ، كَمَا تُعْطَى الْوَاحِدَةُ ؛ إلْحَاقًا لِلْبِنْتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا زَادَ عَلَى الْبِنْتَيْنِ فَتَخْتَصُّ الزِّيَادَةُ بِتِلْكَ الْحَالِ .
الْجَوَابُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ مُبَيِّنًا حَالَ الْبِنْتَيْنِ بَيَانَهُ لِحَالِ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا ، وَلَكِنَّهُ سَاقَ الْأَمْرَ مَسَاقَ الْإِشْكَالِ ؛ لِتَتَبَيَّنَ دَرَجَةُ الْعَالِمِينَ ، وَتَرْتَفِعَ مَنْزِلَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَيِّ الْمَرْتَبَتَيْنِ [ فِي ] إلْحَاقِ الْبِنْتَيْنِ أَحَقُّ ؟ وَإِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ لَهَا مَعَ أَخِيهَا الثُّلُثُ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتِهَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ بِالسُّدُسِ لِبِنْتِ الِابْنِ ، وَالنِّصْفِ لِلْبِنْتِ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ } ، فَإِذَا كَانَ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ الثُّلُثَانِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتِهَا .
الثَّالِثُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالثُّلُثَيْنِ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ } كَمَا قَدَّمْنَا ،

وَهُوَ نَصٌّ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } أَيْ اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا .
الْخَامِسُ : أَنَّ النِّصْفَ سَهْمٌ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ؛ بَلْ شُرِعَ مُخْلَصًا لِلْوَاحِدَةِ ، بِخِلَافِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّهُ سَهْمُ الِاشْتِرَاكِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الثَّلَاثِ فِيهِ فَمَا فَوْقَهُنَّ ؛ فَدَخَلَتْ فِيهِ الِاثْنَتَانِ مَعَ الثُّلُثِ دُخُولَ الثَّلَاثِ مَعَ مَا فَوْقَهُنَّ .
السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وَقَالَ : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ } فَلَحِقَتْ الِابْنَتَانِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَحُمِلَتَا عَلَيْهِمَا ، وَلَحِقَتْ الْأَخَوَاتُ إذَا زِدْنَ عَلَى اثْنَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ وَحُمِلَتَا عَلَيْهِنَّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : كَمَا حَمَلْنَا الِابْنَ فِي الْإِحَاطَةِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ عَلَى الْأَخِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } وَهَذَا كُلُّهُ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَشْرُوعٌ ، وَالنَّصَّ قَلِيلٌ .
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ ؛ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُبِينُ الْمَقْصُودَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ عَلَا مِنْ الْآبَاءِ دُخُولَ مَنْ سَفُلَ مِنْ الْأَبْنَاءِ فِي قَوْلِهِ : { أَوْلَادِكُمْ } لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا مَثْنَى ، وَالْمَثْنَى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْجَمْعَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَالْأُمُّ الْعُلْيَا هِيَ الْجَدَّةُ ، وَلَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ ؛ فَخُرُوجُ الْجَدَّةِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَتَنَاوُلُهُ لِلْأَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْلَادِكُمْ } بَيَانَ الْعُمُومِ ، وَقَصَدَ هَاهُنَا بَيَانَ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْآبَاءِ وَهُمَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَتَفْصِيلُ فَرْضِهِمَا دُونَ الْعُمُومِ ؛ فَأَمَّا الْجَدُّ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَبًا ، وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ أَخْذًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ } وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَسَاقُهُ بَيَانُ التَّنْوِيعِ لَا بَيَانُ الْعُمُومِ ، وَمَقَاصِدُ الْأَلْفَاظِ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ .
وَاَلَّذِي نُحَقِّقُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَخَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْجَدِّ ؛ فَإِنَّ الْأَخَ يَقُولُ : أَنَا ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ ، وَالْجَدُّ يَقُولُ : أَنَا أَبُو أَبِي الْمَيِّتِ ، وَسَبَبُ الْبُنُوَّةِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الْأُبُوَّةُ ؛ فَكَيْف يُسْقِطُ الْأَضْعَفُ الْأَقْوَى ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ طُيُولِيَّةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ إيضَاحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ فَأَمَّا الْجَدَّةَ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ جَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقَالَ لَهَا : لَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا ؛

فَإِنْ وُجِدَ الْأَبُ وَالْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ وَالْجَدَّةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَوْلَادِ ، وَإِنْ عَدِمَا يَنْزِلُ الْأَبْعَدُ مَنْزِلَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : مَعْنَاهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أَخَذَتْ النِّصْفَ ، وَأَخَذَتْ الْأُمُّ السُّدُسَ ، وَأَخَذَ الْأَبُ الثُّلُثَ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ ، بَلْ يَأْخُذُ الْأَبُ السُّدُسَ سَهْمًا وَالسُّدُسَ الْآخَرَ تَعْصِيبًا ، وَهُوَ مَعْنًى آخَرُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْآيَةِ ، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { الثُّلُثُ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ ، وَفَاضَلَ بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِهِ فِي أَنْ جَعَلَ سَهْمَيْهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا يُدْلِيَانِ بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ ، فَاسْتَوَيَا مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ ؛ فَإِنْ عَدِمَ الْوَلَدُ فَضَلَ الْأَبُ الْأُمَّ بِالذُّكُورَةِ وَالنُّصْرَةِ وَوُجُوبِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ ، وَثَبَتَتْ الْأُمُّ عَلَى سَهْمٍ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا اجْتَمَعَ الْآبَاءُ وَالْأَوْلَادُ قَدَّمَ اللَّهُ الْأَوْلَادَ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ يُقَدِّمُ وَلَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ يَرَاهُ فَوْقَهُ وَيَكْتَسِبُ لَهُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : حَالُ حَفِيدِكَ مَعَ وَلَدِكِ كَحَالِكَ مَعَ وَلَدِكِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ ، مَعَ عَدِمَ الْأَوْلَادِ إلَّا الْأَبَوَانِ ؛ فَكَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ زِيَادَةَ الْوَاوِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَّرَ عَنْ ثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ أَسْقَطُوا الْإِخْوَةَ ، وَشَارَكَهُمْ الْأَبُ ، وَأَخَذَ حَظَّهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَنْ أُسْقِطُوا ، بَلْ أَوْلَى ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ بِالْأَبِ يُدْلِي فَيَقُولُ : أَنَا ابْنُ أَبِيهِ ، فَلَمَّا كَانَ وَاسِطَتُهُ وَسَبَبُهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ هُوَ الْأَبُ كَانَ سَبَبُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَمَانِعًا لَهُ ؛ فَيَكُونُ حَالُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا كَحَالِ الْوَالِدَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَيَجْتَمِعُ بِذَلِكَ لِلْأَبِ فَرْضَانِ : السَّهْمُ ، وَالتَّعْصِيبُ ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْحُكْمِ

ظَاهِرٌ فِي الْحِكْمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } الْمَعْنَى إنْ وُجِدَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْمِيرَاثِ فَهُمْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ ، بِخِلَافِ الِابْنِ الْكَافِرِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ ، وَعَاضَدَهُ ، وَبَسَطَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَهَكَذَا يَزْدَوِجُ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَا أَبَ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ .
قُلْنَا : هَذَا سَاقِطٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَبْطُلُ فَائِدَةُ الْعَطْفِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إبْطَالٌ لِفَائِدَةِ الْكَلَامِ مِنْ الْبَيَانِ ، فَإِنَّا كُنَّا نُعْطِي بِذَلِكَ الْأُمَّ السُّدُسَ ، وَمَا نَدْرِي مَا نَصْنَعُ بِبَاقِي الْمَالِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يُعْطِي لِلْإِخْوَةِ .
قُلْنَا : وَهُمْ مَنْ ؟ أَوْ كَيْفَ يُعْطِي لَهُمْ ؟ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُشْكَلًا غَيْرَ مُبَيَّنٍ وَلَا مُبِينٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ يَبْقَى قِسْمٌ مِنْ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ ، وَهُوَ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ فَاعْتِبَارُهُ بِالْبَيَانِ أَوْلَى ، وَمَا صَوَّرُوهُ مِنْ أُمٍّ وَإِخْوَةٍ قَدْ بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ } وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْكَلَامِ ، فَتَأَمَّلُوهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَبَيَّنَ هَاهُنَا فَائِدَتَانِ : إحْدَاهُمَا : حَجْبُ الْأُمِّ بِالْإِسْقَاطِ لَهُمْ .
الثَّانِي : حَجْبُ النُّقْصَانِ لِلْأُمِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } هَذَا قَوْلٌ

يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا لَا يَحْجُبَانِهَا ؛ وَغَرَضُهُ ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ خِلَافُ التَّثْنِيَةِ لَفْظًا وَصِيغَةً ، وَهَذِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّثْنِيَةِ .
وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ أَنْ يَخْفَى عَلَى حَبْرِ الْأُمَّةِ وَتُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ وَدَلِيلِ التَّأْوِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَالْأُخْرَى مَسْأَلَةُ الْعَوْلِ ؛ وَعَضَّدَ هَذَا الظَّاهِرَ بِأَنْ قَالَ : إنَّ الْأُمَّ أَخَذَتْ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ ، فَكَيْف يَسْقُطُ النَّصُّ بِمُحْتَمَلٍ .
وَهَذَا الْمَنْحَى مَائِلٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ .
وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ سَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ الْحَقُّ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْإِخْوَةِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ ؛ بَلْ قَدْ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : نَحْنُ فَعَلْنَا ، وَتُرِيدُ الْقَائِلُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } وَقَالَ : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ثُمَّ قَالَ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } وَقَالَ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وَقَالَ : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وَقَالَ : { بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ .
وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } يَعْنِي عَائِشَةَ ، وَقِيلَ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ .
وَقَالَ : { وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ } وَكَانَا اثْنَيْنِ كَمَا نُقِلَ فِي التَّفْسِيرِ .
وَقَالَ : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } وَهُمَا طَرَفَانِ .
وَقَالَ : { إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } وَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } وَكَانَ وَاحِدًا .
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ

فِي اللُّغَةِ سَائِغٌ ، لَكِنْ إذَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ؛ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ ؟ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } فَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ الْبِنْتَيْنِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَحَمَلُوا الْأَخَوَاتِ عَلَى الْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَكَانَ هَذَا نَظَرًا دَقِيقًا وَأَصْلًا عَظِيمًا فِي الِاعْتِبَارِ ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ ، وَأَرَادَ الْبَارِي بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ : إنَّ قَوْمَكَ حَجَبُوهَا يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا ، وَهُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ ، وَالْقَائِمُونَ لِذَلِكَ ؛ وَالْعَامِلُونَ بِهِ ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَبْقَى لِنَظَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَوَّلَ عَلَى اللُّغَةِ فَغَيْرُهُ مِنْ نَظَائِرِهِ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْرَفُ بِهَا ، وَإِنْ عَوَّلَ عَلَى الْمَعْنَى فَهُوَ لَنَا ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ كَالْبِنْتَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَيْسَ فِي الْحُكْمِ بِمَذْهَبِنَا خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِي اللُّغَةِ وَارِدًا لَفْظَ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْجَمِيعِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ فُصُولِ الْفَرَائِضِ ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْخَلْقِ ؛ وَيَسَّرَ لَهُمْ السَّبَبَ إلَى جَمْعِهِ بِوُجُوهٍ مُتْعَبَةٍ ، وَمَعَانٍ عَسِيرَةٍ ، وَرَكَّبَ فِي جِبِلَّاتِهِمْ الْإِكْثَارَ مِنْهُ وَالزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ الْكَافِي الْمُبَلِّغِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ تَارِكُهُ بِالْمَوْتِ يَقِينًا ، وَمُخَلِّفُهُ لِغَيْرِهِ ، فَمِنْ رِفْقِ الْخَالِقِ بِالْخَلْقِ صَرْفُهُ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا ؛ إبْقَاءً عَلَى الْعَبْدِ وَتَخْفِيفًا مِنْ حَسْرَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَفَنِهِ وَجِهَازِهِ إلَى قَبْرِهِ .
الثَّانِي : مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ مِنْ دَيْنِهِ .
الثَّالِثُ : مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ خَيْرٍ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا فَاتَ فِي أَيَّامِ مُهْلَتِهِ .
الرَّابِعُ : مَا يَصِيرُ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ الدَّانِيَةِ وَأَنْسَابِهِ الْمُشْتَبِكَةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا قَدِمَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ الْمَاسَةَ فِي الْحَالِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى دَيْنِهِ ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ لَا سَبِيلَ لِقَرَابَتِهِ إلَى قُوتِهِ وَلِبَاسِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ ، وَفَرْضُ الدَّيْنِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ .
فَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْمَالِ فَفِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِيَالَةٌ دِينِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ جَمِيعَهُ لَفَاتَهُ بَابٌ مِنْ الْبِرِّ عَظِيمٌ ، وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ لَمَا أَبْقَى لِوَرَثَتِهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْهُ شَيْئًا لِأَكْثَرِ الْوَارِثِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ ؛ فَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ الْمَالَ وَأَعْطَى الْخَلْقَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ ، وَأَبْقَى سَائِرَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ ، كَمَا قَالَ


أ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1 وج2. كتاب : الإرشاد في معرفة علماء الحديث المؤلف : الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي القزويني أبو يعلى .

    ج1 وج2. كتاب : الإرشاد في معرفة علماء الحديث المؤلف : الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي القزويني أبو يعلى . ج1 وج2. كتاب : الإرشاد في م...